الأكثر مشاهدة

د.إحسان الله عثمان* تأتي المجموعة “بصمات مرتجفة” للكاتب السعودي نايف …

تأملات في فن القصة القصيرة جدًا.. قراءة انطباعية في المجموعة القصصية “بصمات مرتجفة”

منذ شهر واحد

498

0

د.إحسان الله عثمان*

تأتي المجموعة “بصمات مرتجفة” للكاتب السعودي نايف مهدي، كإضافة قيمة للأدب العربي المعاصر في مجال القصة القصيرة جدًا، تتألف من 189 قصة قصيرة جدًا، تتناول مواضيع متعددة بأسلوب بسيط وعميق وانتخاب لغوي غني بالإبهار والأفكار الإبداعية.

* أهمية القصة القصيرة جدًا | The Importance of Microfiction*
القصة القصيرة جدًا (Microfiction) هي نوع أدبي حديث نسبيًّا، وقد اكتسبت شهرة في المشهد الثقافي والأدبي المعاصر؛ بسبب قدرتها على التعبير عن الأفكار والمشاعر بطرق مكثفة موجزة، وتتميز بالتركيز على المشهد الواحد أو الحدث المحدد والإيجاز في الطول وتنوع التقنيات السردية المستخدمة والرمزية والجمالية، وتعتمد الإيجاز والشمولية والتكثيف والتركيز في السرد والبناء الفني.

تلاقي القصة القصيرة جدًا شعبية متزايدة بين القراء؛ بسبب سهولة قراءتها في وقت قصير وقدرتها على تقديم تجارب مكثفة ومؤثرة تعتبر ملائمة للقراءة في عصر السرعة والتقنيات الحديثة.

في المجمل، تعكس القصة القصيرة جدًا قدرة الأدب المعاصر على التجديد والتكيف مع الأوقات المتغيرة؛ ما يجعلها نوعًا أدبيًّا مثيرًا ومؤثرًا في المشهد الثقافي.

تعد المجموعة القصصية “بصمات مرتجفة” منصة للتجريب الأدبي والتنوع والابتكار، حيث نجح كاتبها في تقديم أفكار وتجارب غنية بالرؤى والمشاهدات الأدبية محتشدة بالتلميحات الدلالية الرمزية، تتطلب من القارئ استنباطات عميقة المعاني لملء الفراغات التي يتركها النص.

* المواضيع التي تتناولها المجموعة | Themes in the Collection*
تتنوع قصص المجموعة “بصمات مرتجفة” في مواضيعها، لكنها تشترك في تسليط الضوء على الجوانب النفسية والاجتماعية للإنسان المعاصر. هناك مواضيع تتعلق بالخوف، العجز، الوحدة، والتشتت، إلى جانب قصص تتناول العلاقات الإنسانية المعقدة وما يرافقها من مشاعر متضاربة. الكاتب يرصد تلك اللحظات الهشة في حياة الأفراد، اللحظات التي غالبًا ما تكون على هامش الحياة اليومية، لكنها تحمل في طياتها دلالات أعمق.

على سبيل المثال، بعض القصص تستعرض مواقف بسيطة في الحياة اليومية، لكن من خلال عدسة نفسية تبرز التوتر الداخلي للشخصيات:

“‏لم يكن حلمها كبيرًا، فقط كانت تترقَّب طرقةً موعودة على باب منزلها، ترمَّدت السنون وظِلُّ الباب تطرقه الرياح”❝

هذا الأسلوب يخلق حالة من التماهي لدى القارئ، الذي يجد نفسه أمام مشاعر قد تكون مألوفة أو تجارب مشابهة عاشها في حياته.

*أسلوب السرد | Narrative Style*
تتسم لغة نايف مهدي في المجموعة القصصية “بصمات مرتجفة” بالسلاسة والبساطة، مع القدرة على خلق تأثير نفسي عميق باستخدام الحد الأدنى من الكلمات. يعتمد الكاتب على توظيف المفارقات والأسلوب الرمزي لفتح أفق أوسع للتأويل، حيث تكون الكلمات مدروسة بعناية لتعبر عن أكثر من مجرد السرد الظاهري. النهاية المفاجئة أو الصادمة التي تميز هذا النوع من القصص القصيرة جدًا تُستخدم هنا بشكل متقن، ما يضيف بعدًا آخر للتأمل، حيث اللغة الفاعلة والحوارات القصيرة وإشباع المعنى.

* البنية والتنوع | Structure and Variety*
على الرغم من العدد الكبير للقصص في هذه المجموعة، فإن كل قصة تحتفظ بفرادتها وتنوعها، وهو ما يشير إلى قدرة الكاتب على تقديم مواقف وأفكار متنوعة دون الوقوع في التكرار أو الرتابة. كل قصة تُبنى حول موقف أو حدث واحد، لكن خلف هذا الحدث الصغير تكمن رؤى أعمق حول الإنسان وعلاقته بنفسه والآخرين. التنوع في الطرح يجعل المجموعة متجددة، حيث يمكن للقارئ أن ينتقل من قصة إلى أخرى عبر التنوع في ثيمات السرد.

* رمزية العنوان | Symbolism of the Title*
العنوان “بصمات مرتجفة” يعبر بشكل دقيق عن روح المجموعة. البصمات هي تلك الآثار التي نتركها في حياتنا أو في حياة الآخرين، لكن “المرتجفة” منها تشير إلى عدم الثبات، إلى اللحظات التي نعيشها ونحن على حافة الخوف أو القلق. هذه اللحظات تترك بصماتنا باهتة، غير واضحة، لكنها موجودة وتؤثر في من حولنا وفي ذواتنا. العنوان يمثل تمامًا الفكرة المركزية للمجموعة: الحياة مليئة بلحظات صغيرة متوترة، لكنها تترك أثرًا دائمًا.

* تطوير الشخصيات والحبكة والتأثير الأدبي | Character Development, Plot, and Literary Impact*
نجح الكاتب في تجاوز التحديات في القصة القصيرة جدًا بتطوير الشخصيات والحبكة ونقل لحظات قوية لها تأثيرات مقدرة ومواقف معقدة، رغم محدودية المساحة مقارنة بالنصوص الأطول التي تتيح تطويرًا أكبر. 

“أُم تعذّر عن زيارتها بسبب ضيق الوقت، ركنها على رفّ عالٍ لا بدّ أن يعود له، أنعشها برسائل الأعياد والجمَع، خصّها بدعاء مُقفى بين السجدتين، لم يفطن أنّ الوقت يركض بهذا الجنون وينتزع ثلاثة أحرف إلى غير رجعة”. 

الجمال الأدبي يكمن في استخدام الكاتب الحذف والإيحاء؛ ليترك للقارئ مساحة لإعادة تشكيل الصورة. الحبكة البسيطة تصبح مرآة لتجربة إنسانية معقدة يتجاوز تأثيرها الأدبي الحدود الضيقة للنص.

* الخاتمة | Conclusion*
مجموعة “بصمات مرتجفة” تقدم تجربة أدبية ثرية لعشاق القصة القصيرة جدًا، حيث تجمع بين السرد الموجز والتأمل العميق في الحياة والمشاعر الإنسانية. نايف مهدي ينجح في خلق عالم من المواقف النفسية والاجتماعية التي تعكس بصدق هشاشة الإنسان وتردده في مواجهة مشاعره. هذا الكتاب دعوة للتفكير في تلك اللحظات القصيرة التي نمر بها في حياتنا، لكنها تترك بصماتها علينا، تمامًا كما تترك “بصمات مرتجفة” أثرها على قارئها.

أبو ظبي، سبتمبر، ٢٠٢٤م.

*ناقد سوداني

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود