سلوى الأنصاري
“جيرنكا”، تلك اللوحة المتناقضة الآسرة التي تجمع بين الجمال والخوف بين الهدوء والضجيج في آن واحد.
فهي تعبِر عن رحلة غموض تجعلنا نعبُر عبر مشاعر الفنان المرهف في أزقة الدمار ونقف من خلالها على الأطلال.
رسمها الفنان العالمي بابلو بيكاسو عام 1937، بعد أن انتزع الألم قلبه فرسم مشاعره على لوحته، مستلهمًا موضوعها من أهوال قصف البلدة الإسبانية “جيرنكا” الذي خلف وراءه جراحًا لا تندمل في ذاكرته وذاكرة الشعب الإسباني.
في مساحات هذه اللوحة السحرية التي حضر بها الحرب وتجسدت ويلاته، نجد الظلال تختلط بالأضواء، وينسجم البياض والسواد فيتحولان إلى سيمفونية بصرية تصرخ بأعلى صوتها من الويلات والدمار المزدحمة في ذاكرة بيكاسو، فيتصدر المشهد حصان جريح، ينهار في وسط الفوضى العارمة، محاطًًا بأطياف المعاناة، وتلتف حوله الشخصيات كأنها تجسد أصداء الألم في عالمٍ تحيط به النكبات، فالثور المتأهب قد يرمز إلى العنف الكامن، بينما المرأة المتألمة التي تحتضن جسد طفلها الميت فهي تجسد تعبيرًا صارخًا عن الفقدان والفجيعة التي عانى منها سكان البلدة.
وفي الجهة اليمنى من اللوحة تظهر لنا امرأة خائفة، كأنها تراقب الأحداث في عتمة الليل حاملة في يدها مصباحًا مُضاءً باللهب عله يكشف لها الأحداث المختبئة في ذلك الظلام الدامس.
أما الخناجر التي حلّت محل ألسنة الحصان والثور والمرأة الحزينة فهي تجسد مدى ألم الصراخ والعويل الذي كان يصدره سكان جيرنكا الألوان في اللوحة محايدة، كأن الحرب قد نزعت عنها ألوانها وخلفت وراءها اللون الرمادي الباهت والأسود الكئيب والأبيض الذي يود أن ينشر الأمل بكل ما أوتي من قوة، لكنه عبثًا كان يحاول؛ فقد انتشر الخراب الذي لا يعرف الرحمة.
فعبر بيكاسو عن تلك النكبة بخطوط تكعيبية، حادة كالسكاكين، تخترق الروح وتستثير مكامن الخوف والغضب، فتتداخل الأشكال وتتشظى، كما يتشظى الأمن أمام عيون الرعب، الخراب والخراب.
كل جزء من اللوحة ينطق بمأساة شعب، كل خط وكل زاوية تروي حكاية من الألم والفقد وسط الظلام، ما عدا تلك الزاوية في اليمين نجد بها النور ممزوجًا بالأمل في عيني المرأة التي ترفع مصباحًا، كأنه يبشر بأمل ليس له حد ونور لا نهاية له بعد ظلام كئيب، فيتحدى القسوة ويعبر عن الإرادة الإنسانية في مواجهة العنف.
“جيرنكا” ليست مجرد لوحة، بل هي ملحمة بصرية، وصورة خالدة قادرة على تجسيد أعمق الجراح، إنها صرخة مكتومة في وجه الظلم والظلمات، تذكر العالم بأن الإنسان قادر على الإبداع حتى في أحلك لحظات التاريخ.
فما هي الاّ دعوة إلى السلام ونبذ الدمار والإجرام، هي حلم من أجمل الأحلام بوطن لا يعكر صفوه أزيز الطائرات وسط هديل الحمام ولا يخدش سكونه دوي القنابل من فوق الغمام.
استطاع بابلو ان يجسد “جيرنكا” بعبقرية متفردة ورؤيا حديثة وصرخة إنسانية مدوية، وبألوان محايدة قوية تخلد في ذاكرة الإنسانية، فهي نداء مستمر ضد العنف وضد كل ما يمزق نسيج الإنسانية.
إنها تذكار دائم بأن الفن يمكن أن يكون أداة قوية للتعبير عن الألم والمقاومة، وبأن الجمال يمكن أن ينبثق حتى من الزوايا الضيقة المظلمة.


احسنت النشر والكتابة واحسنت بشرح التفاصيل التي قد تغيب عنا لكن لاتغيب عن عين الفنان