الأكثر مشاهدة

إعداد: عبدالعزيز قاسم* أمضيتُ ستَّ ساعاتٍ مَاتعاتٍ، بمعيَّةِ معالي الدكتور عبدال …

كتابُ “التجرِبَة” …سِيَاحةُ فِكرٍ ومَلامِحُ مُدُن وعُمقُ سِياسةٍ

منذ 6 أشهر

214

0

إعداد: عبدالعزيز قاسم*

أمضيتُ ستَّ ساعاتٍ مَاتعاتٍ، بمعيَّةِ معالي الدكتور عبدالعزيز خوجه، وزيرِ الإعلامِ الأسبق، لا أكادُ أنتهي من فصلٍ إلَّا وأُهرعُ للفصلِ التالي من كتابهِ الشَّيِّق: “التجرِبَة.. تفاعلاتُ الثقافةِ والسياسةِ والإعلامِ”.

التقيتُ معاليه الأسبوعَ الفارطَ في أمسيةٍ لأحدِ جيرانه، وعندما سألته عن الكتاب، أصرَّ على اصطحابي لدارتهِ القريبةِ بعد الأمسية، ومن تواضعهِ وخُلقهِ الجمِّ ركبَ معي في سيارتي، لأجدَ نفسي داخلَ مكتبةٍ فارهةٍ، تمتدُّ أرففُها الفخمةُ لأعلى السقفِ، مُصمَّمةً على الطراز الفيكتوريِّ القديم، لا تملكُ إنْ دخلتها إلَّا أن تأخذكَ الرهبةُ والدهشةُ والافتتانُ في آنٍ واحدٍ، ولا يَودُّ -عشَّاقُ الكتبِ القديمةِ مثلي- مفارقةَ المكانِ، وقد أخذوا بالكاملِ من روعةِ المكتبة.

أصررتُ على أن يَكتبَ لي معاليه إهداءً خاصًّا، واهتبلتُ فرصةَ ذهابي للمدينة المنورة، لأنكبَّ في صالةِ الانتظارِ بمحطةِ “قطارِ الحرمين” بمطار الملك عبدالعزيز في جدة، التي أتيتها -كعادةٍ متأصِّلةٍ- قبل ساعةٍ كاملةٍ ونصف، ولأول مرةٍ منذ سنواتٍ طويلةٍ، أدعُ هاتفي الجوال، ووسائلَ التواصلِ الاجتماعيَّ القابعةَ به، وأنهمك في سيرةِ معاليه، ويا له من سَردٍ آسرٍ لسيرةٍ عَبقةٍ! وأنهيتُ نصفَ الكتابِ، لأُكمِلهُ في طريقِ إيابي أخرى.

يَجولُ بك معالي د. خوجه في ذكرياتهِ ومواقفهِ، وقد أوتيَ القلمَ الرشيقَ والجُملَ المُجنَّحةَ، بعباراتٍ تتقافزُ بك من “القشاشيةِ” بمكة المكرمةِ إلى القاهرةِ في عزِّ ثورةِ الضباطِ الأحرارِ، ليمرَّ بك سريعًا للحديثِ عنهم بسطورٍ مُكبسَلةٍ، يُضمِّنُ فيها قصَّتَهم ورؤيتَهُ الشخصيةَ لهم، وينفلتُ بعدها إلى جامعةِ “الرياض” كطالبٍ جامعيٍّ، ينخرطُ في قسمِ الكيمياءِ والجيولوجيا بكليةِ العلومِ، ويَسوحُ بك في فترةِ الستينياتِ الميلاديةِ، بما لا تودُّ أن يتوقَّفَ من سَردهِ الأخَّاذِ ذاك.

معاليهُ تحدَّثَ في ثمانيةِ فصولٍ عن قصَّةِ حياتِه، خصَّصَ أربعتها الأُوَل لنشأتِه ودراستِه وعملِه، ليدخلَ بنا في الفصلِ الرابعِ إلى تعيينِه سفيرًا في تركيا، ولقائِه مع “كنعان إيفرين” و”تورغوت أوزال”، ويمضي بنا ليتحدثَ في الفصلِ الذي يليهِ عن قصتِه مع “غورباتشوف” و”يلتسين”، وقد ذهبَ سفيرًا للاتحادِ السوفيتي، ويشهدُ هناك الانقلابَ على مهندسِ “البروسترويكا” ونهايةَ حقبةِ السوفييت البلاشفة، ويعودُ للرياضِ كي يستبدلَ أوراقَه كسفيرٍ لروسيا الاتحادية، ويصيحُ به الأمير سعود الفيصل -يرحمه الله- أوَّلَ ما يراه: “إنْتْ عَمَلتْ إيه؟”. فيفزعُ ذلك الفزعَ، ويردفُ سموُّه ضاحكًا: “فككتَ الاتحادَ السوفيتيَّ وجِيْت؟”، وينخرطانِ في ضَحكٍ أخويٍّ، بين مُعلِّمٍ قديرٍ وتلميذٍ لمَّا يزلْ يلهجُ بالحمدِ والشكرِ لأستاذِه الملهمِ في الدبلوماسيةِ والسياسةِ والفكر -يرحمه الله-.

ينتقلُ معالي د. خوجه في كتابهِ ليحدِّثَنا -كسفيرٍ في المغرب- في الفصلِ السادسِ عن حكايا الملكِ الحسن الثاني، وتلاوةِ “مدائحه النبوية” لقصائدهِ أمامَ جلالتِه، وقد أوعزَ الملكُ لقراءتِها في مجلسِه الرمضانيِّ الشهير، وينتقلُ سفيرُنا اللامعُ د. خوجه للحديثِ عن سفارتِه في لبنانَ بالفصلِ السابعِ، مُسهبًا بطريقةٍ مذهلةٍ، جعلتني أجزمُ وأنصحُ من يريدُ الأفضلَ كتابةً وشرحًا للخارطةِ السياسيةِ والطائفيةِ والدينيةِ في بلدِ الأرز، والولاءاتِ المتشعبةِ لأولئك المرتزقةِ من أمراءِ الحربِ، وطلاسمِ ذلك البلدِ المُعقَّد؛ قراءةَ هذا الكتابِ، الذي لم أرَ أحدًا كتبَ في الشأنِ اللبنانيِّ بهذه الرؤيةِ العميقةِ مثلَ معاليهِ، وما يعطي حديثَهُ ثقلًا وعمقًا أنه كان يروي مباشرةً بمن التقاهم هناك، وكان رجلَ السياسةِ السعوديةِ في تلكَ الديارِ، وما خلصَ له من انطباعٍ ويقينٍ.

في الفصلِ الأخيرِ تحدثَ معاليهُ عن وزارتِه للثقافةِ والإعلامِ، وتلكَ حقبةٌ شهدتُها معهُ كإعلاميٍّ، وأيمُ اللهِ تعالى إنه كانَ الأبَ حقًّا لكلِّ الإعلاميين، ووقفَ بصفِّهم، وناضلَ لأجلِ حقوقِ الأدباءِ كذلك، وتركَ بابَ مكتبِه مفتوحًا لكلِّ المثقفين والإعلاميين الذين تقاطروا عليهِ بمشاكلِهم، وهو بوجههِ السمحِ، ورحابةِ صدرِه يحدثُهم ويوجهُهم.

بعدَ هذا الاستعراضِ السريعِ للكتابِ، سأدلي ببعضِ رأيي، إذْ أتمنى على معاليهِ التفرغَ للكتابةِ، فالكتابُ يُخلِّدُ صاحبَهُ، وقد أوتيتَ -معالي الوالد- قريحةً شعريةً فارهةً، جعلتكَ تكتبُ ب”السهلِ الممتنعِ”، وهو الأسلوبُ الأصعبُ الذي لا يسطيعُه أيُّ كاتبٍ، وأتفهمُ أنك بتَّ وجيهًا شاهقًا من وجهاءِ المجتمعِ، تتوالى عليكَ الدعواتُ التي لا تنتهي لمكانتكَ في نفوسِ أحبتِكَ، وأنتَ بكثيرٍ من أدبِك وخلقِكَ وتواضعِكَ تُلبِّي لهم، فليتكَ -معالي الوالد- تخففُ ذلكَ، وتكتفي بلقاءِ الجمعةِ في دارتكَ، وتستفرغُ الذهنَ والطاقةَ والفكرَ والوقتَ لتأليفِ الكتبِ، مستدعيًا الأحداثَ والمواقفَ مع صُنَّاعِ القرارِ والملوكِ والرؤساءِ من ذاكرتِكَ الملأى والحاضرةِ بمرحلتِكَ العمريةِ التي تعيشُ والحمدُ لله.

وأتمنى عليك -معالي الوالد- أن تبدأ بحواري وأزقَّةِ مكةَ التي نشأتَ وترعرعتَ فيها، وإن مرَرتَ لمَمًا بها في كتابِكَ، إلا أنني أتمنى أن تتوسَّعَ بها لتكونَ كتابًا لوحدهِا تلك الحقبة، فقد أدمعتني بسردِكَ لوفاةِ شقيقتكَ فتحيةَ، والطريقةِ التي ماتت بها، وأبهرتني برصدِكَ لدورِ ومكانةِ وهيمنةِ المرأةِ المكيةِ على البيتِ والتربيةِ والتوجيهِ، وكنتُ تمنيتُ عليكَ أن تتوسَّعَ في هذا الجزء، وتتحدثَ عن شخصياتِ تلك الفترةِ، وأسلوبِ الحياةِ التي ذكرتَ نتفًا منها.

لا تجبْهني -معالي الوالد- بقولِكَ أنَّ هناكَ من كتبَ، لأنني كقارئٍ أو مهتمٍّ أو باحثٍ، سيكونُ البونُ كبيرًا بين كاتبٍ بحجمِكَ، وكاتبٍ آخرَ من أسناني أو أقلَّ -مع احترامي الكاملِ لكلِّ من كتبَ- لا يصلُ أبدًا لقامتِكَ، وخبرتِكَ، والفتراتِ الزمانيةِ التي أدركتَها، وقد ولدتَ في الأربعينياتِ من القرنِ الفارط، وشتَّانَ بين مَنْ يَكتبُ نَاقلًا، ومَنْ يَتحدَّثُ كمُعاصرٍ وشاهِدٍ على ذيَّاك العصر.

كم توقفتُ طويلًا، وأعدتُ قراءةَ هذه الفقرةِ التي تنمُّ عن أدَبٍ عَالٍ، وخُلقٍ اختصَّ بِهِ الخالقُ بَعضَ خَلقِه، وقتما جاءَ الأمرُ بإقالةِ الأستاذِ رضا لاري، رئيسِ تحريرِ صحيفةِ “عكاظ”، وعدمِ وضعِ اسمِه في ترويسةِ الصحيفةِ في عددِ الغد، وكانَ معاليهُ إذ ذاكَ وكيلَ الشؤونِ الإعلاميةِ في وزارةِ الإعلام، فسارعَ لإبلاغِ رئيسهِ معالي د. محمد عبده يماني، الذي كانَ وزيرَ الإعلام، فتنصَّلَ من ذلكَ، وقال له: “الأمرُ وصَلكَ أنت، فعليكَ أنتَ إبلاغُهُ”! وتصوَّروا ألمَ وفجيعةَ الخبرِ على رئيسِ التحرير، فاتصلَ د. خوجه بالأستاذِ رضا لاري، وبادرهُ بشيءٍ من العتاب: “يا رضا.. حرامٌ عليكَ، هكذا تستقيلُ، ونحنُ بأمسِّ الحاجةِ إليكَ!”، ليردَّ لاري منفعلًا ومصدومًا: “أنا لم أستقل!”، ليجيبهُ معاليهُ: “استقالتُكَ الآنَ أمامي، وأنا حزينٌ جدًّا لأننا قبلناها، وألَّا نرى اسمَكَ في الصحيفةِ من الغد”. بالطبع فهمها لاري تمامًا، وثمَّنَ لمعاليهِ هذا الأسلوبَ في إبلاغهِ، وحفظَ ماءَ وجههِ، ومراعاةَ مشاعرِهِ في تلكَ اللحظةِ.

ما يجعلُ قراءتَكَ ماتعةً لحدِّ الغيابِ الكاملِ عمَّن حولَك؛ مَحبتُكَ لمن تقرأُ له، فكيفَ وأنتَ تدينُ له بمعروفٍ كبيرٍ وموقفٍ نبيلٍ فوقَ محبتِهِ، لذلكَ تجدني وأنا مُنهمكٌ في قراءة الكتاب، لا أدري عن الوقتِ، وسجَّلتُ بقلمي ملاحظاتٍ عدةً وَددتُ التعليقَ عليها، بيدَ أنني خشيتُ طولَ المقالةِ، وإلَّا فمن يقرأُ لمثلِ هاتهِ المذكراتِ يخرجُ بكثيرٍ من التاريخِ والعظةِ والمواقفِ.

من المحطَّاتِ التي توقفتُ فيها طويلًا؛ ما قالهُ معاليهُ لعبدالرحمن اليوسفي، أحدِ أبطالِ المقاومةِ في المغربِ، والأخيرُ كانَ مُعارضًا للملكيةِ، وبقيَ في المنفى لسنواتٍ طويلةٍ حتى صدرَ عفوٌ عنهُ من الملكِ الحسنِ الثاني، وعادَ ليرأسَ الحزبَ الاشتراكي المغربي، وانخرطَ في العملِ السياسيِّ، ووصلَ لرئاسةِ وزراءِ المغربِ في العامِ 1998 – 2002م، وقتما قال لهُ د. خوجه: “أنا أرى أنَّ وجودَ الملكِ والأسرةِ العلويةِ ضمانةٌ لاستقرارِ المغربِ وازدهارهِ”، فأيَّدهُ اليوسفي، وأكدَ أنَّ ما قاله هو خلاصةُ ما توصَّلَ لهُ بعدَ رحلةٍ طويلةٍ من نضالهِ ومعارضتهِ، وبمجردِ قراءتي لذلكَ تمتمتُ في نفسي: “ليتَ أولئكَ المارقينَ من أبنائنا يقرؤونَ ما قالهُ، ويرتدعونَ، بدلًا من أن يكونوا مَحارمَ ورقٍ في يدِ الغربيِّ والفارسيِّ والتركيِّ يستخدمونَهم ضدَّ وطنِهم وأهليهم والأرضِ التي ينتمونَ مهما تنكَّروا”.
كتابُ “التجربةِ”: مَلامحُ أمكنةٍ، وسُحناتُ بشرٍ، وتأريخُ مدائنَ، وتفاصيلُ سياسةٍ، وغوصُ أحداثٍ.. يا لهُ من كتابٍ!

 

*إعلامي وكاتبٌ صحفيٌّ

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود