199
0210
01706
0829
0219
120
010
0103
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11784
04713
04364
174302
03998
0إعداد_ سلوى الأنصاري
يرتبط مفهوم القناعة بمضامين الحياة وميادين النجاة، الأمر الذي جعلها “ضالة” تتجلى في مقام “الاحتفاء”، وسط دواوين الشعر وصفحات القصص وحبكة الروايات، حتى اعتلت مقامات الحكمة وجاءت في جلباب فضاض من الحكمة التي زينت أقوال الأدباء وأبهجت مقولات المثقفين.
في ميادين الحياة وبين أزقة التيه، يعيش البعض بين شد وجذب، يحاول أن يقنع بما لديه، لكن يجد نفسه مهزومًا أمام طموحات لا تنتهي وأحلام تتقاذفها أمواج الطمع. يجد نفسه في دوامة من البحث المستمر عن المزيد، رغم أن القناعة تكمن في رضا النفس بما هو موجود، وفي قبول النصيب المقدر رغم القيود، فيصمد أمام السدود، فتجلي همومه بالسجود.
يتجلى التحدي الأكبر في مواجهة رغبات تتسارع بلا توقف، وفي مقاومة النداء المستمر للبحث عما لا يمتلك. لكن القناعة الحقيقية هي التي تمنحه السلام الداخلي، وتساعده في ترويض نفسه للعيش بسلام مع ذاته ومع الواقع. فهي الضوء الذي يضيء طريق الرضا، ويحول الطموح إلى سعي جاد ومتوازن.
القناعة في القرآن سر البقاء على صراط الاستقامة، ونكهة العيش في السعد مع الاستدامة.
هي نبع صافي يرتوي منه المؤمنون ويرتشف منه الصالحون، فيغنيهم الله من حيث لا يحتسبون.
اكتنزت قلوبهم به حتى فاض الرضا من أرواحهم، وشع الهدى من قلوبهم، قال الله تعالى في محكم التنزيل في سورة النساء (الآية 32) (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).
كأن القناعة هي الهداية التي تضيء للقلب طريق الرضا، وتغمره بنور اليقين.
فهي ذلك الخلق العظيم الذي يرفع الإنسان فوق مطامع الدنيا ويرسخ في نفسه رضًا عميقًا، بما قسمه الله له. هي الدرع الذي يحمي القلب من سهام الجشع والطمع، والميزان الذي يزن به المرء رغباته دون إفراط أو تفريط.
العرب قالت الكثير عن القناعة وأعلت من شأنها في أمثالها؛ كونها تعتبر من الفضائل الأخلاقية التي تضمن للإنسان السعادة والرضا.. من بين تلك الأمثال (القناعة كنز لا يفنى).
فهي ذلك اللؤلؤ المكنون الذي ينير حياة الإنسان ويهبه راحة البال وطمأنينة القلب. إنها الكنز الذي لا يُبلى، والزينة التي لا تزول، تملأ النفوس رضًا وسكينة، وتغمر القلوب هدوءًا وطمأنينة.
وقالوا أيضًا: (من قنع شبع).
ويعني أن من يرضى بما قسم الله له، يكون دائمًا في حالة من الشبع والرضا، بغض النظر عن مقدار ما يملك.
وهمسوا أيضًا لأبنائهم وللأجيال القادمة: (إذا طمعتَ كففتَ الخير كله)؛ بمعنى أن الطمع يؤدي إلى فقدان الخير والبركة، بينما القناعة تجلب الخير والسلام النفسي، فكان درسًا للجميع.
تظل القناعة دائمًا جزءًا من الحكمة العربية القديمة، وتُعد صفة ضرورية للحياة الهانئة والسعيدة، المستقيمة، والمؤشر الذي يصف لنا علامات الرضا المقترن مع السعادة.
القناعة هي العين التي ترى الخير في كل فجر، والمعين الذي لا ينضب من الرضا والسكينة. هي المرساة التي تبقي سفينة النفس ثابتة وسط أمواج الطمع ، وهي الزاد الذي يغذي روح الإنسان في مسيرته نحو الفلاح والنجاح.
وهي التي تجعل من القليل كثيرًا، وتحوّل الهموم إلى أفراح، وتبث في الحياة روح التفاؤل.
ونرى ذلك جليًا في شعر الشعراء ونهج الأدباء، فقد كتب عدد من الشعراء عن القناعة، مُعبرين عن جمالها وأثرها في حياة الإنسان.
ونبدأ بتلك الأبيات التي حفرت في الأذهان تلك الأبيات، التي قالها على بن ابي طالب رضى الله عنه في القناعة، حيث ينسج لنا أبياتًا تقينا من زمهرير الطمع فيقول:
إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها
فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم
وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ
فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم
فَإِن تَعطِ نَفسَكَ آمالَها
فَعِندَ مُناها يَحِلُّ النَدَم
وتطرب القلب قبل الأذان أحرفه، حيث ينشد الشافعي للأكوان أبياتًا:
رأيت القناعة رأس الغنى
فصرت بأذيالها متمسـك
فلا ذا يراني علـى بابـه
ولا ذا يراني به منهمـك
فصرت غنيًا بـلا درهـمٍ
أمر على الناس شبه الملك
ويأتي الثعالبي وقد امتطى صهوة الكلم، ينشد قائلًا:
هي القناعةُ فالزَمْها تعِشْ ملكًا
لو لم يكنْ منكَ إلاّ راحةُ البدنِ
وانظُرْ إلى مالكِ الدنيا بأجْمعِها
هل راحَ منها بغيرِ القُطْنِ والكفنِ
تُظهر هذه الأبيات أن القناعة قيمة سامية، وقدرة على تحقيق الغنى والسعادة الحقيقية في حياة الإنسان.
إنها السيف القاطع لشرور الطمع، والدرب المضيء في ظلمات المدامع، والمرفأ الذي يجد فيه القلب ملاذه بعيدًا عن المطامع.
كان للأدباء والفلاسفة على مر العصور وقفات جلية وكلمات ندية، تناولوا فيها موضوع القناعة فسال مدادهم على صفحات الأدب، وجسدوه في كتاباتهم وأقوالهم، مؤكدين على قيمة القناعة وأثرها في حياة الإنسان.
من بينهم نجيب محفوظ، إذ يقول: عليكم بالقناعة والصبر، فالحياة ليست منصفة دائمًا.
أما إبراهيم الفقي الذي عاش بين الكد والعلم، والجهد والمعرفة، وتأرجحت به ضروف الحياة، فيقول رغم كل ذلك:
إذا أردت أن تعيش سعيدًا، ارضَ بما تملكه وكن قنوعًا، القناعة هي التي تمنحك القوة الداخلية وتجعلك في حالة من الرضا المستمر، والقناعة أهم أسباب السعادة؛ لأنها تجعلك ترى الحياة جميلة.
يقول الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، في القناعة: لا تراقب ما يملكه غيرك حتى لا تكره ما تملك.
وتقول الكاتبة أحلام مستغانمي عن ذات الموضوع:
القناعة لا متطلبات لها، لا تملك غرور البحر و َلا ادعاء النهر، هي مجرّد ساقية، مكتفيّة بمجرى مائها، لكن على بساطتها، تزهر كل أرض تمرّ بها، فعلى ضفاف القناعة تنتعش الحياة، التي قد يجرفها جشع نهر أو شهوة بحر لا تنفك تراوده الرغبة في ابتلاع ما حوله.
أما الأديب عبده الأسمري فقد أجاد وأوجز قائلًا:
الرضا بالنصيب والقناعة بالمقسوم تدفع الإنسان إلى قطف ثمار الارتياح، في وقت يزلزل القنوط كل قواعد السكينة ويبدد كل أركان الطمأنينة.
هذه الأقوال تعكس كيف أن القناعة لا تزال تُعتبر قيمة جوهرية في الفكر الأدبي المعاصر، وأنها تُرى كسبيل للسلام الداخلي، والرضا بكل ما يحيط بنا، لأن كل ما يحيط بنا خير.
ومثلما يهدي النجم التائهين في الصحراء، كذلك تهدي القناعة النفس البشرية إلى واحة الراحة والانسجام، فالقانع لا يغريه بريق الذهب ولا تُزحزحه عواصف الطمع، بل يظل ثابتًا على مبدأه، مكتفيًا بما عنده، غير مستدرج في متاهات الجشع أو لهاث الدنيا وراء المزيد، فجسد الأدباء في الشرق والغرب القناعة وتحدثوا عنها ببراعة وقدموها لنا قصصًا ندية، نجوب بين طرقاتها لنعيش مع أبطالها، متأملين القناعة الممزوجة في تلك الشخصيات العالمية.
فنرى في البؤساء” لفيكتور هيغو.. تلك الرواية الكلاسيكية التي تسلط الضوء على شخصية “جان فالجان” الذي يجد في القناعة والرضا معنى الحياة رغم الصعوبات والمآسي. القناعة تظهر في قدرته على الاستمرار وتحقيق الخير، رغم كل ما مر به من تحديات.
“الحديقة السرية” “لفرانسيس هودسون برنيت
هذه الرواية تتناول كيفية العثور على السعادة والقناعة في أبسط الأمور، من خلال قصة الطفلة ماري التي تكتشف أن السعادة ليست في المال، إنما أشياء بسيطة، حيث تقوم برعاية حديقة مهجورة، وتتعلم كيف يكون الرضا في إعادة الحياة للأشياء المنسية.
وازدحم كذلك أدب الطفل بالموضوع نفسه، فكتبوا عنه لترسيخ تلك القيمة في نفوس الأجيال.
فنجد فريق رقْش التطوعي بتبوك يتطرق لموضوعات قيمية من خلال برنامج “يوريكا كومكس” الذي يهتم بزرع القيم ومن بينها قيمة القناعة، وترسيخها من خلال أدب الطفل والفن التشكيلي.
ويعد كتاب “القناعة” أحد أهم الكتب التي صاغت بديع الكلم عن موضوعنا، ونسج المؤلف الحافظ ابن السني (280 هـ – 364 هـ) حروفه ليخرج لنا من الكتب أثمنها، وقد تحدث عن موضوع القناعة وفضل من تحلّى بها، وقد كتبه، بحيث يخرج الأحاديث والنصوص الواردة في الباب بسنده.
احتوى الكتاب على 71 نصًّا، ما بين أحاديث مرفوعة وآثارٍ موقوفة على الصحابة والتابعين، ومنها الصحيح ومنها الضعيف، وأبيات شعر”.
أيها القارئ كن قانعًا في كل شيءٍ حولك، لكن إياك أن تقنع في العلم، والاستزادة كن طالبًا للعلم محلقًا في فضائه دون هوادة، وللكسل لا تخضع، فجد في السعي، وإياك أن تقنع بما لديك، فتلك بداية النهاية.
لتكن القناعة شمسًا تنير دروبنا، وأمانًا يقي قلوبنا من زعزعة الطموحات المفرطة. فلنعش بقناعة، ونرى في كل لحظة من حياتنا نعمة وكرامة. ولنتذكر دائمًا أن الرضا بما قسم الله هو أسمى درجات السعادة، وأعلى مراتب الطمأنينة، ومفتاح الفلاح في الدنيا والآخرة.
أستاذة سلوى الأنصاري
رسمتٖ أسمك في قلوبنا فنانة، والآن في تلك الكلمات شعرت
بقول الصاحب بن عباد:
بِاللَهِ لَفظكَ هذا سالَ من عسلٍ
أَم قَد صَبَبتَ على أَفواهِنا عَسَلا
شكراً لمرورك البهي أستاذة هند كلماتك صنعت يومي 🤍