مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.هاني الغيتاوي* * يجبُ أن نتغيّر على الدوام وأن نجدد شبابنا وإلا تعفنّا. (يوهان …

فنجان واحد من القهوة لا يكفي للتجلّي والإلهام

منذ 5 أشهر

191

0

د.هاني الغيتاوي*

* يجبُ أن نتغيّر على الدوام وأن نجدد شبابنا وإلا تعفنّا. (يوهان جوته)

إن من يمارسون الكتابة والتفكير الأدبي والفلسفي في الغالب الأعم تصاحبهم عادات عند شروعهم في هذه الممارسة أو قبل الشروع فيها، وقد يعيشون وفق نمط معين يجعلهم مختلفين عن غيرهم من الناس، فبعضهم قد يميل إلى الدقة والنظام في حياته قاطبة، والبعض الآخر قد يجنح إلى العبثية والفوضى والاضطراب.

أرى أن الطاقة الفكرية والوجدانية المهيأة دائمًا للاحتراق هي السبب في هذا النمط المغاير من الحياة، فهم يعيشون جل حياتهم رهن الفكرة التي تهبط عليهم من خلال استثارة الوجدان أو العقل ، فينكبوا لتحويلها إلى عمل إبداعي يثري العقل والروح والوجدان، ولكي يتحقق لهم ذلك فهم دائمًا يعيشون في حالة ترقب وقلق، هذه الحالة تنعكس عليهم في تعاملاتهم مع أنفسهم ومع غيرهم ومع محيطهم الاجتماعي والبيئي، فنجد منهم من يعتزل مدينته التي يعيش فيها من أجل البحث عن الذات المهذبة التي تقنع بالقليل وتعيش حياة الإقبال على الحياة من خلال تنفس الهدوء وتلمس الراحة من جمال الطبيعة وبعث روح المساواة من فطرتها الساجية على عمق مداها الفسيح، ويستمد منها روح النضال من أجل إلغاء العبودية التي كانت تطبق على صدر المجتمع الأمريكي حينذاك ، إنه الكاتب الأمريكي “هنري ديفيد ثورو” الذي خاض تجربة العزلة والانزواء كنمط حياة في وقت من الأوقات ليصيغ أفكاره التي تأتيه في هذه الأجواء البسيطة التي تحاكي الفطرة من أجل صياغتها في الواقع وإنتاجها تجربة واقعية في الحياة، وقد وفق إلى حد كبير فيما رامه وتغياه وأتت الفترة التي اعتزل فيها الناس على شواطئ بحيرة “والدن بوند” في مدينة “كونكورد” أُكلها، فقد خرج هذا الأديب من كوخه الصغير الذي بناه بيده وعاش فيه مدة عام وبضعة شهور إلى العالم الخارجي بأفكار ورؤى أسهمت في نشر فكر الحرية والمساواة والنضال من أجل إلغاء الرق والعبودية، وقد لاقى نهجه وأسلوبه في التعامل مع الواقع والحياة ترحيبًا واحتفاءً كبيرًا من مناضل عظيم “المهاتما غاندي” الذي راح يقتفي أثره ويمشي على خطاه، فأخذ عنه أسلوب العيش، كما أخذ عنه شعار الثورة الهندية، وحسب هذا المبدع أن عبارة “العصيان المدني” هي من بنات أفكاره.

ومن أديب اعتزل الناس ليصوغ أفكاره لفيلسوف يعد – وبحق – مؤسس الفلسفة الحديثة، وأبرز فلاسفة عصر التنوير، إنه “إيمانويل كانط” الذي انتهج أسلوب منظم لحياته، فقد كان يؤدي أعماله اليومية وفق نظام وآلية لا يخرج عنها إلاّ لظروف خارجة عن إرادته، فكان يستيقظ في وقت محدد، ويتناول فطوره ويشرب قهوته في وقت محدد، ويغدو إلى جامعته في وقت محدد، وفي عودته ومن دقة مواعيده كان جيرانه يدركون أن الساعة قد بلغت الواحدة والنصف، وفضلًا عن نظامه ودقة مواعيده كان كانط يحب الظهور بمظهر أنيق وجميل، فملبسه دائمًا متناسق، وكان يقول لمن يمتدح أناقته “من الأفضل أن تكون مجنونًا بالموضة على أن تكون الموضة خارج حساباتك”. 

ومن الأدباء المنظمين أيضًا كان “جوستاف فلوبير” صاحب الرواية الشهيرة “مدام بوفاري” فكان يعمل بجد ونظام، لدرجة أنه كتب روايته مدام بوفاري في خمس سنوات، كان يكتب في الأسبوع ست صفحات فقط “يالها من مهنة صعبة مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجذاف ثقيل” هكذا قال لأمه ذات يوم.

لقد ظل يعمل فلوبير على رواية مدام بوفاري خمس سنوات، يجمع أوراقه البحثية، ويقرأ روايات عدة خاصة الرومانسية منها لكي يستطيع تجسيد بطلة الرواية التي كانت تقرأ الكثير من الروايات الرومانسية بدأب ونهم شديدين، كما أنه من شدة تعلقه بالرواية أصيب بمرض في معدته عرضه لسوء الهضم، وكان ذلك بسبب دراسته لمادة الزرنيخ التي انتحرت بتناولها بطلة الرواية، ولشدة تأثره ببطلة الرواية كان يذرف الدموع الغزار، يقول فلوبير “لقد توقفت عن الكتابة لا أستطيع مغالبة دموعي”. 

ومن النظام إلى الفوضى، حيث كان الأديب الأمريكي “مارك توين” الذي كان لا يرعى انتباهه أن يكون منظمًا، ففي وجود الأوراق المبعثرة في كل مكان وأعقاب السجائر التي تعج بها طاولة كتابته كان يحب أن يمارس الكتابة والتفكير، لقد كان صاحب رواية “توم سوير” فوضويًا وعلى غراره كان صاحب رواية “العقب الحديدية” الأديب الأمريكي “جاك لندن” كان يكتب مائة كلمة في اليوم ويدخن مائة سيجارة، نمط حياة فوضوي يؤثر على صحته وحياته؛ لكنه كان لا يستجيب لمن ينصحه بأن يترك هذه العادة، ويرد على نصحهم بقوله “إني أفضل أن أتحول إلى رماد على أن أتحول إلى تراب”. 

ومن الأدباء الذين كانوا يقرأون نصوص إبداعهم بصوت جهوري عال “فيدور دوستويفسكي” ويشاركه في ذلك صاحب كتاب “الأمير” “ميكافييلي” الذي كان يقرأ ما كتبه بصوت عال وكأنه يخطب في جمهور من الناس، فإذا أعجبه وتأثر به أبقى عليه وإن لم يعجبه كان مصيره الحذف. 

كذلك كانت الروائية التشيلية “إيزابيل الليندي” تقرأ رواياتها بصوت عال فإن لم يرق لها النص حذفته. 

وكما اعتزل هنري ديفيد ثورو في كوخ بسيط على بحيرة، فعلت الكاتبة والروائية الإنجليزية “فيرجيينا وولف”، فلقد ابتاعت بيتًا بسيطًا في إحدى القرى مطلًا على النهر وفي وسطه حديقة كبيرة، وكانت الأديبة تتنفس في هذا البيت الراحة وتركن للهدوء والاستجمام، تستمد من الهدوء والصمت الطمأنينة التي كانت تستثير فيها الإبداع وتدني منها الوحي والإلهام، وقد وصفت هذا البيت بقولها “هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدّرة في آن واحد.

كما سببت رواية “مدام بوفاري” الأمراض لجوستاف فلوبير، فقد كانت كل روايات فيرجينييا وولف تسبب لها الأمراض، حيث كانت تصاب بالصداع المزمن والتهيج العصبي وفقدان الشهية، وقد نعتها الأطباء بالجنون، لأنها كانت تتقلب على أوراق الإبداع والاكتئاب، حتى أوصلاها في نهاية المطاف إلى النهاية المأساوية وهي الانتحار في النهر القريب من البيت الذي ابتاعته خصيصًا لتمارس الفكر والإبداع.

ورغم أن الروائية إيزابيل الليندي كانت تعمد إلى صنع جو مفعم بالحنان والرومانسية، حيث كانت تحب التفكير والكتابة على ضوء الشموع التي كانت توقدها من أجل ذلك وتحيط نفسها بالزهور والبخور استعدادًا لتلقي الإلهام والوحي؛ لكنها تشارك الأديب الأمريكي “ويليم فوكنر” صاحب الرواية الشهيرة “الصخب والعنف” في المكان الذي يهبط عليهم فيه الإلهام وهو “المطبخ”، حيث كان فوكنر يرى أن المطبخ هو المكان المناسب الذي يقرأ فيه كتبه “كنت أفضل أن أبقى في منزلي، في مطبخي مع كتبي وعائلتي من حولي، ويداي تلاعبان الأوراق”. 

وكان فوكنر يحب العزلة، فعندما ذاعت شهرته وطبقت الآفاق، وراحت تلاحقه العيون والكاميرات، اضطرته هذه الملاحقات لأن يسور بيته بسور عال يجعله بمنأى عن الملاحقات، فكان يؤثر العزلة والخلوة عن حب الظهور.. “سأستمر على هذه الحال إلى نهاية عمري، وأتمنى أن أتلاشى من حياة الآخرين وأحذف من التاريخ من دون أن يترك لي أي أثر عدا كتبي”. 

وكما كان إيمانويل كانط يحب التأنق، كان الشاعر “نزار قباني” الذي كان يرتدي لبسًا أنيقًا قبل الكتابة ويمخض نفسه بالعطر، كذلك كان يفعل فوكنر، كان يحب أن يرتدي ملابسه الكاملة وهو يقرأ أو يكتب، وكان يشارك فوكنر صاحب العبقريات الأديب “عباس محمود العقاد” لكنه لم يكن يحب الزي الرسمي، بل كان دائم القراءة أو الكتابة وهو يرتدي البيجاما، كذلك كان الأديب والمفكر أنيس منصور، وكان الكاتب الروسي “تولستوي” يرتدي زي الفلاحين أثناء الكتابة، أمّا الكاتب الكولومبي “جارثيا ماركيز” الحاصل على جائزة نوبل عرف عنه أنه كان يرتدي زي الميكانيكي قبل أن يشرع في الكتابة.

وعلى نهج الجاحظ الذي كان يأتيه الإلهام وقت الفجر، كان يفعل الأديب مصطفى صادق الرافعي، وكذلك الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي الذي كان يشرع في الكتابة في الهزيع الأخير من الليل، وكما كان الليل هو وقت مقدس لبعض الأدباء، نظرًا لما يرون فيه من قداسة نابعة من الوحدة الصامتة التي تستنفر المشاعر وتؤجج العواطف فتستجيب ربة الإلهام، كان النهار زمنًا مفضلًا للبعض الآخر من الأدباء والفلاسفة، فعرف عن نجيب محفوظ صاحب نوبل أنه كان لا يكتب إلا بالنهار، وكذلك عرف عن الفلاسفة شوبنهاور ونيتشه وكذلك الأديب الأمريكي صاحب “العجوز والبحر” “آرنست همنجواي”. 

ومن الأدباء الذين كان لهم طقوس خاصة في كتابة إبداعهم، كان الأديب “فلاديمير نابوكوف” صاحب رواية “لوليتا” يكتب بالقلم الرصاص ويكتب على كروت صغيرة، كذلك كان الروائي “جمال الغيطاني ” يستخدم قلمًا حبرًا في الكتابة ولا يحب الكتابة على الحاسوب، أمّا الروائي “ألكسندر دوماس الأب” صاحب الرواية الشهيرة “الكونت دي مونت كريستو” يصنف كتاباته، فالقصص كان يخصص لها ورقًا لونه أزرق والأشعارُ ورقًا لونه أصفر، أمّا الورق المصطبغ باللون الوردي كان مخصصًا للمقالات السياسية، كذلك كان يفعل الدكتور عبدالرحمن بدوي من قال عنه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بأنه أول فيلسوف مصري، حيث عرف عنه حبه للون الأزرق، فكان يرتدي بدلة زرقاء، وكانت دفاتره زرقاء أيضًا وكان يرى في اللون الأزرق أرقى الألوان.

وكما كان كانط منظمًا، كان الأديب والشاعر والقاص الألماني “يوهان فولفجانج جوته” صاحب روايتي “آلام فرتر” والبؤساء، فعند الحادية عشرة يشرب فنجانًا من اللبن والشكولاته، ثم يتناول وجبة الغداء عند الثانية ظهرًا ثم التنزه، وعندما يفرغ من وجبة العشاء، كان يخصص معظم الليل للقراءة والكتابة، كان يحب النور لذلك أحب الصيف وكره الشتاء؛ لأن الليل يطول في الشتاء ويحرمه من الاستمتاع بالنهار، وكان دائم المحاسبة لنفسه من خلال كتابة يومياته التي يسجل فيها ما قام به وما اجترحه من أفعال وأقوال، وقد صور منهج حياته فيما قاله عن نفسه “يجب أن نتغير على الدوام وأن نجدد شبابنا وإلاّ تعفنّا”. 

لم أقم بحصر كل شداة الأدب والفكر والفلسفة في هذه الأسطر القليلة، فهذا الموضوع يحتاج كتبًا وليس كتابًا، لكنني أحببت الإشارة إلى بعض الأدباء والفلاسفة الذين وعيتهم ذاكرتي، وما جعلني أقدم على كتابته أنني أحببت القهوة أثناء الكتابة وإن كنت لا أشربها، فأنا أسعد بإعدادها ووضعها أمامي وأنا أكتب، ربما هذه العادة تحفزني على الكتابة، وإن كنت لا أهملها كلية في بعض الأحيان، لكن في الأغلب ونظرًا لانهماكي في الكتابة، أنسى كل شيء حتى طعم القهوة اللذيذ، فالإبحار في شاطئ الإلهام عندما يتلبس بك يجعلك تبعد وتتعمق إلى أبعد مدى لا تلوي إلا على التقدم، فالإبحار في بحر الأفكار والرؤى متعة لا يحد منها أن تتوقف لتتناول رشفة من فنجان قهوة، ولعلني بقولي هذا أستثير غضب الروائي الفرنسي “أونريه دي بلزاك” مؤسس الواقعية في الرواية الأوربية الذي كان لا يأتيه الإلهام ولا يهبط عليه وحي الإبداع إلا إذا تناول حوالي خمسين كوبًا من القهوة، كذلك كان يفعل أحد رواد عصر التنوير الكاتب والفيلسوف “فولتير” ففنجان واحد من القهوة كان لديهما لا يكفي لنزول وحي الإبداع والتجلي والإلهام! 

*كاتب مصري

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود