مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د. هاني الغيتاوي * الصداقة كما الحب ، شريعة واحدة ومنهج واحد ، هذا التوصيف يكون …

صداقة الأدباء والفلاسفة بين اللذة والمصلحة والمنفعة (1)

منذ شهر واحد

320

0

د. هاني الغيتاوي *

الصداقة كما الحب ، شريعة واحدة ومنهج واحد ، هذا التوصيف يكون صحيحًا تمامًا إذا كانت الصداقة تمتح من الحب لتزكية وتنمية وتأصيل الفضيلة ، أمّا إذا كانت الصداقة تجافي الفضيلة أو لا تعمل على إنمائها وتزكيتها فإنها تكون بعيدة تمامًا عن مفهوم الحب ، وتخرج عن إطار الشريعة والمنهجية الواحدة ، وتكون مستقلة ويرتبط بقاءها بالمنفعة أو الغاية التي نشأت من أجلها .

والصداقة التي تهدف إلى الفضيلة تتسم بالبقاء والديمومة لأنها غير مرتبطة بمصلحة أو منفعة ، ومثل هذه الصداقة لا تتحقق إلاّ بين أشخاص أسوياء هدفهم هو الفضيلة ، هذا ليس معناه أن يتوافق هؤلاء الأشخاص توافقًا تامًا في كل الاتجاهات والأراء ، بل يكفي أن يتوافر القبول والارتياح وأن يكون هناك استعداد للعيش المشترك من خلال التواصل الوجداني والشعور بالراحة والسكينة والألفة ، يقول الفيلسوف إيمانويل كانط ” إن الصداقة هي تلك العلاقة التي تربط بين شخصين يسود بينهما الحب والاحترام المتبادل “

هذا التقسيم الذي اعتمدته للصداقة هو ما أخذ به الفيلسوف أرسطو حول مفهومه للصداقة، فقد ميز الفيلسوف بين ثلاثة أنواع من الصداقة ،صداقة المنفعة، صداقة اللذة، صداقة الفضيلة ، وقال إن صداقة المنفعة صداقة زائلة بزوال المنفعة، وكذلك صداقة اللذة تنتهي بزوال اللذة، أمّا أفضل صداقة فهي صداقة الفضيلة التي تقوم على الحب وهي الصداقة التي تستمر.

وأراني أتفق مع أرسطو في تقسيمه للصداقة ، مع تحفظي على أن طرفا الصداقة قد يتغيا الفضيلة، فقد تتحقق الصداقة وإن كان أحدهما فقط يهدف إلى تحقيق الفضيلة ، فقد تكون هناك مشاعر متبادلة في البدء عند تكوين هذه الصداقة، لكن مع مرور الأيام وتداولها وتضارب المصالح قد يوجه أحد الأصدقاء وجهته نحو المنفعة ، فليس من العدل أن نسقط حقه في الصداقة وتغيي الفضيلة، وأرى أنها تسقط في حق من أساء للصداقة ، لكنها تبقى في حق من أفرد لها ولاءه وأحترم رباطها المقدس ، وهذا الوصف ينطبق على الفيلسوف ” ديدور ” الذي جمعته صداقة مع الفيلسوف ” جان جاك روسو ” فبعد أن ظل الفيلسوفان تربطهما آصرة الصداقة لمدة عشر سنوات منذ لقاءهما الأول في باريس عام 1742م ، تجرأ روسو على فك عرى رابطة الصداقة ، ورغم أن البعض يعزي انهاء علاقة الصداقة من قبل “ديدور” غيرة من شهرة “روسو” الذي طبقت شهرته فرنسا وامتدت إلى ربوع أوروبا، فإن المتأمل لسيرة الفيلسوفين والأحداث التي وقعت لهما منذ بدء صد قاتهما، يجد أن السبب في إنهاء هذه العلاقة هو “جان جاك روسو” ، “فروسو” ومن خلال تقصّي سيرته وحياته وما قاله عنه معاصروه من أصدقائه ومن المقربين منه كان شخصًا وصوليًا يكون أين ما تكون مصلحته، فقد كان يُغيّر مذهبه الديني كما يغير قميصه ففي مقتبل عمره تحول روسو من المذهب الكالفاني إلى المذهب الكاثوليكي أملًا في أن يجد موقعًا بين نبلاء مملكة ( بيدمونت – سافوي ) ، التي لجأ إليها بعد أن ترك مسقط رأسه (جنيف )، وبعد سنوات أحب أن يعود إلى (جنيف) ، فتحول إلى الكالفنية لكي يستعيد مواطنته ولكي يهتم به.

عاش “روسو” حياته كلها يتودد إلى النبلاء ويتقرب منهم ، فعمل في بداية حياته خادمًا لأحدهم ، واستمر في التودد فعمل محظيًا لسيدة غنية، مدعيًا بأنه أحد النبلاء السكوتلندين اليعاقبة، وبعد ذلك تقرب من المدام “وارنس” وعاش في منزلها وشاركها الفراش ، ولم يتورع أن يشارك خادمها ملابسه، وعندما بلغ “روسو” الثلاثين من عمره، سافر إلى باريس بمساعدة إحدى السيدات الارستقراطيات، وفي باريس تعرّف على فتاة تدعى “تيريز لوفاسير ” أقام معها علاقة طويلة، ورغم أنه لم يتزوجها أنجب منها خمسة أولاد زج بهم في مستشفى اللقطاء.

الفيلسوف الذي شغل الدنيا والناس بكتابه ” إيميل ” والذي يعد مرجعًا عظيمًا في المجال التربوي، يتخلّى عن أولاده جميعًا هربًا من المسئولية وعدم القدرة على منحهم العناية الأبوية، حتى عندما قدمت له أحد السيدات الارستقراطيات وتدعى ” مدام ديبناي ” عرضًا لوضع أطفاله في دور حضانة، رفض” روسو ” أنا متأكد من أن هؤلاء الأطفال، كانوا سيكبرون على كراهية والديهما وربما خيانتهما ” روسو هو من اعترف بذلك في كتابه ( اعترافات ).

لقد عاش روسو على مبدأ المصلحة في التعامل مع كل من عرفه، سيدات أثرياء ورجال نبلاء، حتى المرأة الوحيدة التي أنجب منها أطفاله وعاش معها مدة طويلة كان السبب في طول هذه المدة هو مصلحته، فما الدافع أن يبقي روسو على علاقة تفتقر إلى الكفاءة، فالفتاة كانت أمية، سيئة الخلق وغبية، كما أنها كانت لا تتمتع بأي جاذبية، لكنها كانت تخدمه، فضلًا على أنه كان يشعر معها بقيمته الاجتماعية وتميزه.

حتى عندما وصل روسو إلى ذروة النضوج العقلي والفكري وذيوع الشهرة أغرم بفتاة تدعى الكونتيسة ” صوفي دوديتو” كانت فتاة جميلة ولطيفة وتصغره بتسعة عشر عامًا، كان يراسلها من خلال زوجته” تيريز” التي كان يخدعها، لم يكن “روسو” يخدع” تيريز” فقط، بل كان يخدع مدام (ديبناي ) التي كانت تضيفه في قصرها، وكانت تكن له مشاعر حب كبيرة.

هذه الأحداث تبين مفهوم المعرفة والصداقة عند روسو، فكانت المصلحة هي المهيمنة عليها، كما أنه كان عندما يقدم على أي علاقة معرفة أو صداقة كان يقيمها بحسب اللذة والمنفعة التي تعود عليه منها، فكان ينظر إلى كل علاقة على حسب ما تمنحه من متعة أو تعود عليه من نفع.

أمّا “ديدور” فمن تتبع سيرته وعلاقته بروسو، يتبين لنا أنه كان مخلصًا في صداقته، فهو كاتب عصامي، لم يعرف عنه أنه تملق لأحد أو استعان بأحد ليحقق نجاحه، وفي علاقته بروسو كان مخلصًا وساعده في الكثير فهو الذي أخذ بيده وعرفه على الناقد الأدبي والدبلوماسي الألماني (فريدريك جريم )، وكان جريم صاحب مكانة اجتماعية مرموقة وذا نفوذ أدبي كبير.

كما كان القاء القبض على” ديدور” وحبسه نتيجة اجتهاداته الفكرية آنذاك نقطة تحول في حياة “روسو”، فعندما كان روسو في طريقه لزيارة “ديدور” في محبسه، عثر بالصدفة على إعلانًا في جريدة نشرته أكاديمية ( ديجون للآداب ) تعلن فيه عن مسابقة لكتابة مقال عن عمّا إذا كانت نهضة العلوم والفنون قد ساهمت في تحسين الأخلاق.

انشرح صدر “روسو” لهذا الإعلان، وبدلًا من أن يزور صديقه حول وجهته إلى مكان إقامته وشرع في كتابة المقال طوال الليل، حتى انهاه وبعدها توجه إلى صديقه الذي راح يتناقش معه فيه، ويساعده في تصحيح بعد النقاط التي اختلفا حولها، وما أن انتهيا حتى أرسله “روسو”، وحصل بعدها ليس على الجائزة لأحسن مقال فحسب، بل دوت شهرته، فهو الوحيد الذي أقر بأن تقدم الحضارة دمر فضيلة الإنسان.

تحولت حياة “روسو” بعدما طبقت شهرته الأفاق وذاع صيته، دب الخلاف بينه وبين “ديدور”، فبعدت بينهما الشقة و زادت مسافة الابتعاد بينهما، “فديدور” لاحظ جنوح” روسو” في تعاملاته، ففي واقعة” صوفي “والرسائل التي كان يرسلها لها، أدانه” ديدور” لأنه أساء لمضيفته مدام (ديبناي ).

لم ينسحب “ديدور” ولم يتبرأ من صداقته “لروسو “، بل كان يتحلّى بالصبر ويتكىء على الحلم في تعامله مع صديقه، ورغم ذلك تولّى عنه “روسو” وقطع عرى الصداقة، فربما لم يعد “ديدور” ذا نفع لروسو، وربما انشغال “روسو” ومعاركه الكثيرة جعلته يبعد عن “ديدور”.

والحقيقة أن طبع “روسو” وتركيبته السيكولوجية هي من جعلته يبعد عن “ديدور”، وليس” ديدور” فحسب بل كل من جمعته به صلة زمالة أو صداقة، فالناقد “جريم” وصفه بالجشع والبغيض، “وفولتير” الذي دارت بينهما خصومات كثيرة وصفه بأنه ” وحش يجسد الحقارة والغرور “

حتى الفيلسوف الإنجليزي ” ديفيد هيوم ” الذي استقبل “روسو” في منزله إثر لجوئه إلى إنجلترا، لم يسلم من مزاج “روسو” المتقلب، “فهيوم” أجزل في مساعدة “روسو” فغمره بلطفه وساعده نفسيًا وماليًا، حتى أنه توسط لدى الملك ” جورج الثالث ” ليعين روسو، فقدم الملك لروسو مرتبًا ماليًا، كما منحه منزلًا ريفيًا أنيقًا وسط أرض شاسعة، كل هذا لم يجنب” هيوم “عداء “روسو” الذي اذي اتهمه بالخيانة والاستهزاء به، يقول “ديفيد هيوم “عن “روسو ” : “كان وحشًا يرى نفسه أهم كائن في الوجود “.

لقد كان “ديدور” يحب “روسو” رغم جفاء “روسو” له، ولم تفلح الجفوة بينهما أن تقضي على ود ومحبة “ديدور” ، فالمحبة التي كان يحملها “ديدور” جزءًا من تكوينه كما وصفه “روسو” ” له طيبة قلب تلامس عن قرب السذاجة والبساطة التي تسم الأزمنة الماضية “

كان” ديدور” يحب “روسو” حبًا نقيًا صافيًا، فصداقته كانت تمتح من الفضيلة وفي موسوعته الشهيرة عن الفنون والعلوم يصف” ديدور”” روسو” بالفيلسوف، فيقول عنه ” لقبوه بالفيلسوف لأنه ولد من غير طموح، ولأن له روحًا نزيهة، ولأن الرغبة لم تفسد أبدًا اللطافة والسلام فيه، بالإضافة إلى ذلك رصين ووقور في هيئته، صارم في طبائعه وأخلاقه، ومتقشف وبسيط في خطابه، كان معطف الفيلسوف الشيء الوحيد الذي يعوزه، ذلك أنه كان فقيرًا وسعيدًا بفقره “.

لم يكتف “ديدور” بوصف “روسو” بالفيلسوف وبهذا المديح ، بل كان “ديدور” يساعد “روسو” من خلال هذه الموسوعة، فكان يطلب منه كتابة مقالات مقابل أن يدفع له أمولًا تساعده على نفقات حياته، كان ذلك قبل أن يخوض “روسو” غمار الشهرة.

لم يكن” ديدور” هو المتسبب في قطع عرى الصداقة بينه وبين “روسو”، فكل الشواهد والأحداث تنفي ذلك، وتؤكد على أن” روسو “هو المتورط في ذلك فنظرته إلى نفسه وتزيهها عن الخطأ هو ما جعله يجزم بأن كل من كان بجانبه وتربطه به آصرة صداقة كانوا يحملون له الحقد والضغينة، فقد اعتبرهم كلهم أعداؤه، فكلهم حاولوا استغلاله أو تدميره تحت شعار الصداقة، لذلك فضل البعد عنهم، هذه القسوة دفعت “ديدور” أن يصفه ” بالمخادع والشيطان والمغرور والعديم الوفاء والغليظ القلب ” ورغم الحدة في هذا الوصف من قبل “ديدور”، أراه وصفًا من صديق مخلص قهره صديقه بجفائه والبعد عنه وعدم الوفاء له والإخلاص كما يفعل معه، فعندما علم “ديدور” بخبر وفاة “روسو”، نزل عليه الخبر كالصاعقة، وانطوى قلبه على حزن شديد، وذهب إلى قبر صديقه وراح يقبله، ونسى كل جفاء صديقه وتنكره له، وظل يبكي وينتحب عند قبره حسرة لفقدانه، أعز صديق أحبه بصدق وإخلاص.

إذن نستطيع القول أن صداقة “روسو”” لديدور” كان غرضها المنفعة والمصلحة، في المقابل كان” ديدور” أحرص ما يكون على الفضيلة، أي الصداقة التي تنعت بالديمومة والاستمرار.

للحديث بقية ،،،،

* كاتب مصري

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود