مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

بدر العوفي* صنف عالم النفس الأمريكي دانيال كانمان طرق التفكير إلى صنفين: “ …

الانحياز المعرفي.. حين تتوهم العقول امتلاك المعرفة

منذ شهر واحد

196

0

بدر العوفي*

صنف عالم النفس الأمريكي دانيال كانمان طرق التفكير إلى صنفين: “تفكير سريع” وهو نظام حدسي وعاطفي وتلقائي، و”تفكير بطيء” وهو نظام متأنٍ ومتدبر وتحليلي! (يمكن تحميل نسخة من كتاب: التفكير السريع والبطيء عبر الرابط [1]). تتعين أهمية التفكير السريع بالمواقف التي تتطلب إجراءً فوريًّا، كتجنب خطر مفاجئ، وتتعين أهمية التفكير البطيء بالقدرة التحليلية، كحل مسألة حسابية!

على الرغم من أهمية كلا النظامين للإنسان، فإن المشكلة تقع عند الخلط بينهما. يشير كأنما إلى أن (التفكير السريع) هو خيار العقل الأول، كونه لا يتطلب مجهودًا ذهنيًّا عاليًا! لكن عند استخدامه في موضع يتطلب اللجوء إلى (التفكير البطيء) يصبح الفرد أكثر عرضة للخطأ والانحياز المعرفي! بل قد يلجأ العقل أحيانًا لاستبدال الأسئلة الصعبة بأسئلة أكثر سهولة، لإثبات وهم امتلاك المعرفة [1]!

تهدف هذه المقالة لتناول مفهوم الانحياز المعرفي، وكذلك المفاهيم المتعلقة به، في محاولة متأنية لإيجاد طرق واعية للخروج من وهم المعرفة.

البيانات، والمعلومات، والمعرفة:

تعكس المصادر اختلافات جوهرية بين البيانات والمعلومات والمعرفة؛ حيث تشير البيانات إلى حقائق غير منظمة، لا تمنح دلالة بمفردها، بينما تشير المعلومات إلى البيانات التي تم تنظيمها وفرزها وتحليلها لتعطي دلالة معينة. أما (المعرفة) فهي عملية جمع المعلومات حول موضوع معين، وربطها لبحث سبل الاستفادة منها [2].

قد تتجلى مشكلة (التفكير السريع) بإحدى صورها، عند القيام بالقفز السريع بالتفكير من البيانات إلى المعرفة، دون المرور بعملية تنظيم البيانات وتحليلها لتعطي معنى ودلالة. وبصورة أخرى، قد تتشكل أيضًا مشكلة (التفكير السريع) عند القصور بإحاطة موضوع البحث بالمعلومات الكافية للوصول إلى معرفة عميقة. تجدر الإشارة إلى تناول الكثير من الأبحاث لموضوع (انحياز القفز إلى النتائج) بصفته خللًا ذهنيًّا، يمكن علاجه من خلال الوعي به، والتدريب المستمر بممارسة اجتنابه. [3] [4] [5].

فخ الذكاء.. الذكاء والمعرفة

في عام ٢٠١٩ نُشر كتاب بعنوان: فخ الذكاء للباحث الأمريكي ديفيد روبسون. أشار المؤلف إلى عددٍ من الأبحاث التي تتناول الجوانب المظلمة لدى الأذكياء، ما يوقعهم فيما أسماه: فخ الذكاء! فمن جانب، يثق الأذكياء عادة بحدسهم ثقة مطلقة، متجاهلين بقصد ضرورة امتلاك المعرفة، ما يقود إلى القفز السريع إلى النتائج، بالتالي اتخاذ قرارات غير صائبة! بل وقد يعمد عدد من الأذكياء إلى تسخير ذكائهم للدفاع عن معتقداتهم الخاصة القائمة على مجرد الحدس! ليكونوا بذلك عرضة للانحياز المعرفي! ومن جانبٍ آخر، تشير الأبحاث إلى شيوع انغلاق الأذكياء في التفكير، واكتفائهم بذواتهم، ما يفقدهم المرونة بالبحث عن الحكمة والمعرفة!

يؤكد روبسون في رسالة كتابه أن الذكاء وحده لا يكفي لاتخاذ قرارات صائبة، فهو لا يعدو كونه محركًا جبارًا، لكن في ظل غياب وجود خارطة للطريق، فيظل المحرك منعدم الأثر! وتظل الحكمة لاتخاذ القرار الصائب في امتلاك (المعرفة)، وتنمية مهارات دحض الهراء غير القائم على الأدلة! ففي ظل غياب المعرفة، يمكن -أحيانًا- استهداف ذكاء العقول من طرائق متعددة، ومنها التأطير! [6]

تأثير الأطير.. الخيارات والمعرفة

أظهرت دراسة منشورة أنه عند التسويق لأحد الوسائل العلاجية لسرطان الرئة بعبارة “بينت النتائج بقاء المرضى على قيد الحياة بنسبة ٩٠٪”، فإن ٨٤٪ من الأطباء قام باختيار العلاج لمرضاه! أما عندما أعلن عنه بعبارة “أشارت النتائج إلى نسبة وفاة تصل إلى ١٠٪”، فإن ٥٠٪ فقط من الأطباء قام باختيار العلاج! فعلى الرغم من أن المعلومة لم تتغير، لكن صياغة العبارة قادت إلى نتائج مختلفة! [7]

تسمى هذه الظاهرة: (تأثير التأطير)، وهو نوع من أنواع الانحياز المعرفي الذي يعمد إلى التأثير على العقول، من خلال صياغة الخيار وفق ما يرغب الفرد معرفته، دون الحاجة لاختلاق المعلومات! ويشيع استخدامه في مجال الدعاية والإعلان وفي الحملات الانتخابية، حيث يعمد مصممي الشعارات أولًا لامتلاك (المعرفة) بتفضيلات المستهلك، ومن ثم استهدافه بما يرغب بمعرفته! [1]

أشار فيكرام مانشاراماني -محاضر في جامعة هارفارد- في كتابه (فكر لنفسك)، استخدامه لهذا النهج مع طلابه! حيث اعتاد أن يخبر الطلبة بأول يوم دراسي أن درجاتهم جميعًا هي ١٠٠/١٠٠، وأن هذه الدرجات ستتناقص فقط تبعًا لإخفاق الطالب بالتحضير أو المشاركة أو الاختبار! ورغم أن ذلك لا يغير شيئًا من عملية التحصيل المعتادة، فإنه قاد لنتائج تتفوق على نتائج الأسلوب التقليدي! [8]

تأثير دانينج كروجر.. الثقة والمعرفة

يصف تأثير دانينج كروجر أحد أشكال الانحياز المعرفي؛ ويشير إلى ميل الأشخاص الأقل معرفة لامتلاك ثقة عالية بفهمهم، على أن هذ الثقة تتلاشى عند البدء بتحصيل المعرفة، ثم تزداد مع التدرج بالتحصيل لحين بلوغ الاستقرار.

تم ابتكار هذا المبدأ من قبل عالمي النفس ديفيد دانينج وجوستن كروجر في عام ١٩٩٩م، بعد أن قاما بإجراء اختبارات على طلبة جامعيين بمواضيع معرفية مختلفة، ثم سؤال الطلبة توقع نتائجهم! فكانت النتيجة متشابهة بكل مرة: وهي ميل الطلاب الأقل أداءً بالاختبارات إلى توقع نتائج مرتفعة، وميل الطلاب متوسطي الأداء إلى توقعات منخفضة، في حين أظهر الطلاب الأفضل أداءً ثقة معتدلة! ومن المفارقات، أن تحسين المهارات المعرفية للمشاركين قد انعكس لاحقًا على موازنة ثقتهم بقدراتهم![9] وأمام هذا التأثير، أشار عالم النفس آدم غرانت أن (المعرفة المنخفضة) بشأنٍ معين، هي أكثر خطورة من عدم المعرفة الكلية! لما قد يصاحب ذلك من إصابة العقول بوهم المعرفة! [10]

طريقة فاينمان بالتعلم.. المعرفة العميقة

أشار ريتشارد فاينمان في كتابه: (متعة اكتشاف الأشياء)، إلى أنه كان يومًا في طفولته مع والده في فناء منزله.. فمر أمامهما طائر غريب، فسأل فاينمان والده عن هذا الطائر، فأجاب الأب بعدم معرفته! وخلال الحديث، جاء الأب على ذكر (اسم الطائر)! فاندهش فاينمان من إجابة والده بعدم معرفة الطائر، رغم معرفته لاسمه! وهنا علق والده: “لا يكفي أن تعرف (اسم الشيء) لتكون عارفًا به، وهب أني ابتكرت الساعة اسم طائر، فهل هذه معرفة!” وأضاف: “لكي تكون عارفًا بالشيء، ينبغي أن تكون ملمًّا بصفاته، وخصائصه، وما يميزه”! يشير فاينمان إلى أن هذا الفهم قاده لاحقًا إلى دراسة أوجه الاختلاف النانوية بين العناصر الكيميائية، وإعداد مخططات تصورية لسلوك الجسيمات الذرية بالعناصر، والذي قاده للحصول على جائزة نوبل بالفيزياء! [10]

لم يكن ريتشارد فاينمان مجرد عالم فيزياء، بل اشتهر أيضًا بأسلوبه التعليمي المميز، وقدرته الفائقة على شرح المفاهيم المعقدة بأساليب مبسطة. وتعتبر طريقة فاينمان بالتعليم ذات فعالية عالية للحصول على المعرفة العميقة، رغم بساطتها. يمكن تبسيط الطريقة بثلاث خطوات رئيسية: أن يقوم الشخص بتعلم معرفة معينة، ثم يقوم بمحاولة شرح هذه المعرفة بلغة مبسطة جدًا لغير المتخصص، فإن لم يستطع الاسترسال (أو ابتدأ باستخدام لغة معقدة) بنقطة معينة، فعليه مراجعة تعلم هذه النقطة لفهمها مجددًا، حيث يعد كل توقف بالشرح (فجوة) تعكس قصورًا يجب معالجته! [11]

قد أكون واهمًا:

أزعم أنني قد تأنيت كثيرًا بالتفكير عند إعداد هذه المقالة، ولم تكن أبدًا نتيجة للتفكير السريع المعرض للانحياز المعرفي! كما أزعم أنني قد طالعت الكثير من المصادر لمراجعة المفاهيم، وقدمت هذه المعرفة لنفسي أولًا على طريقة فاينمان! لكن قد أكون واهمًا بمعرفة ما تم عرضه؛ أما لضرورة تفكير أكثر تأنيًا، أو لضرورة مراجعة أعمق ومعرفة أشمل! وفي جميع الأحوال: آمل أن يكون هدف المقال قد تحقق، باعتياد اتهام الفهم؛ لتجنب وهم المعرفة!

المراجع:

 

[1]

دانيال كانمان، “التفكير السريع والبطيء” هنداوي، [Online]. Available: https://www.hindawi.org/books/53814181/.

[2]

“Cambridge International Information Technology,” Cambridge International Examinations, 2015.

[3]

Johnstone K, Chen J, Balzan R, “An investigation into the jumping-to-conclusions bias in social anxiety,” Consciousness and Cognition, 2017.

[4]

Özen G & Cinan S, “People with jumping to conclusions bias tend to make context-independent decisions rather than context-dependent decisions,” Conscious Cogn., 2022.

[5]

Verónica Juárez Ramos, Jumping to Conclusions Bias: Analyzing the Role of Cognitive Biases in the Decision-Making Process, IGI Global, 2019.

[6]

ديفيد روبسون، فخ الذكاء: لماذا يرتكب الأذكياء أخطاء غبية وكيف نتخذ قرارات أكثر حكمة؟ آفاق للنشر والتوزيع، ٢٠١٩.

[7]

McNeil B, Pauker S, et al, “On the Elicitation of Preferences for Alternative Therapies,” The New England Journal of Medicine, 1982.

[8]

فيكرام مانشاراماني، فكر لنفسك: استعادة المنطق في عصر الخبراء والذكاء الاصطناعي, مكتبة جرير، ٢٠٢٢.

[9]

Justin Kruger and David Dunning, “Unskilled and Unaware of It: How Difficulties in Recognizing One’s Own Incompetence Lead to Inflated Self-Assessments,” Journal of Personality and Social Psychology, 1999.

[10]

آدم غرانت، فكر مجددًا، مؤسسة دار تشكيل، ٢٠٢٣.

[11]

ريتشارد فاينمن، متعة اكتشاف الأشياء، العبيكان ١٩٩٩.

[12]

Farnam Street, “The Feynman Technique: Master the Art of Learning,” Farnam Street Media, 2023.

* كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود