الأكثر مشاهدة

شمعة جعفري* قلب الأرض الطيبة حجارة منصهرة وحديد وشرر! قلب الشمس الدافئة غاز ملته …

سذاجة حسناء

منذ 5 أشهر

174

0

شمعة جعفري*

قلب الأرض الطيبة حجارة منصهرة وحديد وشرر!

قلب الشمس الدافئة غاز ملتهب واحتراق لا يذر!

وقلب الجبال الشامخة تراب تصلب وقبضة ريح لن تعرف من أين هبت!

بعد الثانوية العامة، تكون البنت قد قطعت في السذاجة نصيبًا ليس به بأس.. وما إن تحاول التصالب، حتى يأتيها ذلك المجنون الهائم بها، يلمحها مع انسدال خصلة شعر، أو قفزة سعادة بين صويحباتها، فيقول: ها هي ذي، ويأخذ سمته إلى بيت أبيها..

تردد الأب استشار أمها: البنت صغيرة..

ردت الأم: الولد عازم مُصر.

وتزوَّجت الطفلة المدللة، حبيبة أبويها، قبلتها أمها في مساء يوم، وأزاحت خمارها، قالت لها كلمات لم تفهمها، وأوصتها بزوجها خيرًا، وإلى العتبة الجديدة سلمها أبواها وأخوها منصور.

كشف عنها زوج باسم، وقال: بسم الله ما شاء الله.. ثم همس في أذنها الأقرب: أحب كل ذرة في كيانك..!

هكذا كانت تعذر تقصيره وتباطؤه عنها.. كانت تمحو ذلاته وهناته، كانت تنسى تطاولًا أو عصبية، وكانت تضمُّ أمه وإخوته، كأنما هي المسؤولة عنهم.. لا منهم!

حسناء.

يناديها فتقبل باسمة، وما حسناء باسمها، «سميتك نورة لتنيري الكون» قال لها أبوها ذات يوم، وتركها لرجل لا يعرفها إلا بحسناء! كانت تبرر لها سذاجتها، وهي تفكّ ضفيرتها: «يراني حسناء»!

تأخر الإنجاب.. وظهرت التحاليل والفحوصات.

سبب تأخر الإنجاب منكما جميعًا..!

قالها الطبيب متنحنحًا، منتظرا موجة من سباب جائع، وهياج أم لن ترى بذرتها تجري!

لكنها ابتسمت واحتضنت يد الرجل المنحني الذي كان زوجًا لها.

عما قليل سيرضى كلاهما بالآخر، كانت تقول له: «سأكون دائمًا ابنتك.. وستكون ولدي البكر».

أذكر تلك البنت وهي تجري إلى مستشفى آخر لعلها تجد مخرجًا لعل شيئًا ما ما يواسي قلبها المكسور، تنتظر المعجزة التي أنطقت طفلًا في المهد، ومنحت لزكريا غلامًا، وأنبتت نبيًّا من مريم العذراء أن تتكرم عليها بلطف طفلٍ يفرد تغضنات وجهها الدبق بفعل خيوط البكاء.

لكن المستشفى لم يكن محرابًا، والردهة البيضاء لم تكن حرمًا قدسيًا، فما من معجزات هنا.. الحمل غير ممكن!

سبع سنوات عجاف مرَّت ليس إلا الحزن صحنًا مدوَّرًا، وشمعتان في وسط المائدة، تذكرهما بخوائهما، وأنهما اثنان يتيمان، متباعدان، معطوف ومعطوف عليه، لا يلزم إلا خيط من جنين يجمع أعضاءهما المبعثرة.

وذات مساء ينطبق عليها صدرها انطباقَ القبر على مذنب، لا يخفف الصراخ منها، ولا يقلل الرعب من وطأتها.. أخبرها استياء الطبيب وتأسفه بأن مرضًا بالقلب قد حطّ رحاله، ولا ينوي الرحيل إلا برشفة الحياة الأخيرة.

هل من سبب لذلك يا دكتور؟!

يسأل زوجها المربد الوجه، الضيق الملامح، العابس كأن العبوس يزيل الوجع.

هل من خطر على حياتها؟!

والطبيب لا يوليه غير نصف وجهه، مربتًا على كتفيه:

لا تقلق، ستكون حسناء بخير إن شاء الله.

همت أن تقول له: نورة هو اسمي. لكنَّ الغرفة مادَتْ بها، ولم تفق إلا وهي في غرفة الإنعاش بعد جراحة دقيقة، والأطباء حرَّاس ممسكون بمعاطفهم البيضاء، سلاحهم الماضي ابتسامة متكلفة حتى تصحو من أثر المخدر.

كان دمعها على وجنتيها سيالًا، وليس إلا صوت هامس:

عبد الرحمن.. فاطمة لا تتركاني.. أين طفلاي؟! 

طفلان لم تلدهما كانا طوق النجاة لها، وحبل الزورق.. ها هي تقترب من مينائها المسكون بأشباح البكاء، وليس يؤنسها غير ضجيج خطاها! عادت لتنام، تفتح عينيها على سقف الغرفة، ترجع إلى المنزل فتفعل مثل ذلك، كأن بالسقف جنينًا معلقًا يطفو في سائل الهواء!

لكن ما أن يزورها زائر حتى تهب، وهي المريضة، تمسح دموع الصغار، آخر تشبثات السذاجة، تطرحها عن يمينها.. تبتسم وهي اليتيمة من غير طفل، وتضحك مع صويحباتها وهي المكسورة من غير جبيرة!

لم تلبث أن أحاطت بها خيبات لم تقترفها، وابتعد عنها زوجها الذي حسبته صبورًا، اشتعلت جذوة النار في قلبها، والآن ثمة جلطة في الدماغ..

ملاذها؟!
العناية المركزة.
كم بقيت على هذه الحال؟

تقول ممرضة:

عامين في وحشة الألم، وغياهب جب الغيبوبة.

وزوجها يتردد لزيارته، ينظر إليها من خلف الأبواب الزجاجية، يبكي ويدعو لها بالشفاء.. وهي لا تزال تصرخ كلما أفاقت باسمي طفلين لم ينجبهما أحد!

قامت نورة من غيبوبتها وخف ألمها، وإِنْ أصبحت طريحة الفراش لا تتكلم، وعلى شدة حزنها لم تدخر بسمة في وجه من يزورها، وتتساقط دموعها، فتسألها جارتها فتقول: إنها دموع السعادة بقيامي مرة أخرى!

عادت إلى البيت، وسافر الزوج، كأنهما ضدَّان ينفي وجود كل منهما الآخر. وَدَّعها بقبلة قاسية، وبوجه لا يشبه وجه المجنون الذي خطفها من عرين أبيها.. قلبها ينبض بقسوة، وهي تتساءل: هل سيعود، أم يتخلى عني بعد أن أصبح حالي هكذاما رغبته فيمن لا تمشي ولا تجيبه ولا تساعده؟!

لكن يد الحنان تداوي ولو بالكيِّ؛ جاءها الخبر القاتل بلطف الرحمن: تزوج عليها رفيق العمر، وأنجب الذي لا ينجب، طفلًا في الأنابيب، وقد كانت تمني النفس بمجيء الزوج الغائب في مدارات الشقاء، ومدارك الحاجة، لتحدثه في تبني طفلة تملأ سكونهما ضجة.

لأجله كانت تسير، الآن تمشي فتذل قدماها، تعاتب نفسها بدمعة أمام المرآة، على وجهها الذي حرصت أن يكون مصدًّا لكل طامع.

كانت تقول بقلبها: لا يا نورة، ما عهدتك هكذا.

سيأتي ثانية، غالبي حزنك، سيجدك مهرولة عليه، فيتعجبواقفةً فيشتاق، محتضنة جلبابه الأبيض، فيترك الدنيا ويعيدك أيام السذاجة الجميلة..!

سأكتب له رسالة، وأمسكت يدها المرتعشة بالقلم القديم، سأخبره كم أفتقده، حسناء تفتقده، نورة تفتقده، عبد الرحمن وفاطمة يفتقدانه. نامت على ورقتها، وإذ بجوال أمها يرن.
الأم: ألو ، هلا منصور ابني حبيبي!
منصور: كيف حالك يا أمي، وكيف حال نورة؟
الأم: نحن بخير والحمد لله، أما أختك فهي تحاول أن تمشي.
منصور: أمي أريد أن أخبرك بشيء!
الأم: قل ما الخبر يا منصور لعله خير إن شاء الله.

منصور: أمي أختي نوره زوجها طلقها.
الأم: ماذا تقول؟! طلقها؟!
فرغ شحن الجوال من هاتفها، وانقطع الاتصال بينهما.
فتحت نورة عينيها ونظرت لأمها تتمتم بكلام غير مفهوم، لكن أمها فهمت. ريم أبيض كان على شفتيها يستأذن في الخروج، والأحرف الصامتات انتحبت فبلعتها وسكنت..
استسلمت نورة، تركت طفليها المتخيلين وحديثها المائج وقدميها اللتين كادتا تستجيبان، تركت سذاجتها البسيطة وبسمتها المغتصبة في قلبها المنهار.

يمكنك أن تتعرف عليها في شوارع جدة، ممسكة بيد أمها، متكئة عليها وذراعها الأخرى على عصاها، تتوكأ، تنظر إليهما فتكاد لا تعرف أيهما الأم!

*كاتبة من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود