مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د. محمد البندوري*  وأنا أكتب هذه القراءة حبس عني الدمع رؤية ما أكتب، وقلبي يسكب …

الفنان الكبير هشام بنجابي.. والتجديد الفني في العالم العربي

منذ 4 أشهر

404

1

د. محمد البندوري* 

وأنا أكتب هذه القراءة حبس عني الدمع رؤية ما أكتب، وقلبي يسكب دمًا، لفراق أخي الحبيب هشام بنجابي، الإنسان بمعاني الإنسانية، الأخلاق الحميدة، الحياء، التواضع، الإبداع، الفنان بكل المقاييس.. فقدانه خلّف فراغًا فنيًّا وثقافيًّا في الساحة العربية. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

اقترنت التجربة التشكيلية للفنان التشكيلي هشام بنجابي بسياق تعبيري شخوصي، يمتد في الاتجاه الواقعي بكل حيثياته الفنية والجمالية إلى أبعد الحدود، فهو أحد الوجوه المألوفة في العالم العربي التي تشتغل على هذا الأسلوب الواقعي، وعلى الطبيعة بكل تفاصيلها وجمالياتها، فهو يُعبّر بمفردات لغته التشكيلية الخصبة بنماذج شخوصية وأشكال واقعية، من نسيج مجاله المنمق، وإبداعه الفريد المخالف للمألوف، اعتمادًا على فضاء اختزل فيه المساحة ومرّر من خلاله منجزه التشكيلي وفق طقوس تعبيرية دائمة البناء والتشكل، بإضفاء عناصر جديدة مستمرة، بقدر ما جسّده من الأشكال والبورتريهات، وفق مسالك فنية حمّالة لأوجه من الرمزية والعلامات اللونية ذات التعددية المتناسقة، والتوظيفات الشكلية التعبيرية، في خامات كبيرة ومتوسطة، وهي تبرز قدرته التحكمية في المادة التشكيلية بتقنيات وقوامة عالية في الإنجاز؛ لأن تكوين أعماله يخضع لوقف واقعي بصري يصل بالمادة التشكيلية إلى قيمة في ذاتها، ليعيد لها البناء الجمالي بصيغ فنية معاصرة، وهي معالجة فنية تُقدم المنجز التشكيلي السعودي قيمةً جمالية برمزيات متفاوتة في التعبير، لارتباطها بالقيم الحضارية والجمالية والفنية.

وهو ما يجعل أعماله تمتد في أفق أوسع، يستخلص منها القارئ أكثر من دلالة، فتناغم المسامات، واختزال المساحات، والاعتناء بقيم السطح، واستهداف الملمس الفني بالصيغ الجمالية، وتنظيم مراحل التكوين، وإحداث تناغم بين مختلف المفردات الفنية والعناصر التشكيلية، وتشكيل بؤر من العلاقات الناشئة في قلب التكوينات الفنية داخل أعماله والاستخدامات التحولية، وبسط نوع من الانسجام بين الكتل والأشكال والرموز والعلامات، كل ذلك يُشكل خروجا صريحًا عن المألوف، وصيغة جديدة لعصرنة الأسلوب التشكيلي السعودي والعربي.

وبذلك فقد غاص الفنان الكبير هشام بنجابي في عوالم فنية جديدة ليُغير المفاهيم السائدة للتشكيل الواقعي، وفق رؤيته التي خضعت لخبرة عالم، ووفق فلسفته التشكيلية، ووفق رؤاه الفنية وتصوراته الجمالية، ليتخذ من الواقع مشروعًا جديدًا أكثر أهمية في المنظومة التشكيلية العالمية المعاصرة، وإنه في الآن نفسه قد وازى بين مقومات الخطاب الجمالي وفق رؤيته الخاصة، وعملية تشكُّل البناء الفني، قياسًا بأهمية الاتجاه الواقعي في تحديد المكونات الأسلوبية ذات القيمة الفنية التي تكتنز الكثير من الدلالات البصرية التي تحتمل التأويلات الجمالية المتعددة بمعزل عن التكديس وسد المنافذ. ينحي بأعماله إلى الاختزال وتقديم المعالجات الفنية لقيم السطح لإعادة قراءة أعماله برؤية جمالية معاصرة، ويضيف مسلكًا جديدًا على مستوى الأفكار، وعلى مستوى الشكل والتقنيات الجديدة.

وهو ما خوّل له نسج مجموعة من العلاقات بين التشكيل العربي بما يكتنزه من مفردات وعناصر شكلية متعددة، وبين المنطق الجمالي في صورة فنية عالمية معاصرة، وبجهاز مفاهيمي ودلالات قوية. إنها الرؤى الفكرية التي تَمتع بها الفنان هشام بنجابي في نطاق بَصَم فيه إشكاليات جديدة تتجه نحو المنطق الجمالي المعاصر للواقعية. وإحالة واضحة إلى أن ريشة المبدع اقتنصت التوظيف الجمالي للألوان واختزال المساحات بمنطق فني وتأثير بصري مباشر، وبنوع من الوجد والعشق الذي يستهدف الكشف عن مخفيات ما وراء المساحات المختزلة والكشف عن الإيقاعات الخفية وعن كيفية ارتفاعها وانخفاضها وأين تتستر الخصائص الجمالية الواقعية الأخرى التي طُويت في قلب المساحة، وهي ترتبط لا محالة بعملية التكوين والتناسب والإيقاع. إنها بلورة جديدة من المبدع القدير هشام بنجابي لرؤيته الجمالية وتقنياته الخاصة التي عَنِيتْ بالمساحة وبالشكل وبتصبيب الألوان بنوع من العناية بقيم السطح، حيث ناغَمَ في أعماله بين المساحة والشكل والملمس الفني ومقومات الفن التشكيلي المعاصر ليخصص حيزًا مهمًّا للواقعية العربية في الفن المعاصر، ويحقق أشكالًا جديدة أطلقَ من خلالها سراح الواقع وأبعدَهُ عن كل القيود، ونوّعَ في الشكل وفي التموقع اللوني والشخوصات والطبيعة وفق رؤيته الفنية التي رامت التوازن الإبداعي والانسجام والتوليف بين كل المفردات الفنية والتشكيلية. وهو ما ينم عن بلاغة الفنان وقيمته الفنية، وقدرته الإبداعية، وتجربته التي وظفها في التفاعل مع الأشكال التعبيرية الواقعية واللونية المعاصرة، وينم كذلك عمّا حمَلَهُ من خصائص تقنية متفردة، فقد اشتغل عن وعي، وله إدراكات فنية وجمالية تخص المساحة والشكل واللون، ما سمَح له بإخراج المادة الفنية بأبعاد جمالية حقيقية، وبإبداع متفرد، يستهدف الواقعية بكل تفاصيلها الجديدة في نسق منطقي بديع.

إن أعماله قد تحققت فيها اللغة الواقعية الجديدة، وتحققت فيها المعالجات الفنية الذاتية، وتحققت فيها القيم الأسلوبية والجمالية المعاصرة، وتحققت فيها لغة تحرر الشكل من القيود. وبذلك يتجاوز ذاك الانتماء الجمعي للاتجاه الواقعي في إطار قيمته الجمالية، والرؤية الجماعية لمعنى جمال الواقع إلى القيمة الفردية الخاصة بكثير من الدلالات البصرية التي تحدد مجموعة من المقومات ذات القيمة العالية في المشهد الحضاري العربي والعالمي وذلك بإخراج المادة التشكيلية السعودية والعربية من قيمتها الكلاسيكية المستهلكة إلى تحوّل جديد بمنطق متجدد، وبطرق مغايرة في بنيتها اللغوية وطاقاتها التي تخلخل البؤر الجمالية القديمة وتستهدف المنطق الجمالي المعاصر، وهو ما يُنتج تنوعًا في تقنية الاستخدام الشخوصي والبورتريه والتأثير في اللوحة الواقعية المعاصرة الشيء الذي يطرح عددًا من الدلالات، ويشكل حزمة من التأويلات الفنية والجمالية، وإن كل هذه المُتناولات تدخل ضمن المنطق الجمالي الذي يشكل قيمة أساسية في أعمال الفنان الكبير هشام بنجابي الذي تمتّع بحضوره القوي ضمن تموقعات الفن التشكيلي العالمي المعاصر.

فقد شكلت أعماله لبنة أساسية للفحص والدراسة من طرف عدد من الباحثين لما تحتويه من جِدّة فنية، وتقنية عالية، ومرامي تشكيلية جديدة لما خَصّها به صاحبها من تقنيات جديدة اخترقت النسق التشكيلي الواقعي بنماذج فراغية، وبِبُعد رُؤيوي متفرد، يلامس الحداثة وعوالمها الإبداعية الجديدة. وبذلك فقد أسّس الفنان هشام بنجابي مستحدثات تقنية، وأشكالًا واقعية وجمالية، وصيغًا فنية من خلال تحرير الواقع الفني واختزال المساحة بطرق فنية جديدة، ووفق أنساق فنية متناغمة جعلت للتشكيل السعودي والعربي شخصية فنية جديدة، حيث فصح عن مشروعه الذاتي، في نطاق من العصرنة والتجديد الذي فسح له المجال واسعًا ليظل ضمن الصفوة الفنية العالمية المعاصرة. 

والفنان هشام بنجابي قد استقى مادته التشكيلية من الواقع العربي عامة، فأخضعها لمسالك فنية متنوعة، ولأسلوب تشكيلي واقعي يتميز بمقومات وتفاعليات وجماليات مختلفة، سواء على مستوى البناء الفضائي أو على مستوى التقنيات العالية الموظفة، أو على مستوى الاستعمالات المضامينية والجهاز المفاهيمي بكل مقوماته، فأعماله تتبدى وصفًا فنيًّا وجماليًّا يُعبّر عن معان فلسفية وذهنية، فهو قد صنع في منجزه التشكيلي الممتد لعقود خلت؛ شخوصات تعبيرية كثيرة، وصاغها في ألوان مختلفة، وأردفها بأخرى من جنسها لينسج منها المادة التعبيرية، ثم شكّل منها مفردات جمالية ذات دلالات معينة، فعَمد إلى روابط علائقية تتراءى بين العلامات والألوان والمادة التعبيرية، ليلجأ من خلال عملية البناء الى إنتاج توليف بين مختلف العناصر المكونة لأعماله، ويفصح عن التراكمات الرمزية، والأشكال والدلالات العميقة، والعلامات الأيقونية، التي تنبثق أساسًا من الأشكال والألوان المحادية لما شخّصه من الواقع والطبيعة، فأصَّلَ بذلك لفلسفة قيمية لا تزال تستجيب لضرورات العمل التعبيري الواقعي المعاصر الذي يتفاعل مع الثقافة التشكيلية التفاعلية. وفي سياق آخر؛ فقد شكل البورتريه بمختلف عناصره ومفرداته التعبيرية أحد أهم الأساليب التشكيلية الواقعية التي استند عليها الفنان التشكيلي العالمي هشام بنجابي، فهو قد بنى فضاءات أعماله باعتماد البورتريه والشخوصات المختلفة باعتبارها مادة واقعية، ثم حولها للتعبير وفق معرفة تشكيلية وتصورات فنية فأنتج منها دلالات ومعاني متنوعة، وقد تحولت في أحايين كثيرة إلى أيقونات، ليفصح عن كل ما تختزنه دواخله من هواجس وتأثرات، بتصورات ورؤى متعددة المعاني، جسّدها بطرق فنية وأسلوب معاصر خارج عن المعتاد، وبفنية تشكيلية عالية، وتقنيات فائقة، وبعلامات لونية، وأشكال تعبيرية فصيحة، تتوقف على مناحي قيمية وجمالية ساحرة. وكلها تعبيرات جمالية قد نبعت بصدق من نفسية المبدع هشام بنجابي بعد أن نسَجها إلهامه واجتهاداته في قوالب تعبيرية رائدة، تدليلًا على انغماسه في الفن التشكيلي المعاصر بحِرَفية كبيرة، وموهبة ذاتية فُضلى، ومهارات عالية، ومؤهلات فائقة، وقدرات تشكيلية رائقة، وتقنيات معاصرة غاية في البداعة، وكفاءة مهنية قوية، ودقة أدائية بديعة، وعناية جمالية وتوظيف تقني محكم. 

وفي السياق النقدي؛ نجد أن خاصيات التعدد العلاماتي والإيحائي وكل ما رَمز به في منجزه التشكيلي، قد أحدث حركات تقنية وجمالية خَلخلَت السكون الفني العربي، وقامت بتغيير الشكل التعبيري الذي يروم تعددية الدلالات والقراءات، فهو قد بلور العملية الإبداعية العربية وفق خاصيات جديدة، وأساليب معاصرة في التعبير، رامت الإفصاح عن معجم دلالي يجول بالقارئ في عمق الصورة الواقعية بصيغ إشكالية جمالية وفنية متعددة، أثّثَ بها مجموعة من الجدليات وفق مجموعة أخرى من المفردات والعناصر والعلامات المتوازنة فيما بينها، وهو بذلك قد منح الفن السعودي والعربي حيزًا كبيرًا من الحرية في التعبير ونوعًا من التلقائية، وحَدّ من الأشكال الغامضة بدرجة كبيرة، والتي هي في جوهرها أدوات ظلت غامضة في الأعمال التشكيلية العربية وفي نظام الفضاء التعبيري وفي الأنساق الدلالية، التي كانت في غالب الأعمال التشكيلية العربية لا تتلاءم ولا تنسجم فيما بينها، لكن الفنان الكبير هشام بنجابي قد غيّر هذا الوضع السائد في الثقافة التشكيلية العربية وترجمه وفق تصوراته وهواجسه وأحاسيسه وانفعالاته الداخلية، إلى بُعد تشكيلي آخر، أفصح عنه وفق مفارقات تعبيرية وجمالية. فغيّر مختلفًا عمليًّا بتوظيف الألوان والأشكال وكل العناصر المكونة للأعمال الفنية العربية، وربط بينها باستخدامات فنية تحولية فائقة، وهو ما اعتبره أغلب النقاد العرب تجاوزًا للمألوف، ونموذجًا جديدًا لعصرنة الأسلوب الفني العربي. فقد قاد هذا المنجز النقدي باللوحة التشكيلية وبالعمل الفني التطبيقي؛ إلى عوالم تقنية جديدة وجهت الخطاب التشكيلي العربي نحو التجديد، ووجهت الطريقة التعبيرية نحو استعمالات تقنية معاصرة خَصّت تحديدًا: صناعة الأشكال وتوظيف الألوان، وكيفيات استعمال الرمزية، واختزال المساحات بمنظور تشكيلي جديد، وإرداف اللون على اللون وفق رؤية جديدة، وصنع الفراغ وفق تشكّل معاصر، وتثبيت مقومات البورتريه بفنيات مستحدثة، والتفاعل مع الطبيعة وفق مسلك إبداعي متجدد.  

 وبتغييره للوضع التشكيلي السائد؛ أكسب التشكيل العربي قيمة في الفن التشكيلي العالمي المعاصر. وهو الفنان الذي خبَر التشكيل العالمي، ومارسه لعقود، وهو الخبير بخبايا التشكيل العربي الذي استطاع بخبرته العالمة أن يقارب أشكال أعماله الفنية بالمادة البصرية التي تشكلها عين القارئ، لأن واقعية أعماله الإبداعية قد جعلت من الإيحاءات والرمزية المنبثقة من الواقع دلالات أخرى حية، في نطاق موضوعات تتوافر فيها الرؤية الموضوعية للحياة والطبيعة والشخوصات بكل مقوماتها وتفاصيلها وتجلياتها وجمالياتها، وفق نسيج لوني ورمزي وعلاماتي تم توظيفه وفق أبعاد وقيم، بطرق فنية توخى من خلالها بسط الصيغ الجمالية؛ ما جعل من منظور أعماله ككل نطاقًا تعبيريًّا معاصرًا، بسياقات مختلفة انعكست إيجابًا على الثقافة التشكيلية العربية عمومًا، بأبعاد حقيقية واقعية ملموسة، أبرزت المادة التشكيلية السعودية والعربية في شكل وجودي، وفي رونق وجمال فائق، فتجربته الفنية الموفقة، وخبرته الكبيرة في مجال التشكيل جعلته رائدًا في الفن التشكيلي. لأن سحرية الفن التشخيصي والفن الواقعي، تعتمد الموهبة الفنية والتجربة والخبرة والتقنيات المعاصرة، لتأليف عوالم تشكيلية تمنح القارئ العربي والغربي إحساسًا جديدًا، وشعورًا قيميًّا ونظرة جمالية فاتنة. استجابة للضرورات الجديدة. إنها أبعاد بائنة توافر تبشكل قوي في تجربة الفنان الرائد الكوني هشام بنجابي. إنه المتفاعل الجريء مع كل مقومات المنظومة التشكيلية العالمية، ومع كل المواد التعبيرية الراقية، ومع الألوان التشكيلية المتخصصة، قد أنتج لديه أسلوبًا تعبيريًّا معاصرًا، ينبني على قاعدة تشكيلية معاصرة، باختياراته وتوجهاته المباشرة، التي استشرفت العالم التشكيلي الباسم. بأسلوبه الخاص الرائد الخصب الذي احتوى مجموعة من المعارف التشكيلية والمعالم الفنية والذوقية التي تندرج ضمن نسيج ثقافي واجتماعي وفكري، ورصيد معرفي تشكيلي، ما زكّى حضوره المائز في الساحة التشكيلية العالمية. لقد حمل طيلة مسيرته التشكيلية الموفقة خصائص فنية متفردة جديرة بالمتابعة النقدية الجادة، لأنه استلهم من الفن التشكيلي العالمي كل مكوناته ومفرداته وعناصره ومراميه الإبداعية المتطورة، والجماليات التشكيلية، وكل الأساليب التي تنبض بالحياة والتطور، وتهدف إلى إنتاج ودعم الفن الراقي الصادق. وهو ما جعله يتربع بين صفوة الفن التشكيلي العالمي، وجعل كذلك للفن التشكيلي السعودي والعربي مكانة في الساحة التشكيلية الدولية.

 

*فنان تشكيلي_المغرب 

التعليقات

  1. يقول Salwa Al qurashi:

    جمال في المقال واللوحه الفنية 👌

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود