الأكثر مشاهدة

هيثم همامون* سقط على الصخرة، ظلّ جانبي. ثلاث حوافر لحصان. كان لها صوت يشبه الحجا …

الحصان الأدهم

منذ شهر واحد

84

0

هيثم همامون*

سقط على الصخرة، ظلّ جانبي. ثلاث حوافر لحصان. كان لها صوت يشبه الحجارة المجروشة. تكابد في عناء. وفي الأفق صعدت سحب بيضاء تغزو قبة السماء. ومرّت على صدغه نسمة صباحيّة منعشة، فأغمض عينيه.

استفاق وضغط برأسه على حواجز القفز الخشبية. فلا تسمع سوى زفرة مكتومة تتردّد ثقيلة، وأحيانًا لا تستطيع أن تتكلّم. عاد يجيل النظر بقلبه الصامت إلى أعين الخيول المتلصّصة من داخل الاسطبلات المحيطة بالحلبة. كأنه في جزيرة منعزلة.

قال في نفسه: لتكن قادرًا على أن تولد في الأوقات الحاسمة. ومن وقت لآخر تلمع سيقانه المليئة بالنتوءات كأنّها فروع شجرة زيتون عجوز. لم يكن يسمع إلّا طنينًا يشبه طنين الذباب المحتشد يتردّد خافتًا، وبفضول من اسطبل إلى آخر، ثم إلى الساحة الدائرية الكبيرة حيث يتواجد.

كان يرفع حافره الأمامي أقلّ ممّا ينبغي؛ كيلا يفقد توازنه وهو يغتصب ابتسامة مهجورة من زمان… قد تفيض بالسرور والغضب والإيمان من قمّة رأسه حتى أخمص ثلاث ركب. غرز مخالبه في رمال الحلبة التي كانت فكرة لطالما مات من أجلها. وما أن تهبّ أصداء المنافسات، وتمتلئ الحلبة حتى يرنّ الجرس، وتنهال عليه فجأة ذكريات الماضي بميدالياته الذهبية. فينقبض قلبه، ويتملّكه اليأس، ويتثلّج رأسه وسيقانه.

دفن عينيه البعيدة في حبيبات الرمل. انحنى… فرأى فيها وجهه تمامًا. وكمن يضرب بجناحيه التي لم تتدرّب بعد في الهواء الدافئ، زحف ببطء على الحلبة. وفي أسفل الجبل فاحت رائحة الأرض المشبعة بالماء. ارتوى النبات كما ترتوي روحه في جولة لا نهاية لها تتلاشى في الأثير. ما أشقى هؤلاء الذين تنقصهم الشجاعة فيبقون في منتصف الطريق ويهلكون! ثم تلاشى وقع الخطوات…

دخل رجل ثرثار غليظ الجسم، لكنه شفاف كالهواء. بعث في الحصان الطمأنينة. مسح على رقبته المتوهّجة بخيوط العرق، كأنّها نهر صغير يئزّ بالألغاز. وكانت الرقبة تئنّ، وتهتزّ داخل أعماقه، كأنّه نبض المحيط ذاته. وهل للمحيط روح! ما أتعس النفس التي تموت دون أن تحاول!

كان الحصان يصارع الحقيقة. وتسقط ذراع الرجل كجلدة السوط. تحرّكت شفتا الحصان ببطء وبثقة عميقة. أما عيناه اللامعتان فكانتا تتراقصان وتهمسان:

– الساق التي تستعمل تضمر وفي نفس اللحظة ألبسه صاحبه ساقًا اصطناعية بعدما رشّ طرفه ببودرة، وألبسه جوربًا شفّافًا لون التراب. بدت له جسرًا يقوده نحو أفق جديد. وبنبرة سعادة…

تلك السعادة التي تترك فيها كل شيء أمامك، وتسلّم أمرك لله. قال صاحبه:

– يا لك من حصان وديع!

دسّ منخاره في صدر صاحبه. واختلطت همسات الريح مع صهيله. أمال رأسه يمينًا، وحدّق فيه مليًّا. ثم لمعت قطرات الندى على كلّ ورقة. وظهرت أصص على حافة نوافذ الاسطبلات الأخرى. برزت منها قرنفلة حمراء وأعواد ريحان.

أصبح يرفع قوائمه الأمامية أعلى مما ينبغي، ويحكّ ظهره بمنخاره الجميل. ونمت من جديد فوق حروف رمال الحلبة دقّات مخالبه الكثّة، كصنوبرات بجذور عميقة. فجأة فاضت الحلبة بأصوات عالية. تجمّعت أنفاسه أمام عينيه. دفع بجسده القوي برشاقة.

كانت تتتالى في الضغط على الرمل في متتالية هندسية عجيبة، يحفظها عن ظهر قلب. وكأنّما يرقص في الفضاء فوق سحابة بيضاء. قفز فوق الحواجز بخفة. وهربت روحه من خلوته القاسية التي أشعرته بالخوف والتردّد… كأنّ لحركات ساقيه اهتزازات راسخة منذ القدم. يا لتلك الأرض التي تحمل مثل هذا الجمال، فتحبس قدرته عن الانطلاق! شعر بنار مستعرة في كيانه، جعلت ذرات عرق فضية تتناثر في الفضاء، وأخرى تسيل في الحدّ الفاصل على امتداد ظهره. تردّدت الهتافات والتصفيق الحار. وعلا صوت بعيد عن الجمهور يقول:

– في كل عثرة تكمن فرصة للنهوض.

*كاتب من المغرب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود