1001
15717
0245
0613
01075
018
041
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04785
04756
04676
04416
17
هبة عطية*
كنت أراها دومًا في الحي، تمشي بلا وجهة، بلا هدف، ترتدي ملابس قذرة ومهترئة، وتفوح منها رائحة كريهة، يبدو أنها لا تستحم أبدًا. تدخل أي مقهى أو مطعم أو محل بقالة وتأخذ ما تريد دون أن يعارضها أحد. ذات يوم، وأنا في العاشرة من عمري، سألت والدتي من تكون هذه المرأة؟ ولماذا هي هكذا؟ وأين أهلها؟
أجابت أمي: “إنها بلهاء الحي. يُحكى أنها كانت من أجمل فتيات الحي، وكانت ملامحها أجنبية، ما جعل أعناق الرجال دائمًا تتجه نحوها. لكنها لم ترضَ بأي منهم، ولا أحد يعرف السبب. بالطبع كثرت الأقاويل والافتراءات، والحقيقة وحدها يعلمها الله. لكنها في النهاية بقيت وحيدة. رحل أفراد عائلتها ولم يبقَ إلا أخ واحد، استولى على شقتها وألقى بها في غرفة فوق سطح أحد المنازل، ومنذ ذلك الوقت صارت بلهاء الحي”.
مرت عشرة أعوام أخرى، وماتت بلهاء الحي، وماتت معها قصتها، لكن صورتها ظلت بداخلي. وظهرت في الحي فاتنة أخرى هي أنا، لا أملك ملامح أجنبية مثلها، لكنني أمتلك جمالًا صارخًا يدير أعناق الرجال ناحيتي، ويثير حسد الفتيات ويشعل الغيرة في قلوبهن. افتخر والدي بعدد الخُطَّاب الذين يطرقون بابه ليل نهار، وكنت أقول: ليس بعد، ما زلت صغيرة. وحين قرر قلبي أن يحب، تعلق بابن الجيران. لم يكن شديد الوسامة، لكنه كان خلوقًا هادئًا، وذا عينين قويتين، أحببتهما وأحببت نظراته الخجولة وابتساماته الرقيقة التي لاحقتني. لم يكلمني يومًا، كنت أنتظره أن يفعل، فأنا مهما حدث لن أبدأ بالتعبير عن مشاعري. اكتفيت بتبادل النظرات، ولم يكن كافيًا لي، لكن هذا كان قراره. عمل كمهندس في إحدى الشركات الخاصة كما سمعت، لكنه كان طموحًا، فقرر السفر للخارج. وعلمت بذلك حينما رآني في شرفة غرفتي، فألقى لي حجرًا ملفوفًا بورقة. فرحت كثيرًا؛ أخيرًا سيتحدث إلي، سيخبرني كم يحبني. فتحت الورقة وقرأت:
“سأسافر لبلد أجنبي، وحين أعود سأقدم لك كل ما تستحقينه. أنت تستحقين كل شيء جميل مثلك، انتظريني”.
نظرت إليه وأنا غاضبة. من قدّر لي ما أستحقه؟ ومن طلب منك أن تقدم شيئًا لم أطلبه؟ وددت لو تحدثت معه وأخبرته أني لا أريد شيئًا، فقط الحب. لكني لم أكلمه، وسافر دون أن يكون لي حق وداعه، ودون أن يكون لي حق مراسلته. كنت في صراع مع نفسي؛ أأنتظر؟ أم أنسى؟ وهيهات أن يقرر العقل شيئًا لا يريده القلب. انتظر قلبي رغمًا عن عقلي وعن أهلي الذين أدركوا رفضي المتواصل وغير المبرر للخطاب. توالت الأعوام وأنا في انتظار رسالة أخرى من طائر الحب، عامًا تلو العام، لكن الرسالة لم تأتِ. يبدو أن الطائر ضل الطريق، أو أن أحدهم ذبحه وأكله وأحرق الرسائل.
تلاشت ملامحه من مخيلتي، كما تلاشى الحب من قلبي، حتى أدرك عقلي بعد عشر سنوات أنه لن يعود، وأن عليَّ أن أقبل بأحد الخطاب قبل أن أقترب من لقب “عانس”. تأخرت، أعلم، لكنه قرار ليس بيدي. حان الوقت أن أمضي في طريقي، لن أستسلم للقدر. استراح والدي أخيرًا بعد أن سمع قراري؛ سأتزوج ممن ترونه مناسبًا، لم تعد أوهام الحب تليق بي بعد الآن.
وإذا بالحي يذيع الخبر؛ لقد عاد الغائب. لم يعد أحد في بيتهم، فقد ماتت والدته منذ عامين، وسافرت أخته مع زوجها للخارج. سمعت صوتًا خافتًا يأتي من ركن بعيد ومظلم في مكان ما في قلبي يقول: “لقد عاد من أجلك، ما زال يحبك”. لكن السلطة بيد عقلي الآن، فأخمد هذا الهمس الذي لا يليق بما أعلنته مؤخرًا عن أوهام الحب.
ظهر صوت آخر في عقلي، أو ربما فضول القطة، يقول: “لماذا عاد؟ يجب أن أعرف.” معي رسالة خطية تؤكد ملكيتي لهذا الحق. قررت الذهاب لأفهم السر، لا لشيء آخر، أو لعله اختبار من عقلي لقلبي، كيف سيتصرف في حضرته. ذهبت إلى شقته ولم أتردد لحظة، وجدت الباب مفتوحًا، لم أقرع الجرس ولم أطرق الباب. وجدته أمامي مباشرة، ما زال هو، مع بعض الشعر الأشيب الذي يزيده جمالًا. تبًا لي، لماذا لم أفكر ماذا سأقول له، وكيف أبدأ الكلام؟ ثبتت عيناي وكل أعضائي، لكنه لم يمهلني كثيرًا، إذ جاء صوت ابنته وزوجته من الداخل يتحدثان بالإنجليزية: “دادي… دادي…”
أخيرًا سمعت صوته: “أهلًا وسهلًا، مَن حضرتك؟”
لم يعرفني حتى، لم يتذكرني. شعرت بالغضب؛ وددت لو أخرجت الرسالة وأحرقتها في وجهه، وددت لو أمسكت بالحجر الذي ألقاه لي ذات يوم وألقيته على رأسه وكسرته. لكني لم أفعل. وددت لو قلت له: “أنا فاتنة الحي، أنا حبك الأول، أنا ذكرى محطمة، أنا إحدى ضحايا وهم الحب، أنا أي شيء تريد أن تقوله.” لكنني لن أكون يومًا… بلهاء الحي الجديدة.
كل ما قلته: “آسفة، لقد أخطأت العنوان”.
*كاتبة من مصر
التعليقات