الأكثر مشاهدة

إعداد_د. عائشة العتيق_محمد مهدلي “العتيق“، عندما نسمع هذه الكلمة يتب …

الأحياء العتيقة والإنتاج الثقافي.. بين الأثر والإثراء

منذ 4 أشهر

946

0

إعداد_د. عائشة العتيق_محمد مهدلي

العتيق، عندما نسمع هذه الكلمة يتبادر إلى أذهاننا مصطلح القدم، لقوله تعالى: (ليطوفوا بالبيت العتيق) فالبيت العتيق هو القديم، وسميت الكعبة بذلك لقدمها. وعندما ترتبط الكلمة بالأحياء ومفردها حي، تعود بنا الذاكرة إلى الأحياء القديمة التي حتى لو لم يعاصرها البعض منا، فلابد أن وصفها قد مر عليه في مسلسل ما، أو رواية، أو قصيدة. وقد تكون الأحياء العتيقة قد تلاشت ولم تعد موجودة على أرض الواقع، لكنها ما زالت كامنة في ذاكرة الآباء والأجداد، ولا بد من أن تنساب إلى الذاكرة ما بين فينة وأخرى، فتظهر لنا تلك البيوت البسيطة بما تحتويه من دفء وحنان، نستشعره بين ثنايا أحاديث أجدادنا وآبائناولقد اهتمت جميع الفنون الأدبية بوصف المكان سواء في الماضي أو الحاضر، إلا أن الرواية تعد أكثر الفنون الأدبية تعبيرًا عن المكان، بالتالي فهي من أكثر الفنون التي  اهتمت بوصف الأحياء العتيقة، وصفاً نلمحه بين أسطر الرواية بل إن هناك روايات يحمل عنوانها مسميات أحياء قديمة.  

وفي هذا العدد، تحسست فرقد “الأحياء العتيقة في الإنتاج الثقافي؛ لتقف على مدى تأثير وإثراء الأحياء العتيقة على المبدعين، وانعكاسها على الفنون بصفة عامة، من خلال طرح عدد من المحاور على نخبة من الأدباء:

كيف تقيم ارتباط الأحياء العتيقة بالذاكرة، وكيف يتم تسخير ذلك في صناعة  الإبداع الثقافي؟

ما الفنون الأدبية التي تضع تلك الأحياء كعنوان للكثير من التفاصيل المتعلقة بالإنتاج؟

ما نوع الأثر الذي تُحدثه تلك الأحياء في ذاكرة المتلقي، وكيف يستعين بها المؤلف في صناعة إنتاج أدبي مذهل؟

هل ترى أن هناك تراجعًا لهذا الحضور العتيق في الإنتاج الثقافي نتيجة الثورة التقنية وتغير صورة تلك المواقع في الحاضر؟ 

*العتيق قد يتلاشى  مع جيل التقنية المنعزل 

الأحياء العتيقة هي تأثير زمكاني على عقل ووجدان الفرد، من هذا المنطلق يبدأ المفكر والأديب السعودي حسن مشهور  مداخلته بقوله:

على امتداد التاريخ قد دون معظم الكتاب ما يفيد بأن هناك ارتباطية حاضرة في العقل الفاعل للإنسان يأتلف فيها المكان مع الزمان والإنسان. وهذه التلازمية “الزمكانية”، الإنسانية، تبقى حاضرة في عقل ووجدان الفرد وتنعكس عبر امتداديته العمرية في أحاديثه مع من يجلس إليهم أو في كتاباته إن كان مشتغلًا بنوع من الصنعة الأدبية الكتابية.

    وربما أن الكاتب الذي يمتاز بالغالب بوجدان شفاف، وإحساس مرهف، وذائقة أدبية، ومخيال شعري، وفوق ذلك موهبة الصنعة الأدبية بغض النظر عن نوعها، قد يكون هو الأقدر على تصوير تلك الارتباطية الشرطية بين الإنسان والمكان، والتي تترجم أدبيًا على شاكلة كتابات يكون الحنين إلى الماضي فيها حاضرًا وبشكلٍ فاعل.

  ولكون الأدب هو ليس فقط مرآة الإنسان، وإنما هو ذاكرة الأمة ومرآتها التي تعكس مايعتلج داخل مكونها البشري من تفاعلات نفسية ومشاعر وجدانية، لذا فإن أغلب الفنون الأدبية تكون قادرة على وضع تلك الأحياء ليس فقط كعنوان للكثير من التفاصيل المتعلقة بالإنتاج الفني الأدبي، ولكن الأمر يتعدى العنوان ليطال المحتوى البنيوي للنص الأدبي الذي يكون زاخرًا بالعديد من التفاصيل التي تتعاطى مع العديد من مفصليات الحي أو حتى البلدة أو القرية، وقبل ذلك ربما تأتي المدينة لكن في صورتها الماضوية.

 إن الحي القديم الذي ولد وتربى فيه الكاتب المبدع وعاش فيه أجمل أيام الصبا، ودون بذاكرته وصور بعينه النافذة تفاصيل هذا الحي، وتفاعل قاطنيه اليومي مع بعضهم البعض، فبعد أعوام عديدة لابد أن تطل ذكرى هذا الحي وأبرز تفصيلات التفاعلات اليومية لمكونه البنيوي البشري، بين فينة وأخرى من ذاكرة هذا المبدع خاصةً إذ قدر له أن يعود لزيارة أطلال هذا الحي أو أن يسترجع مع بعض أصدقاء الصبا ذكريات عابرة قد جمعتهم في حيهم الذي تربوا فيه وعاشوا الكثير من تفاصيل صباهم في طرقاته وجمعتهم جنباته. إلا إن الكاتب المبدع ربما قد يتجاوز مجرد الحضور العابر في الذاكرة لهذا الحي العتيق وذكراه التي يعايشها أغلب أصدقاء الصبا، ليتمثل الأمر لديه في تدوين ذلك في أحد القوالب الأدبية.   وهذا الأمر الذي يتمثل وصفيًا في مسمى الحنين إلى الماضي أو نوستالجيا الزمن الجميل، قد استعان به العديد من الكتاب في العالم، ومنهم كتاب الداخل السعودي في كتاباتهم، وإنتاجهم الأدبي الذي كان على شاكلة رواية أدبية أو مجموعة قصصية. ونجد من ذلك ثلاثية الكاتب السعودي تركي الحمد التي حملت اسم “أطياف الأزقة المهجورة”، التي كان لحي “العدامة” في مدينة الدمام، وحي “الشميسي” في مدينة الرياض حضورًا ملفتًا في تفاعلات النص الروائي، وتمفصلات الحبكة الروائية هذه.

    وكذلك المجموعة القصصية التي كتبها سعيد السريحي، وحملت اسم أحد أحياء مدينة جدة كعتبةٍ عنوانية لها، وأعني به “الرويس”، والتي تجسد فيها ارتباط الأحياء العتيقة بالذاكرة، حين قال السريحيفي بعضٍ من تفصيلات هذا العمل القصصي: “على الأفق الشمالي لجدة كانت تلوح بيوت الرويس… تلك التي آوى إليها آباؤنا حيث ألقت بهم أقدارهم… أكواخ من القش وصندوقات من الخشب وبضع بيوت من الطين والحجر…”.

   وعند تأمل تلك النوستالجيا المكانية الجميلة  وتجريب تقييم مدى حضورها مرحليًا في الكتابة الإبداعية، خاصة في ظل ثورة تقنيات الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، فإن الأمر سيشكل للفرد من أمثالي من المشتغلين بصنعة الأدب وممن يحملون في عقلهم الفاعل الهم الكتابي وتفاعلاته، سيشكل الأمر لهم في تقديري صدمةً فكرية وحيرةً نفسية. إذ إن انكباب الجيل الصاعد من شبيبتنا على برمجيات ووسائط وبرامج التواصل الاجتماعي، قد قارب أن يكون أشبه ما يكون بنوعٍ من الإدمان الإلكتروني، بحيث قد قارب أن يفصلهم حتى عن مجتمعهم الأسري ومحيطهم العائلي القريب، ناهيك عن الأحياء التي تربوا فيها. وإذا جمعنا إلى ذلك تلك المدنية وحالة التطور التي طالت وجه الأحياء القديمة ونالت حتى القرى والهجر الصغيرة بحيث حولتها إلى ما يشبه مدينة حديثة تقدمية، فسندرك حينها بأن بواعث الحنين للأحياء القديمة ونوستالجيا أيام الصبا البريئة، والحميمة التي عشناها وعاشها غيرنا في أحيائنا القديمة، هي في طريقها ليس فقط للتلاشي، وإنما قد أضحت أهميتها تشكل لهذا الجيل التقني الذي يتملكه شغف جارف لتطبيقات التكنولوجيا الرقمية المتسارعة والمتجددة بين ليلة وضحاها، أشبه ما يكون بومضات عابرة قد تطرق منعرجات ذاكرته الوقتية، إذا ما مر بقرب تجريد مكاني مرتبط بصغره أو مرحلة من مراحل صباه، إلا إن هذا الطارق سرعان ما يتلاشى في تقديري بمجرد انكبابه على هاتفه المحمول والغوص في بحر وسائطه الإلكترونية وتطبيقاته الرقمية ومواقع التواصل فيه. ولكن سأكون كعادتي متفائلًا وأقول بأنني لا أزال أحمل أملًا، بحيث أعتقد بأن الشخص الذي يمتلك موهبة الكتابة والحس الأدبي الأخاذ، حتى وإن كان من جيل هذه الثورية الرقمية، فإنه بمرور الزمن وعند وصوله لمرحلة عمرية بعينها يكون قد تجاوز فيها مراحل الشباب، وذلك حين ولوجه لعقده السادس وما بعده، فإن نوستالجيا الزمن الجميل المرتبط بمراتع صباه، قد تعود إليه في مراحل خلوته التي يتخلص فيها من تأثير الرقمية الإلكترونية عليه، وهو الأمر الذي لن يشكل مفاجأة للمتلقي في تقديري إن وجد بأن هناك عملًا إبداعيًا قد تناول الأحياء العتيقة، قد تولد عن فكر هذا الكاتب في خلوته “اللارقمية”، وإن كان هذا الأمر سيبقى لي مجرد أمل.

 *يستخدم الإنسان  الفن للتعبير عن ذاته

وتشاركنا الكاتبة والباحثة العمانية، الأستاذة منى سالم جعبوب حوارنا بقولها:

الأحياء العتيقة جزء جوهري أصيل من الذاكرة الجمعية للمجتمعات، ومن المسلم به اللاواعي دون ذاكرة تتكئ عليها منظومة القيم والمفاهيم والعمل الأدبي، لذا فهي مادة خصبة للثقافة؛ لأنها جزء من الإرث الثقافي المشترك، ومكون ثقافي مادي ومعنوي، لا غنى عنه. فهي بما لا يدع مجالًا للشك ذات ارتباط عميق بالثقافة والموروث، والإبداع الأدبي.

بيد أننا نجد أن تسخير ذلك في الإنتاج الثقافي أو حتى السياحي ضعيف جدًا في أوطاننا، وهنا أعطيك مثالًا: لقد قطعت في زيارة لماليزيا سفرًا بالطائرة من العاصمة كوالالمبور إلى لنكاوي لزيارة ضريح العذراء ماهسوري التي اتهمت بالزنا ورجمت حية، ثم اُكتشفت بعد ذلك براءتها، وهي من ذاكرة من الأحياء الشعبية البسيطة، وعلى هذه الذاكرة قامت فنون وأشعار، وكنا نحن الواقفين على قبرها في حي ناءٍ في جزيرة بشرق أسيا من جميع قارات العالم، حيث هنا استثمرت ذاكرة الأحياء الشعبية، أيضًا هناك عدد كبير من الروايات، والأشعار، الرقصات العالمية، لكننا ما زلنا لم ننجح في تسليط الضوء بعد على هذا البعد بشكل يستقطب الآخرين ويحفز الإبداع.

الإنسان بطبيعته عاشق للفن، ويستخدم الفن للتعبير عن ذاته وللتسلية، فهو كما يعرفه بيكاسو “الفن غسل غبار الحياة اليومية عن حياتنا وقبل الثورة التكنولوجية كانت الأحياء تمارس الفنون الشعبية بشكل جماعي، بل إن في أغلب بلادنا العربية ارتبطت فنون معينة بأحياء بعينها، ومنها انتشرت شيئًا فشيئًا، لدينا مثلًا  فن بن شمسة ارتبط بحي من أحياء مدينة مرباط الساحلية في ظفار جنوب عمان، كذلك فن البرعة ارتبط بمدينة صور ثم انتشرت.

وعندما نربط المادة الثقافة والأدبية بالمحسوس والمشاهد، تكون أقرب للمتلقي، ولا يمكن حصر فنون بعينها إذا كنا سوف نتحدث على وجه العموم، ولن نتناول حيًّا بعينه، لكن في الغالب هي مرتبطة بالمغنى وبالإيقاع الفني، والفنون الشعبية الراقصة، وإن كان هناك مناطق معينة وبالتحديد في جنوب السعودية، ارتبطت بفنون مزج الألوان ورسم الأشكال بها، حيث مثلت هوية فنية، وثقافية لأحياء الجنوب.

الأحياء مادة خصبة للذاكرة، والأخذ منها يجعلها تتدفق بغزارة أكثر، ونرى هذا النجاح في مجال الأعمال الأدبية، والدرامية مثل: مسلسل ليالي الحلمية أو سوق المقاصيص، أو باب الحارة، حتى في مجال الرواية نجد نجيب محفوظ دائمًا يربط رواياته بحارات مصرية معروفة، ويكيف محتوى الرواية لنمط الحياة في تلك الحارة وتشهد تلك الأعمال نجاحًا باهرًا.

لكن للأسف هناك تراجع حاليًا بسبب ما نشهده من هجرة للأحياء القديمة فهجرها أبناؤها؛ للانتقال لنمط حياة مختلف تمامًا، وهذا أمر يحدث خللًا وشرخًا في الخصوصية الثقافية للمجتمعات التي كونتها هذه الذاكرة الجمعية للحارات، والنسيج الاجتماعي في بلداننا. لذا نحن بحاجة لصيانتها، وتسليط الضوء عليها، أولًا حتى تعود مادة للإبداع والإنتاج الثقافي، وحتى لا تنمحي من ذاكرة الأجيال القادمة.

*الأحياء العتيقة رافد من روافد الإبداع
 

ومع شعراء المدينة المنورة، وقصائدهم التي تغنت بأحياء المدينة القديمة، يشاركنا الدكتور عبد الله الميموني، معلم الأدب والنقد في المعهد العلمي سابقًا، فيقول:

تمثل الأحياء العتيقة مصدر إلهام لكثير من الأدباء والشعراء والكتاب على حد سواء؛ لما تحمله من عبق الماضي والذكريات الجميلة، وقد كانت تلك الأحياء بما تختزنه بمعالمها وساحاتها وأزقتها رافدًا مهمًّا من روافد الفكر والإبداع، ففي مجال الشعر تغنى كثير من الشعراء بالأحياء التي سكنوها ووصفوا معالمها وجنباتها وذكريات طفولتهم وشبابهم فيها، وتزخر  دواوين  كثير من شعراء المدينة المنورة بقصائد رائعة تتغنى ببعض أحياء المدينة القديمة المحيطة بالمسجد النبوي الشريف فنجدهم يخلدون ذكراها، ويتغنون بمحبتها ويصفون معالمها وأزقتها وذكرياتهم فيها مثلما نجد عند الشاعرين  حسن  صيرفي ومحمد هاشم رشيد رحمهم الله.

وفي مجال الكتابة بأجناسها المختلفة سجلت الأحياء العتيقة حضورًا لافتًا وإثراءً مميزًا في قصص مجموعة من الكتاب ورواياتهم، أدى ذلك بدوره لإيصالها إلى العالمية، فروايات نجيب محفوظ  التي حصل بسببها على جائزة نوبل للآداب عام 1988م تمثل سجلًّا شاملًا لكثير من أحياء القاهرة، وعلى المستوى المحلي تتداعى في الذاكرة أسماء بعض الأحياء التي أصبحت أسماء لروايات بعض كتابنا كالشميسي، والعدامة عند الأديب تركي الحمد، وتمثل رواية الأديب حسين علي حسين وجوه الأحواشالأحواش جمع حوش، وكانت المدينة القديمة تتكون من هذه الأحواش، والمقصود بالحوش مكان محاط بسور خارجي له استقلال شبه تام عن بقية الأحواش، ويحوي في داخله مجموعة من المنازل والساحات والمرافق العامة، مثالًا حيًّا وحديثًا لحضور أسماء الأحياء في كتابات المبدعين، حيث وصف في روايته تلك معالم الحوش، وما يمثله من مكون جغرافي وإنساني وثقافي مدللًا على ما لتلك الأحياء العتيقة من حضور بارز، وأثرًا كبيرًا وتأثيرًا عميقًا في ذاكرة المبدعين.

وعلى الرغم مما أحدثته الثورة التقنية من تأثير كبير في حياة الناس وفكرهم في زماننا الحاضر، فما زالت تلك الأحياء تحتفظ بحضورها الفريد لما تحظى به من محبة متجذرة، وذكريات جميلة في ذاكرة أبنائها لم ولن تستطع المتغيرات الحديثة محوه من الذاكرة، وربما وظف بعض المهتمين بهذه الوسائل والمتقنين لاستخدامها تلك التقنيات؛ لتخليد ذكراها بتصوير بقايا معالمها في مشاهد مرئية مصحوبة بتعليق صوتي مشحون بالعواطف، ويضج بالحنين والشوق حتى بعدما اندثرت معظم معالم تلك الأحياء فأصبحت أثرًا بعد عين.

لرواية هي الأقرب لمحاكاة الأحياء العتيقة

ومن منظور القصيدة هي الأقل نصيبًا في وصف الأحياء العتيقة، لكنها الأقوى في وقعها، يشاركنا الشاعر والكاتب الصحفي خالد الوحيمد رأيه بقوله:

إن الحديث عن الأحياء التراثية ذو شجون متبوعًا بشوقٍ عميق إلى كل ما له صلة بالأمور التقليدية، ومحاكاة الماضي العتيق، مرورًا بذاكرة الطفولة وهي أهم مكون أدبي يستطيع الإنسان أن يَخلد إلى صناعة نص أدبي مرسومًا بقصص واقعية وأخرى خيالية؛ لتعزز جانبًا من الشعور وتحدث نقلة نوعية لدى الكاتب أو المتلقي ليعيش أجواء الماضي بأدوات الحاضر.

لا شك أن الرواية هي الأقرب لمحاكاة الأحياء العتيقة بكل تفاصيلها، وهي عنصر مهم للغوص في الأحداث التاريخية. على سبيل المثال لو تطرقنا على حدث تاريخي متبوعًا بذكر المكان؛ لا ريب سوف نذكر أسماء الأحياء والشوارع وسبب سميتها ونغرق في وصف البيوت ومحاكاة الشخوص بزيها التراثي، كأننا بهذا نرسم صورة أو نعرض فيلمًا سينمائيًا.

ثم تندرج بعدها القصة القصيرة والمسرحية، ولعل نصيب القصيدة هو الأقل، لكن الأقوى في وقعة الحدث من الناحية الجمالية والوجدانية من ذكر الأطلال، وخلق صورة إبداعية تجعل المتلقي يعيش في خيال ذاكرته ينشئ قصةً جديدة تشرح النص الشعري.

والاستعانة هي الوصول إلى موقعها الأثري، وإلقاء نظرة مطولة مع سرد الأحداث والقصص، مصحوبة بإثارة وخيال وتشويق، ولعل هذه الكيانات في اجتماعها في الخيال تحدث تصدعًا وألمًا إنسانيًّا غائرًا كالجرح، بأن الماضي التليد أفضل من الواقع، فالإحداثيات الأخيرة غيرت معالم طبيعة الإنسان وجعلته أشبه بآلةٍ يتم توجيهها عن بعد.

ولعل المتلقي والمؤلف سيان من ناحية الشعور الوجداني، لكن المؤلف يضيف عليها زاوية أخرى يضع الأماكن تحت المجهر ويدرسها بعناية، مستخدمًا كل أدواته البحثية مطلعًا على أبرز الأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، والتركيز على ثقافة الماضي وما مدى ربطها بحاضره، وأخذ التفاصيل ممن عايش فضاء الماضي من كبار السن وجمع أقوالهم وربطها بالمصادر.

الحاضر ابن الماضي، ولا يستطيع الإنسان نزع إرث أبائه وأجداده مهما بلغ من تطور وتمدن، إنما هناك استبعاد لذاكرة الماضي من أجل رؤية المستقبل بكل تفاصيله وهو لا يزال في أبعاده الزمنيةالتقنية باعدت من ناحية، ومن ناحية أخرى قربت الماضي، من حيث معالجة المواد المتعلقة بالإرث من كتب وصحف وصور ومقاطع قديمة في إعادة إنتاجها، ووضعها في الموسوعات الإلكترونية. والأمر يكمن في الوعي وحب أثر الآباء والأجداد حتى لو لم نعشها؛ نستطيع إحضارها من خلال حضور الأحياء والدثر بعبقها من لمس جدرانها الطينية، والاهتمام فيها، بل معايشتها، فالأمر يحتاج إلى تجديد مستمر من كل  نواحيه.

*الحنين للمكان يثير الإلهام ويعزز الإبداع

ويعود بنا القاص والكاتب محمد محسن الحارثي، من خضم الثورة الصناعية الرابعة، إلى الأحياء العتيقة حيث الدفء والحنين، فيقول:

الأحياء القديمة متجذرة في الذاكرة الجمعية كما هي في وجدان المؤلف والمتلقي على حد سواء، وبوصفها جزءًا ماديًّا من الماضي فهي حاضرة في حيواتنا نتجول برفقتها؛ لنستدعي القصص الأثيرة من المناطق السحيقة في الذاكرة، أما ما اندثر من تلك الأحياء ومضى دون بقاء طلل فهو صورة تعكسها مرآة مهشمة لا ترينا ما نود على نحو دقيق.

وفي العمل الفني أيًّا كان نوعه وموضوعه يمثل الفضاء المكاني عنصرًا مهمًّا، وتأتي الأحياء العتيقة بملامحها الحانية والآسرة وسيرتها الدافئة؛ لتبعث الحنين من بين جمل المؤلف، على الرغم من أنها قد لا تكون مؤثرة في سير الأحداث، لكنها كالفضاء الزماني تنحى بمخيلة المتلقي إلى حقبة زمنية، وتخلق صورة بديعة ترتبط بالشخوص وتمنح المؤلف القدرة على تسليط الضوء في التفاصيل الدقيقة.

الارتباط الوطيد بين وجدان المبدع والأحياء العتيقة، هو كفضيلة متجاوزة تمتد إلى قلمه أو ريشته لذلك نحن نرى الأحياء العتيقة في الرواية واللوحة التشكيلية والنص القصصي والشعريكما نلحظ وميضها في أحاديث المبدعين.

ومن خلال حشده للكثير من الذكريات التي تستدعيها الأحياء العتيقة يتحرر المتلقي من سطوة الحاضر وكذلك من توجسه حيال المستقبل، ويذهب إلى حقن ذاته بجرع آمله في عملية استشفاء مستمرة، الأمر أشبه بنقاهة عقلية وإعادة تأهيل ستفضي إلى تحسين الحالة المزاجية وتعزيز النضج وهو أثر مُرضٍ.

كما أن الحنين إلى الماضي، بما في ذلك الأحياء القديمة التي يمثل ثيمتها الرئيسة، يثير الإلهام، ويعزز الفكر الإبداعي ويغني المخيلة؛ لذلك يستعين به المؤلف ليس لرتق ثقوب ذاكرته فحسب، بل ليُعيدَ إلى ما علق بها توهجه، ولأنه يعي ذلك إضافة إلى ما خبره عن أثر الحنين، فإن إحدى حيله التي يُميل من خلالها رأس المتلقي نحوه تكمن في إعادة إحيائها بطريقة ممتعة ومثيرة، مغازلًا بها نوستولجيا المتلقي لدعم آلية دفاعهما ومجابهتهما معًا لضراوة الغربة الروحية التي تذكيها التكنولوجيا، وهذا كفيل بصناعة نص يعبر من خلال الروح.

نحن في خضم الثورة الصناعية الرابعة، والتي ستحول العالم إلى رقمي، وهذا يعني أننا سنتحول إلى ما يشبه الربوتات وهو أمر مريع، والواضح أنه في إزاء ما نشعر به حيال ذلك سنحمل وجداننا وذواكرُنا عائدين نحو الأحياء العتيقة حيث الدفء الأصيل، كما سيشكل حضورها في الإنتاج الثقافي رئة نتنفس من خلالها، لاسيما أن الكتابة الإبداعية أحد الشؤون الخلاقة التي ستبقى عصية على النفوذ الرقمي.

*إثراؤنا يجب أن ينبع مما نراه اليوم

الأحياء العتيقة ليست سوى أثر، من هذا المنظور يشاركنا الكاتب الأستاذ إبراهيم طالع الألمعي، رأيه بقوله: 

فكرة الأحياء العتيقة في الجزيرة العربيةحسب رؤيتييمكن أن تكون ثراءً مشهديًّا وسرديًّا في أماكنها كمكّة وجدة الثريتين تاريخيًّا، بمجتمع المدينة متنوع الثقافات وشبه الاكتظاظ الحضري السكاني، برغم أنهما كانتا قريتين كالطائف، أو بعض الأماكن العتيقة كصنعاء وحضرموت مثلاً.

أما بقية جزيرة العرب فالمشهدية فيها بين ثقافات قروية ثابتة السكنى عبر التاريخ في نصفها الجنوبي، وصحراوية مستوية الفكر والمشهدية كنصفها الشمالي.

إضافة إلى أن ما تشكل لدينا فيها مما سميناه مدنًا هي جمع قبَلِيّ يمكن أن يشكّل مشهدية ثقافية خاصة، نابعة من حضارتنا ذات الخصوصية الانتمائية القبلية. 

وأعتقد عمومًا أن طرح فكرة الأحياء العتيقة لدينا ليست سوى أثرٍ نظري عما يوجد في الأحياء والحارات في بعض البلدان، التي كانت مسيطرة ومصدرًا للثقافة العربية سابقاً، كحارات الشام والعراق وأحياء القاهرة والمغرب العربي، بالتالي صار بعض ساردينا ومنظري ثقافاتنا متأثرين بقراءاتهم عنها وعن غيرها من البلدان، التي تملك عبق الأحياء العتيقة الثابتة التي لم تتغير عبرالتاريخ أكثر من انتزاعهم رؤاهم السردية من مواقعهم ومكانهم هنا، كأنهم يريدون صناعة (أولاد حارتنا) لحي (المرقب) الخاوي في الرياض، أو (بين القصرين) لأحد أحياء جدة التي تخلو أو أخليت من أهلها. 

فحتى المدن الكبرى لدينا لم تزل خاضعة للرحيل تأثرًا بثقافة عدم الاستقرار الموغلة في أرضنا. 

بالتالي أرى أن إثراءنا يجب أن ينبع مما نراه اليوم، متفجرًا مع الانفجار التواصلي والمعرفي في ثقافات وفنون وواقع هذه الجزيرة.

*الأماكن العتيقة تحلق بنا في سماء الإبداع

ويرى الأديب المصري مصطفى الكحلاوي أن هناك تراجعًا في البصمة المكانية العتيقة في كتابات العصر الحالي معللاً ذلك بقوله: 

إن الأحياء التراثية تظل دائمًا حاضرة في ذاكرة المبدع؛ لأنها أحيانًا تكون جزءًا من إبداع، فأنا كمبدع أستحضر الأماكن التراثية حينما أكتب قصيدة عن الأمجاد العربية. 
فأتذكر بلاد الأندلس وغرناطة أو قرطبة وغيرها، فالأماكن التراثية محفورة بذاكرتي. 
ولهذا أرى أن الأماكن الأثرية تجعل المبدع يحلق في سماء الإبداع ليجمع بين الماضي والحاضر لينسج لنا نسيجًا مختلفًا من الإبداع. 
أعتقد أن أكثر الفنون التي تضع الأماكن التراثية كعنوان لها هي الرواية؛ ذلك لأن الراوي أو الكاتب أو المؤلف لديه مساحة كبيرة من السرد، فهو يستطيع من خلالها أن يستحضر الأماكن والشخصيات ويضع بصمات الزمن عليها. 
وهذا نجده عند الكاتب الكبير نجيب محفوظ في معظم رواياته؛ لأنه يضع في كتاباته العمق المكاني ويجمع بين الأصالة والمعاصرة. 
أخيرًا أحب أن أقول إن هناك تراجعًا في الكتابة عن التراث في العصر الحديث، ربما بسبب الثورة التكنولوجية وعالم الاتصالات والسوشيال ميديا التي جعلت الأديب يبتعد عن استحضار الأماكن التراثية.

*الرواية هي المحتضن المرن للأحياء العتيقة

وتشاركنا القاصة الأستاذة كفى عسيري، رأيها في مدى حضور الأحياء العتيقة في الإنتاج الثقافي، بقولها:

    ذاكرة ابن الحي العتيق سواء كان روائيًّا أو شاعرًا أو قاصًّا هي الحاضن الأهم بما يحتشد في هذا المكان من الصور والمواقف واللوحات، التي تخص إنسان هذا الحي تحديدًا أو ترصد الحياة الاجتماعية، يتم أرشفتها في حينها تباعاً حسب التقاطه لها، ثم يكتشف لاحقًا أنها مادة جيدة بل غنية لتكون جزءًا من مشروعه الإبداعي، فليس هناك أصلح من بيئة المبدع لانطلاقه في الكتابة الإبداعية، مستندًا على الثراء المعرفي الآني والمخزون الثقافي الذي اكتسبه من هذه الحياة.

   ويتم توظيف المكان في الإبداع سواء كان ذلك رواية أو قصة أو قصيدة، من خلال معرفة الأديب لهذا المكان معرفة كاملة، تاريخه وجغرافيته ولغته وحياته الاجتماعية، بما فيها من تحولات وتغيرات طرأت منذ نشأة المكان حتى وقت الكتابة، بهذا يستطيع أن يخرجه للعالم في قالب إبداعي.

 وأعتقد بأن الرواية بانفتاحها وقدرتها على اتساع الأحداث، وتعدد الشخوص وتداخل الأصوات، هي الفن الصالح والمرن للإحاطة بهكذا تجمع بشري بما فيه من حكايات وقصص ظاهرة ومكشوفة للمتفرج، أو خفية ومسكوت عنها وتقبع خلف الأبواب المغلقة، كما أن القصة فن كاشف للأشياء والتفصيلات الدقيقة المتقاربة في منطقة جغرافية ضيقة وبأحداث أصغر وشخوص أقل. 

  إن المسؤول عن الأثر أو التأثير، هو الكاتب بالدرجة الأولى، كلما كان قلمه ماسحًا للحيوات والتنقلات التي تخص إنسان هذا الحي، كان على مساس مع ذاكرة الملتقي، فعلى سبيل المثال: أن يكون أحد أبناء هذا الحي أو ذاك قد غادره منذ عقود وقد عملت السنون على طمس جزء كبير مما في ذاكرته، ثم بعثه الكاتب من جديد وأعاده إليه في شكل إبداعي يوثقه في ذاكرته بشكل آخر، أكثر رسوخًا وبقاء.

  والمكان حاضر بشكل كبير سواء في الأعمال المؤسسية الكبرى أو في الأعمال الإبداعية الشخصية.

*الأديب الأصيل يبقى منجذبًا لعتاقة الماضي

كما تشاركنا الأديبة والروائية اللبنانية رانيا محيو الخليلي بقولها: كلمة «عتيق» تعبق بأثر الماضي المُتجذر بالذاكرة والوجدان، فكيف لو كان هذا الأثر ملموسًا ومسكونًا بصخب أجيال عاشوا في كنفه؟ عند المرور أمام أي حي أو شارع قديم يتأثر الإنسان المُرهف عندما يرى أبنيته التراثية الجميلة قد تهاوت أو صمدت بصعوبة أمام التطور العمراني الهائل، لكن ذاكرته تبقى على تماس مع صخبها وذكرى من عبروا فيها.

   الحياة هي محطة عبور للبشر، والأمكنة هي التي تشهد على عبورهم، ومن بعدها على عبورنا وعبور من سيخلفنا. القيمة المضافة لأي مكان ليست في الجدران والأسقف فحسب، إنما باستذكار من بناها وعمّرها ومن عاش فيها وتحمّل سلبيات وجوده في المكان سواء من حروب أو من نزاعات إنسانية واجتماعية.

   للمكان رائحة تصدر من عبق عُتقه، ومن شواهد ثابتة فيه تأبى الاندثار. كلما سرتُ أمام بيت قديم أو مهجور توقفت أمامه وسرحت طويلًا بخيالي، وأنا أحاول استحضار حياة من عاشوا فيه وأكسبوه العبق والرائحة العتيقة المتبقية من أثرهم.

  هذا الانجذاب نحو تلك الأمكنة العتيقة كان المحفّز لي لكتابة آخر رواية أصدرتها عام 2023 «أرامل الحي العتيق». أذكر أنه كان يوم أحد (وهو يوم العطلة الأسبوعية في لبنان)، سمعت ظهرًا آيات من القرآن الكريم صادرة من مذياع سيارة الأوقاف الإسلامية لدفن الموتى. لم أعر للموضوع أهمية، صحيح أني أسكن في هذا الحي من أكثر من عشرين عامًا، لكني لا أعرف من يجاوروني، ظروف حياتي لم تعد تسمح لي بالتواصل إلا مع المقربين جدًا، وإن كنت أعرف بعض الجيران فمن خلال وجوههم وإلقاء التحية عليهم في حال التقيتهم مصادفة. تابعت عملي وهيأت نفسي لأقوم بواجب عزاء لأرملة تسكن في أحد الأحياء البيروتية العتيقة البعيدة، وقبل الخروج اتصلت بي والدتي لأرافقها بواجب عزاء لأرملة أخرى تسكن في حي عتيق في المنطقة التي أسكن فيها، ولم تمانع مرافقتي في واجب العزاء الأول.

   خرجتُ من شقتي ونزلت في المصعد لأتفاجأ بمدخل البناء يكتظ بالمُعزّين: القرآن الذي سمعته كان عن روح جارنا في الطابق السادس، لقد سقط فجأة في الشارع دون سابق إنذار. عندما يأتي الأجل لا يستأذن أحدًا. ذُهلت من الصدمة ولم أعرف أي تعزية يجدر بي القيام بها أولًا، حتى اتصلت بوالدتي لتخبرني أنها تنتظرني لأقلها، فأجّلت واجب الجيرة الأقرب لما تبقى من ساعات النهار.

  وأنا أتجول بين الأحياء العتيقة في بيروت وأشتم عبق شتلات «الياسمين» وزهرة «الفتنة» المتدلية من أسوارها الكهلة، أبطأت الخُطا، أغمضتُ عيني ورحت أرى بروحي ذلك الصخب المتبقي من هذه الأحياء ومن الأرواح التي غادرتها. حضنتُ بكفيّ ما استطعت من زهور فواحة دون أن أقطفها، أردتُ اختزان رائحتها في راحتيّ لأُحرّض ذاكرتي على استشعار زمن قديم وبسيط. سرتُ نحو الواجب وأنا مسكونة بالماضي  والتاريخ  والتراث  والعادات والتقاليد.

 وأمام هول المأساة المؤثرة بكل تفاصيلها التي تطلبت مني مواساة ثلاث أرامل في يوم واحد، وجدت نفسي قد انتقلت إلى عالم آخر، عالم «أرامل الحي العتيق».

  دون تعميم الحالة التي عشتها، لكن بالنسبة لي ارتباط الأحياء القديمة بذاكرة الكاتب أو المؤلف وثيق جدًا، لا يمكن الفصل بينهما؛ لأن الذاكرة في هذه الحالة تكون مرتبطة بالحنين، ليس إلى ذكريات الكاتب وحده وإنما إلى ذكريات من ارتبطوا بالمكان قبل حتى ولادة الكاتب. ولا يمكن للكاتب أن ينفصل عن حنينه إلى الماضي الذي يدعم إحساسه وانفعالاته.

  وأكثر الفنون الأدبية قدرة على نقل تلك الحالة من «الحنين المُعتّق» هي الرواية، وذلك لتوفر عناصر مهمة في بناء القالب السردي «المكان»، و«الزمان»، و«الأثر»، و«الشخصيات».

  القصيدة الشعرية قد تصف المكان بكل دقة ورومانسية شغوفة؛ لكنها ستعبر على حكايا من عاشوا في المكان دون استفاضة، أو ستختزلهم بكائن واحد وهو «الحبيب». وهنا أستذكر أبياتًا، لأولى محاولاتي الشعرية التي جمعتها عام 2001 في ديوان عنوانه «بكاء في الخفاء» من مطلع قصيدة عنوانها «الأطلال»:

«بحثتُ عنك على الأطلال

‏فلم أجد سوى حجارة وظلال

‏لأناس فاتوا وانتهوا إلى زوال»

‏أذكر أني كتبت هذه القصيدة عام 1990.

‏وبما أني اختبرتُ الكتابة عن المكان العتيق شعرًا ورواية، أصبحت نظريتي أنّ الرواية هي الأكثر قدرة على نقل الذاكرة والحنين غير مُتحيّزة وتتمتع بمصداقية أوفر.

  أما بالنسبة للمُتلقي فكيفية إيصال هذه الحالة من الاختلاجات المرتبطة بالأحياء القديمة فيلزمها عنصرين أساسيين: الإحساس العميق، والصدق.

  هذان الأمران هما ركيزتان من أهم ركائز الكتابة، فالقارئ بتواصله مع أي عمل أدبي يصبح كالطفل عواطفه نقية ونظيفة تُدرك من يحبها ومن يُخلص لها بصدق، والقارئ يكتشف ذلك «الصدق» عندما يتمكّن الأديب من حمله إلى عمق تلك الأجواء، ويبرع في أن ينقل إليه بأمانة حالة حنينه المُعتّق.

   إن لم يكن الأديب مُتمكنًا من أدواته وصادقًا باختلاجاته وبالرسالة والصورة التي يريد إيصالها، لن يكون بمقدوره أن يُحرّك أي تفاعل لدى القارئ ولو كتب مجلدات.    

  أما إن كنت أرى إن كان هناك تراجعًا لهذا «الحضور العتيق» نتيجة التطور التقني، فبكل صراحة وتجرّد أقولها: لا يمكن الحديث عن تراجع أو تقدم في هذا «الحضور» لأنّ الأمر مرتبط بالأديب نفسه ومدى تأثره بالماضي العتيق. لكن غالبًا الأديب «الأصلي» مهما عاش مراحل تطور تقني وتكنولوجي، وحتى لو كان في مقتبل العمر، يبقى مُنجذبًا لتعتيق الماضي بفضوله أولاً، وبإبداعه ثانيًا.

  كما النجار بمقدوره تعتيق قطعة أثاث ليُضفي عليها لمسة سحرية، كذلك الأديب يمتلكُ أدوات تعتيق للماضي ليمنح بها القارئ متعة ساحرة في استعادة زمن لن يعود من خلال الأدب.

فالأحياء القديمة، والأبنية القديمة، وكل أثر قديم هو في زمانه حداثة وتجدد لكن مرور الزمن عليه جعل منه تراثًا عتيقًا. كما تترك عوامل الزمن أثرها كذلك تفعل عوامل الإبداع، لكن الأمر يحتاج لنفسٍ أصيلة، ولموهبة مُترسخة ولذائقة رفيعة.

*الحي الجديد هو ابن الحي العتيق

ويشاركنا الحوار القاص والناقد الأردني موسى إبراهيم أبو رياش، بتأكيده على أن الأحياء العتيقة توفر مشاهد لمن يروم الرسم والتصوير، يقول:

    الأحياء العتيقة، هي الأمكنة القديمة التي كانت ذات زمن مأهولة بالسكان، وعامرة بالحياة، وهي إما أن تكون مهجورة تمامًا، أو ما زالت مأهولة بالسكان خاصة الفقراء منهم، أو مأهولة جزئيًّا بالسكان أو الاستثمارات البسيطة، وخاصة التراثية منها. وكل حي عتيق كان ذات يوم مضى حيًّا حديثًا يُشار إليه بالبنان، لكن سنة الحياة، تقتضي التطور المستمر، فيقدم كل حديث. بعض الأحياء العتيقة يطويها النسيان، ومنها ما يتعرض للهدم لاستغلال المساحات فيما ينفع الناس أو لمجرد العبث، وبعضها يحظى بالعناية والحماية، بصفته إرثًا ينبغي المحافظة عليه، ومأوى الأسلاف الذين أوصلوا لنا الأمانة، فبنينا الأحياء الحديثة الراقية التي تتمتع بكل الخدمات والرفاهيات. وكل حي جديد، هو ابن لحي عتيق؛ فمن كل حي عتيق انبثقت أحياء جديدة، عندما ضاق الحي العتيق بأهله، فخرجوا للتوسع هنا وهناك، ومع مرور السنوات، تحولت الحياة كلية إلى الأحياء الجديدة، وهجرت الأحياء العتيقة أو كادت. والأحياء العتيقة، ليست مجرد أبنية مهجورة، أو خرائب خاوية، أو جدران كالحة، بل هي تاريخ حافل من الذكريات والأحداث، بكل ما فيها من أفراح وآلام وأحزان ومعاناة، ففي كل زاوية منها كان يعيش إنسان ما، وكانت له حياته بحلوها ومرها، وما فيها من أحلام وطموحات وخيبات، وثمة مشاعر دافئة ما زالت تتردد بين جنباتها، ولو أنصتنا لحجارة هذه البيوت، لروت لنا حكايات وحكايات لا تنضب.

فالأحياء العتيقة ذاكرة زاخرة للمكان والزمان والسكان، وللظروف التي سادت، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والفكرية والسياسية وغيرها، وهذه الذاكرة الكنز، معين لا ينضب للإبداع بكل فنونه وأشكاله ومجالاته؛ فمن حكايات الأسلاف وتاريخهم تنسج القصص والروايات والمسرحيات والقصائد، وتنتج الأفلام والمسلسلات والوثائقيات. ومن البيوت والساحات تُرسم أجمل اللوحات، وتصور أروع اللقطات. ومن تراث الأجداد نعيد إحياء الفنون الشعبية، والألعاب الشعبية، والصناعات اليدوية. وتوفر الأحياء العتيقة بيئة ساحرة لتصوير المسلسلات والأفلام المتخيلة أو المرتبطة بأمكنة أخرى، وربما عصور أخرى. كما أنها تصلح بامتياز لاستثمارها كمكتبات عامة أو تجارية، ومعارض لمختلف الفنون من رسم ونحت وتصوير، وصناعات يدوية، ومقاهٍ ثقافية، ومطاعم تراثية وغيرها. ويمكن توظيفها لتنظيم الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية.

    الأحياء العتيقة ملهمة لكل ما يمت للإبداع الأدبي، وخاصة ما تعلق منها بالمكان، فحكايات الناس قد تتشابه هنا وهناك، ولكن المكان يمنح لكل حكاية خصوصيتها وفرادتها، باعتبار المكان مؤثر رئيس في حياة الإنسان، ومن هنا فيمكن أن تكون الأحياء العتيقة عنوانًا للروايات التي تستنطق الأمكنة، وتغوص في ذاكرتها، وتعيد إحياء من سكنوا فيها، وكيف كانوا يعيشون ويعملون ويفرحون ويحزنون، وتصور شوارع تلك الأحياء وساحاتها وبقالاتها ومحالها وأسواقها ومساجدها ومدارسها وملاعب أطفالها، ومجالس رجالها، وملتقى نسائها، ومراعي أغنامها، وموارد مائها، وأماكن زرعها، وغيرها.   وما ينسحب على الرواية، ينسحب على الفيلم بأنواعه الدرامي والوثائقي والمسلسلات، كما أن هذه الأحياء العتيقة توفر مشاهد لا عد لها لمن يروم الرسم أو التصوير. إضافة إلى أنها تتيح المجال واسعاً للتخييل فيما مضى وما هو آت على حد سواء.

  ولا بد من الإشارة إلى أن الأحياء القديمة أكثر ألفة وحميمية واجتماعية؛ فهي موطن الأسر الكبيرة الممتدة، حيث كان يعيش الجميع في مكان واحد؛ يأكلون ويتسامرون وينامون، ويتبادلون المشاعر ويتشاركون الأفراح والأحزان والهموم، ويتعاونون في كل أعمالهم، ويتناقلون المعارف والمهارات والحكايات، ويؤثرون على أنفسهم، يعرف كل منهم كل شيء عن الآخر، ويكون للكبار الكلمة الفصل، والاحترام والتقدير والإجلال. بينما الأحياء الجديدة تميل للجدران الفاصلة، والأسر الصغيرة المحدودة، ذات الأفراد المتباعدين عن بعضهم بعضًا؛ يعيش كل منهم في جزر معزولة، وانقطعت صلة معظمهم بالأقارب والجيران، ولا يعرفون من أخبارهم إلا ما يعرفه الغريب، ومال معظمهم إلى الأنانية والاستقلالية، وعدم الرغبة في التواصل ونسج العلاقات الاجتماعية. وهذا التغير الكبير، يصلح مادة عميقة للأعمال الإبداعية والثقافية على اختلاف فنونها ومجالاتها. وفي هذا الصدد، ينبغي التركيز على الأعمال الموجهة للأطفال حول هذه الأحياء العتيقة وما يرتبط بها من حكايات وجماليات وتراث وجهود الأسلاف، وخاصة المسلسلات والقصص المصورة؛ لما لها من أهمية في ربط الأطفال بماضيهم، ومعرفة أسلافهم وما قدموه من تضحيات في سبيل الأجيال المتعاقبة، وأنهم -أي الأطفال- ثمرة هذه الجهود العظيمة، وهذه الأحياء العتيقة شاهدة عليهم.

 يتباين الأثر الذي تحدثه الأحياء العتيقة في ذاكرة المتلقي؛ تبعًا لعلاقته مع هذه الأحياء أو أهلها، فمن سكن فيها من كبار السن ينتابه الحنين، وتتداعى ذكرياته، ويعود به شريط العمر إلى تلك الأحياء وما عاشه فيها، وما فقد من أحباب، ويستعيد مئات الصور والمشاهد. ومن المتلقين من يدفعه الوفاء للشعور بالعرفان والإجلال لهذه الأحياء ومن سكنها من الأسلاف، ويستشعر جهودهم وكفاحهم ومعاناتهم التي أثمرت أجيالًا وأجيالًا، والتي بنت الأحياء الجديدة، وعاشت في رغد وهناء وحياة أسهل وأيسر من هؤلاء الأسلاف العظام. وثمة متلقين قطعوا صلتهم بالماضي تماماً، فلا تثير فيهم الأحياء العتيقة إلا الضيق والملل، ولا يأبهون بها ولا بماضيها وتراثها ومن قطنها.

     وهذه النماذج الثلاثة، وغيرها، وما قد تشكله العلاقات بينها من انسجام أو اختلاف وصراع، وما يعتريها من مشاعر، وما يجول في خاطرها من أفكار، تشكل أرضية خصبة وغنية للمبدعين لنسج أعمال إبداعية وفنية متميزة، وخاصة إذا رُبط الماضي بالحاضر، والسلف بالخلف، والعتيق بالجديد، والمهجور بالمأهول.

  الحضور العتيق في الإنتاج الثقافي متواضع جدًا منذ البدايات، لا يتناسب وحجم الأحياء العتيقة التي تنتشر في كل مكان، وتضحيات الأجداد، وجهودهم التي لو لم تكن لم نكن. وإن حضر العتيق، فحضوره في الغالب محدود أو هامشي، أي حضور غير فاعل أو مؤثر في العمل الثقافي. والمطلوب أعمال إبداعية تعيد إحياء الأحياء العتيقة بأشكال مختلفة، بصفتها تراثًا لا ينبغي إهماله، وكونها مرحلة لا يمكن تجاهلها في مسيرة المجتمعات والدول، إضافة إلى ما تتمتع به من أصالة وجماليات وذكريات، وهي جزء من الذاكرة الوطنية التي يجب الحفاظ عليها، وحق للأجيال يجب أن يصل إليهم بأ مانة.

    ولا شك أن للثورة التقنية تأثير لا ينكر على الأماكن العتيقة، خاصة بعد أن شاب هذه الأحياء الكثير من التغيير والعبث، ولكن في المقابل، قد تكون الثورة التقنية عاملًا ووسيلة لإعادة الاعتبار للأحياء القديمة، بما تملكه من تقنيات وأدوات وفنيات تستطيع إعادة رسم هذه الأحياء كما كانت، وترميم ما هدم منها، وحتى إنها قادرة على تصميم الأحياء الدارسة رقميًّا، بالتالي تقديمها في أعمال فنية وإبداعية تتميز بالجمال والأصالة والروعة.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود