مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.هاني الغيتاوي* من الأدباء الذين شكل إبداعهم ذائقتي الفنية، وترك أثرًا في نفسي، …

“إيفان تورجنيف.. وشرفة المدرسة القديمة”.. رحلة في أروقة الطفولة والأدب الروسي

منذ 4 أيام

22

0

د.هاني الغيتاوي*

من الأدباء الذين شكل إبداعهم ذائقتي الفنية، وترك أثرًا في نفسي، وألهمني حب القراءة والاطلاع، هو الأديب الروسي “إيفان سرجيفتش تورجنيف”، حيث أُغرمتُ بأسلوبه الأدبي الرشيق الذي ينطوي على جمال التصوير ورقة التعبير والشاعرية الرقيقة التي كانت باعثًا للخيال والإلهام، وكانت معرفتي بهذا الأديب في سن صغيرة، فكنت في الحادية عشرة من عمري عندما اطلعت على روايته الموسومة “بآسيا وجداول الربيع”.. ووقتذاك أخذتني هذه الرواية إلى عالم غير عالمي الذي أعيش فيه، فبراعة الأسلوب، لاسيما المشهدية العالية والتصوير الفني الجميل من رسم مشاهد الطبيعة والحس الإنساني جعلاني أعيش في قلب الرواية، وأتماهى بوجداني مع أحداثها وشخصياتها، وقد شغفت بالرواية، ونبض قلبي بها ورقت حاشيتي لها، وربما كان لزمن ومكان قراءتي لها طابع السحر الذي أضاف بعدًا جماليًا وملهمًا لي بعد ذلك طوال سنين عمري، فكنت طفلًا صغيرًا في سلاف عمري، تركت الكلمة في نفسي أثرًا، وأضفت الصورة الجمالية للطبيعة في مخيلتي روح الجمال، هذه الصورة الجميلة التي تماهت مع المكان الذي كنت أختلي فيه للقراءة، ففي آخر رواق في مبنى مدرستي الابتدائية العتيقة كنت أنعزل في غرفة المكتبة لأطّوّف مع الجمال وأطوفُ حول العالم، ولعل الصمت الذي كان يقبع في غرفة المكتبة آنذاك، الذي كان يتمخض عنه شعور بالجمال المتناهي في المشاعر الفياضة الممزوجة بسحر القراءة والطواف حول الصور البديعة التي رسمها الكاتب بريشة فنان؛ هو من ترك في نفسي هذا الأثر ولقد انطبعت في وجداني الصور المشهدية الذي كان يعتمدها هذا الأديب في أعماله آنذاك، ولم يكن الصمت القابع في غرفة المكتبة هو البعد الجمالي الوحيد الذي ساعد في انطباع الصور والحس الإنساني لديّ؛ بل معالم غرفة المكتبة التي كنت أختلي فيها للقراءة والاطلاع، فارتفاعها الشاهق كان يضفي عليها الهيبة والجلال، وأرفف المكتبة الموجودة فيها كانت كالقلادة في جيد الحسناء، تزدان وتتوهج بالكتب المتنوعة القديم منها والجديد، فيها شرفات شاهقة الارتفاع، كانت إحداها مغطاة بالورود، من ورائها يطل النخيل العالي الذي كانت تتماوج سعفاته وتتراقص عندما يغازلها نور الشمس المنسرب من بينها لينفذ منها فيهبط وميضه على غرفة المكتبة فيينيرها، ومن وراء هذا كله كانت تغرد الطيور، لاسيما العصافير التي كانت تغص بها حديقة المدرسة، التي وجدت في الأعشاش التي بنتها في الشجر الرابض خلف المكتبة مستقرها وموئلها، وكأن العصافير اختارت هي الأخرى أفضل الأماكن أمانًا واستقرارًا؛ لذلك كنت أطرب لزقزقتها وأغاريدها وأنا أقتعد الكرسي المواجه للشرفة، غارقًا في لجة الجمال الذي يستنفر في طاقة الأمل، تتواثب المشاعر الفياضة كلما ارتقيت في القراءة، تلكزني نسمات رقيقة عندما تبدأ الشمس تلملم رداءها إيذانًا بالرحيل، فغيابها يعني أن أترك هذا العالم الساحر، فيملأ قلبي الشجن وتمور نفسي بوميض الحزن الذي ينسرب إلى نفسي، لكن سرعان ما كان يغيض هذا الوميض ليحل محله نور الأمل في استشراف غدٍ جديدٍ، وأعود فيه إلى المكتبة والرواية وعالمهما المفعم بالجمال والنور، وظل النور قابعًا في نفسي لم يخفت مع مرور الأيام والسنين، بل ظل كامنًا في نفسي كمون النار في الحجر يشعله الحنين، وقد أشتعل أواره وازداد توهجًا في لحظة وقعت فيها عيني على اسم “إيفان تورجنيف” في مقالة كنت أقرأها يتناول موضوعها الأدب الروسي، وفي المقالة كان هناك احتفاء بالأدب الروسي وكيف استطاع هذا الأدب أن يكون له التأثير العميق على الأدب العالمي، من خلال ما يمتلكه من قدرة على استكشاف النفس الإنسانية وتصويره للحياة الاجتماعية والسياسية بشكل عميق وواقعي، لقد أثنت المقالة على الأدب الروسي وأنه يُعدُّ من أغنى الروافد التي غذّت الأدب العالمي وساهم في تاريخ الثقافة والذائقة الإنسانية، وأن رواده من المبدعين والأدباء هم من ساهموا في ارتقائه هذه المكانة، خاصة القفزة الهائلة لهذا الأدب في القرن التاسع عشر، ومن هؤلاء الرواد المبدعين كان ألكسندر بوشكين، ميخائيل ليرمنتوف، أنطون تتشيخوف، نيقولاي جوجول، لي تولستوي، فيدور دستيوفسكي، إيفان تورجنيف، كان لذكر هؤلاء الرواد بالغ الأثر، فقد قرأت لهم جميعًا، فعشقت تولستوى وأغرمت برائعتيه الحرب والسلام وآنا كارنينا، والأخيرة كان غرامي بها أشد، وأحببت الشيخ فهو متمكن من أدوات فنه، وسيرته الذاتية كإنسان راقتني كثيرًا، لاسيما عندما اتخذ قراره بالتخلي عن كل شيء مقابل حياة الزهد والانحياز إلى الفقراء، كانت ثورة إنسانية حقة من أديب إنسان، أمّا “أنطون تشيخوف”، فكان لأسلوبه الواقعي في كتابة القصة والبراعة في السرد بطريقة سهلة يسيرة التأثير العميق في نفسي، “وليو تولستوي” صاحب الخصوصية التي يتفرّد بها؛ كونه صاحب أفضل أدب يشتمل على الأسلوب والشكل والتعبير عن النفس الإنسانية، فهو كما قال عنه الفيلسوف نيتشه “هو الوحيد الذي علمني شيئًا عن النفس الإنسانية”. 

كل هؤلاء الأدباء الروس كانوا نموذجًا باعثًا للإلهام، فقد حملوا على عاتقهم رسالة الأدب الذين حولوها من رسالة جمالية إلى كتاب حياة، ورغم تأثري بهم، خاصة “دستويفسكي”، لكن”تورجنيف” كان له أثر على نفسي كلما ذُكر، فخصوصية المكان والزمان وعالم الطفولة، وبراعة أسلوبه وجمال التصوير ورقة التعبير في أدبه، كل ذلك كان باعثًا للإلهام وحبي لعالم الأدب.

*كاتب مصري

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود