18
041
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04785
04756
04676
04416
17
د. هاني الغيتاوي
ننتقل إلى صداقة استثنائية بين فيلسوفيين كبيرين هما “هاينريش كارل ماركس وفريدريك انجلز”، فالصداقة التي جمعت بينهما تعد –بحق– من العلاقات التي تأصل للفضيلة ولقيمة الوفاء غير الملوث بشبهة، والعطاء الذي لا ينطوي على منٍّ، فصداقة الفيلسوفين استمرت بعد وفاة أحدهما، فعندما توفى كارل ماركس، تعهد انجلز بإنهاء المشروع الفلسفي والفكري الذي تعاهدا عليه معًا، فقام انجلز بانهاء الجزء الثاني والثالث من كتاب (رأس المال) لصديقه كارل ماركس، الذي لم يستطع إنهائهما في حياته بسبب الفقر والعوز والحاجة، مكتفيًا بالجزء الأول، فأكمل انجلز من بعده، غير مدخر لجهد ولا وقت ولا وسع في ذلك، ويكفي أن المجلد الثالث عكف عليه انجلز ثمان سنوات من عام 1885إلى 1893.
هذه الصداقة كانت مثار فخر وزهو لعدد من الذين عاصروها، ولقد ظل (لينين) يباهي بها ويتخذها مثالًا وأنموذجًا حيًا لقيمة الفكر الشيوعي والاشتراكي، بل تمادى في زهوه بأن طالب من النظام الرأسمالي أن يذكر له مثالًا حياتيًا لصداقة تشبه صداقة الفيلسوفين.
بدأت الصداقة بين ماركس وانجلز عندما تعرّفا على بعضهما في باريس عام 1884م، ومن وقتها توطدت علاقتهما، وتعاهدا على العمل معًا لنشر أفكارهما التي تعمل على مساعدة الطبقة العاملة ودرء الظلم الواقع عليهم في كل أنحاء العالم، وبالفعل بدأ في العمل والنضال المشترك فقاما بعدد من الأعمال الميدانية والفكرية، فأسسا معًا لجنة المرسلات الشيوعية في العاصمة البلجيكية بروكسل، ووضعا الأسس الفكرية للاشتراكية العلمية، وينسب إليها كتابة وإعداد أعظم بيان عرفه التاريخ (البيان الشيوعي ) الذي ظل يشغل كل الأوساط الأدبية والسياسية في العالم كله، ولا يستطيع أي أدب سياسي ثوري في العالم أن يتجاوز هذا البيان أو أن يبخس من قيمته أو تأثيره الذي ما زال أثره موجودًا حتى الآن.
ورغم أن العالم كله إذا ذكرت الشيوعية أو الماركسية أو الاشتراكية، ذكر كارل ماركس، باعتباره الأب الروحي، لكن في الحقيقة كان هناك صديق وفيٌ بذل وأعطى وساند وكان خير معين لصديقه ماركس، ولولاه لم تحقق للشيوعية هذا الزخم والانتشار ولم يحقق كارل ماركس هذه الشهرة وهذا الصيت، فانجلز شريك فاعل في ذلك، فقد ساهم ماديًا ومعنويًا وفكريًا في ذلك، فمن الناحية المادية كان مساندًا لصديقه الذي كان يرزح تحت الفقر والعوز، فكان يمده بالمال والمنح لكي يتم مشروعه يقول ماركس في أحد رسائله لانجلز “لقد انهيت هذا الجزء أخيرًا، إنني مدين لك في إمكانية إنجاز ذلك، فبدون تضحياتك الشخصية من أجل تقديم الدعم كان من غير الممكن بالنسبة لي الاستمرار في العمل الشاق من أجل وضع الأجزاء الثلاثة”.
لولا المساعدات المادية التي استمر انجلز يساعد بها صديقه ماركس طوال عمره، لم يكن لينجز ما أنجزه.
هذا على الصعيد المادي، أما على الصعيد المعنوي والفكري، فكان انجلز خير معين لصديقه ماركس، ففي بدايات ماركس ظل لمدة عشر سنوات يكتب مقالات بصفته مراسلًا، وكان يتقاضى عن كتابتها أجرًا يساعده في حياته ودراساته، كان انجلز يساعده في كتابة عدد من هذه المقالات.
كما أن انجلز هو من قام بوضع مسودة البيان الشيوعي وعرضه على ماركس الذي قام بقراءته ووضع الصيغة النهائية له، وأسس انجلز مع ماركس الرابطة الشيوعية، كما أن الجزء الأول من كتاب رأس المال لماركس استعان فيه بالكثير من أفكار انجلز المنشورة في كتابه (أحوال الطبقة العاملة في إنجلترا).
حتى في ظل أزمات ماركس، كان من ورائه انجلز دائمًا يشد من أزره ويعينه، وماركس نفسه كان ليخفف عن نفسه الأزمات كان يراسل انجلز يكتب إليه من داخل السجن عام 1884 م، يقول له “رغم كل شيء فإن البركان الثوري الانفجار الشامل لم يبد قريبًا كما هو الآن، والتفاصيل فيما بعد”.
حتى عندما توفت (جيني) زوجة كارل ماركس، كان انجلز معه يسانده في مصابه لم يتركه، حتى أنه ساعده بنقله هو وأسرته في مكان آخر ليسكنوا فيه، وقام بدفع كل المصروفات.
لم تتوقف مساعدات انجلز لماركس حال حياته، بل استمرت بعد الوفاة وساهم في نشر أفكار صديقه وأفكاره، ومشروعهما معًا، ورغم مساهماته الفعالة في هذا المشروع على كل الأصعدة والنواحي، لكنه بكامل الرضا وبعظيم الامتنان، يفضل أن يكون في ظل صديقه ماركس فكتب يقول “لقد كنت دائمًا عازف الناي إلى جانب ماركس”.
وكما كتبا الصديقان أعظم بيان شيوعي عرفه التاريخ، كتبا وبحروف من نور صداقة استثنائية استمرت بعد وفاة أحدهما، تدلل على الوفاء المجرد من الشبهة والعطاء المنزوع من الرياء والمن.
ومن الصداقات التي تعتبر استثنائية أيضًا، وتشبه إلى حد كبير صداقة ماركس وانجلز، صداقة (فرانز كافكا وماكس برود)، هذه الصداقة التي لم تقطع رباطها وفاة كافكا، فقد امتدت بعد وفاة الأخير، فقد كان برود هو المنفذ الأمين لوصية كافكا بعد وفاته، ويظهر إخلاص برود لصديقه في تعامله مع وصيته، فقد طلب كافكا من برود أن يحرق جميع أعماله غير المنشورة؛ لكنه لم يذعن لما كتب فيها، وقام بنشر جميع الأعمال غير المنشورة له، ونتيجة لمجهودات برود والتقديم الفريد والدعاية لصديقه والثناء عليه ومدحه وتصنيفه كواحد من أعظم الشعراء، ووضعه رفقة أدباء عظماء كجوته وتولستوي، لاقت أعمال كافكا الشهرة والذيوع والانتشار وأقبلت عليها الجماهير مدفوعة بالشغف والفضول.
منذ أن تعرفا على بعضهما البعض، وتوضدت بينها صداقة عميقة، ألقت هذه الصداقة بظلالها على كافكا الذي تفيأ ظلالها، ونعم بها فقد كان برود يدعم ويساند صديقه المضطرب الذي يشك في كتاباته، فكان يربت عليه ويطمئنه مشجعًا له في أن ينشر، وظهر هذا العمق في الصداقة والتقارب الروحي من خلال رسائل كافكا لبرود، هذه الرسائل التي أظهرت مدى وفاء وإخلاص برود لصديقه، يقول كافكا في أحد رسائله “أتعرف يا ماكس حبي لك أكبر مني ويسكنني، أكثر مما يسكن نفسي، ويبدو غير مؤكد نظرًا لطبيعتي الهشة، لكن في الحصاة الصغيرة يوجد منزل حجري… باختصار لقد أحضرت لك أجمل الهدايا بعيد ميلادك وسأعطيها لك، مع قبلة قد تعبر عن الشكر المستحيل بأنك هنا”.
إن الصداقة هنا كانت تهدف إلى الفضيلة، لذلك كتب لها الديمومة والخلود، لقد كان الفضل لماكس برود في أن يعرف العالم، هذا الفيلسوف والروائي الذي يعد من أهم الكتاب في العصر الحديث، والذي استطاع بفكره المتفرد وحسه المتوقد المرهف ووجدانه المتألم وروحه المعذبة أن يسبر أغوار النفس الإنسانية وأن يستخرج كل ما فيها من أسرار ومتناقضات، ليرسم لنا صورة إنسان العصر الحديث المنزوع المبادئ والقيم، الساقط في وحل المادة.
لقد أرشدنا برود لكاتب ملهم علمنا كيف نقرأ، ليس للمتعة والترفيه أو المعرفة، بل للتفكر وللتأمل، والخروج على القوالب الجامدة، وإحداث ثورة جنوح للنفس والروح نحو الترقب والقلق، يقول كافكا ” إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ إذن؟ إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة وتجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا.
ومن الصداقات التي يشار إليها بالبنان في مجال العلم والأدب والفلسفة وينطبق عليها قول “أبوحيان التوحيدي” في كتابه (الصداقة والصديق) “وأمَا الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من الدسائس والتحاسد والتمادي والتماحك، فربما صحت لهم الصداقة، وظهر فيها الوفاء وهذا القليل من الأصل القليل” صداقة الشاعر الألماني “يوهان فولفغانغ جوته”، والشاعر الألماني والكاتب المسرحي “فريدرش شيللر” إذ كانت تربطهما صداقة قوية، نأت بهما عن المنافسة والتحاسد والأحقاد كما أشار التوحيدي، وظل على هذا الحال من الوفاق والائتلاف والتعاضد رغم التنافس بينهما كشاعرين كبيرين، لكن صدقاتهما كانت فوق كل منافسة، ورغم محاولة البعض بث روح الفرقة بينهما، لكن صداقتهما كانت راسخة كالطود العظيم، لم يستطع أحد زحزحتها قيد أنملة، فالحب وروح والتعاون والوفاء كانت المعطيات التي غذت صداقة الشاعرين، كتب شيللر إلى جوته يقول “وإني لآمل أن نسير ما بقي من طريقنا معًا، ولآمل أن يكون في ذلك نفع أكبر، فإن رفقاء السفر الذين يلتقون متأخرًا بعد رحلة طويلة يكون لديهم بقدر التأخر ما يحكيه بعضهم للبعض الآخر” ورد جوته على رسالة شيللر ردًا عمليًا، فتعاونا مع بعضهما وأثرى الساحة الأدبية بعدد من الأعمال الرائعة التي تعد من أجمل الكلاسكيات الألمانية.
استمرت صداقة جوته وشيللر ما يربو عن عشرة أعوام، بدءًا من عام 1792م حتى وفاة شيللر عام 1805م، وحزن جوته لرحيل أعز أصدقائه حزنًا شديدًا، فقال جملته الشهيرة التي تؤصل لعمق الصداقة وقدسيتها “لقد ضاع مني بضياعه نصف وجودي”.
وظل جوته يعاني من ألم فقد صديقه، فقد رحل عنه من كان يقاسمه آلامه وآماله، وشريك دربه ورفيق كفاحه في نشر الفن والجمال والإبداع.
لقد حفل عالم الأدب والفلسفة والمبدعين بالصداقات الكثيرة والمثمرة التي تنبثق عن التواد والحب والتعاون والمشاركة والمساندة، ولم تخل من الصداقات التي كان يكتنفها الغموض وحب المصالح والحسد والمكر والتباغض وإضمار الشنآن، ومن خلال الأمثلة التي أشرت إليها سابقا، أجد أن المثمرة أكثر من غيرها، وربما لهذا السبب قد ينطبق قول أرسطو أن أرفع أنواع الصداقة التي تكون بين الفلاسفة، ربما لأنهم أكثر الناس بحثًا عن الحكمة والفضيلة، وإن كنت أؤيده في ذلك، لكن ليس على إطلاقه، فهناك فلاسفة وأدباء ومبدعين ولوا ظهورهم للصداقة وتجنوا عليها، فشوبنهاور عوضًا من أن يعضد علاقته مع هيجل، ظل طوال حياته يهاجمه، وسارتر انتقد كامو ، بل جفاه لفترة كبيرة حتى وفاته، وفي المشرق انتشرت حروب ضروس بين أدباء كبار تجاوزت الموضوع، أهم هذه الحروب كانت بين مصطفى صادق الرافعي وطه حسين وعباس محمود العقاد المنفلوطي، وغيرهم من الأدباء.
إن الصداقة الحقة قيمة وجدانية وروحية وإنسانية، يظهر فيها الحب والإخلاص والوفاء، ربما ينبغي ألا يكون طرفا الصداقة متشابهين في كل شيء، لكي يجمعهما قاسم الصداقة، بل يكون هناك ما يجعلهما على وفاق ليقتربا من التكامل، وأهم الأسس التي تبنى عليها الصداقة الإخلاص والوفاء، فلولا الإخلاص والوفاء ما استمرت صداقة ولا أتت أكلها من حب وإيثار وتضحية.
ومن خلال تتبعي لسير الفلاسفة والأدباء المبدعين، وجدت أن صداقة الفضيلة هي أجل أنواع الصداقة، فهي التي تبقى ويكتب لها الدوام والاستمرار، فلولاها ما تعرفنا على فكر ماركس، ولا إبداعات فرانز كافكا، ولا اطلعنا على أدب وفكر وديموقراطية روسو، ولا اطلعنا على فلسفة سقراط التي تعد النبت الأول للتراث الفكري والفلسفي، فمن خلال صديق وفي (أفلاطون) اطلعنا على هذه الفلسفة التي صاغها أفلاطون بأسلوب محاوراته الشهير.
* كاتب مصري
التعليقات