158
0885
0299
0665
0311
018
041
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04784
04756
04676
04416
17شمعة جعفري*
حنونة تحب من حولها ويحبونها. نشيطة كأنما من الشمس جاءت… بسيطة كأنما جمعت الفقراء في ردائها.
كانت «سعاد» قد بلغت العقد الثالث للتوّ، حين ذهبت إلى جارتهم «أم سعيد» في مساء الجمعة، تتسامران وتتضاحكان وتمضيان وقتهما أمام التلفاز الضخم، أوفي حديث باسم عن ذكريات «الأم تيريزا»، أختها «منى»، كما كانوا يلقبونها في الحي!
وبينما هما جالستان، دق الباب أحد المحتاجين، نظرت «سعاد» لـ«أم سعيد»، فلم تتحرك الأخيرة كأنها لا تسمع، دق الباب مرات عدة لكن لا مجيب… أخبرت «سعاد» جارتها بأن دقة الباب هذه ملوحة وغير طبيعية… «لمَ لا تفتحون له وتنظرون من هو؟».
ردت «أم سعيد» في ضيق: «إنها فلانة السائلة.. وأخبرته مرتين ألا تفكر بالمجيء ولا تدق بابنا مرة أخرى، لكنها لا تفهم. صدقيني يا سعاد أنتِ ما زلت صغيرة. إنهم أناس لا يشبعون، جعلوا التسوُّل مهنة لهم».
جادلت «سعاد»: «علمتني أختي أن أعطي من يستحق ومن لا يستحق فيعطيني الله ما أستحق وفوق ما أستحق».
نظرت «أم سعيد» بضيق، متبرمة، ثم ذهبت لتخبر خادمتها بأن تحضر الشاي والقهوة.
ارتفعت دقات الباب، وصوت بكاء طفل صغير يشقُّ سكون الليل... ترددَتْ لثانيتين، قالت لنفسها: «ليس بيتي»، لكنها حسمت أمرها بعد دقة تالية؛ وأسرعت إلى الباب؛ فإذا بأم ومعها طفل رضيع على صدرها، «يموت»، كذا قالت، «جف لبن صدري… وليس لديَّ ما يكفي لشراء علبة حليب». وانخرطت في نوبة بكاء. لعلها كاذبة… لكن دموع هذا الطفل، أتكون كاذبة؟! إغماضة عينيه، وشكل جسده المتقلص، يشبه أطفال المجاعات. «إنه يموت»، قالتها الأم السائلة، وأُغشي عليها أمام الباب نصف المفتوح، والطفل… الطفل سلم عينيه إلى حملقتهما الأخيرة، ثم أغمضهما... وارتعش جسده ثم برد فجأة، واستسلم لظلمة الموت وهو باسم!
صرخت ابنة العشرين ملتاعة؛ طفل يفقد الحياة على يديها. المعجزة أن يولد طفل على يديك؛ أن ترى خروج الحيِّ من الحيِّ، أما أن تشهد موت معجزة في يديك، فهي المأساة. إنه الظلام الأسود من المعتاد، والبكاء الذي لا يخفت، ودرجة الحرارة التي تهبط للأسفل، والوعي الذي يختفي. إنه غياب الحياة، مظلمة التألم الصامت، انكفاء التشريعات والأحلام. إنه التوقف، أو هو السير إلى الخلف… أفول نجم وضياع أمل!
تتذكر وصايا أبيها ذات صيفية، يحتسي قهوته، محتضنًا ابنتيه: «ليس للفقير غيركما بعد الله، المال مال الله، والفقراء عيال الله، والأغنياء وكلاء الله، فإن بخل الوكلاء على العيال، أذاقهم الوبال»، ثم يدغدغ إحداهما فتقهقه!
لذا شهدت أختها الكبرى وهي تطعم الفقير وتؤويه، وشاركتها ابتسامتين بالمجان لكل عابر سبيل، كانتا تشتريان معًا من مصروفهما قمحًا، وتفردان كفيهما لتهبط الطيور آمنة، كانتا تبدوان مثل تمثالين إغريقين... «تطعمان أهل الأرض والسماء، هنيئًا لأبيهما بابنتيه»، يقولها عجوزان يسكنان الدار المقابلة، ويتحسران معًا على أبناء سبعة لا يزورونهم إلا لمامًا!
يقبل شهر رمضان فتعلمها «الأم تيريزا»، أختها الكبرى، أن تتأسى بالنبي، ريحا مرسلةً تصبحان، تتنقلان كأنما الأقدام عجلات سيارة مسرعة، تفاحة لكل بيت، لكل دار، لكل طفل، لكل امرأة.. تفاح تفاح تفاح.. ولو في غير موسمه، تشتريه أختها بالسعر الباهظ وتهديه إلى كل من تحب.. سألتها «سعاد» مرَّة: ولمَ التفاح؟!
ردَّت عليها: «لن تناولوا البر حتى تنفقوا مما…» فأكملت أختها: «مما تحبون». فنظرت واتسعت ابتسامتها، وقالت في براءة الأطفال: «وأنا يا أختي أعشق التفاح»!
لذلك ذات صباح حين كانتا على النبع، كانت آخر كلمات أختها لها وهي تلقي حجرًا في الماء: «انظري يا عزيزتي، هذا الحجر كم أثار حوله موجة هزَّت النبع كله؟!»، ابتسمت «سعاد»: «نعم، أرى»، فقالت أختها: «كذلك عمل الخير.. ينتقل أثره ويتسع ويصيب كل إنسان ولو بقدر ضئيل»، قالتها وانخرطت في نوبة سعال متواصلة، لم تنته حتى ودَّعت الحياة. لم تبكِ «سعاد»، نفذت وصية أختها، وبعد الدفن أخبرت أبوها بما أوصت به الراحلة، باكيينِ قاما بنصب موائد الطعام في قارعة الحيّ، ورفع صواني اللحوم والأرز، وإطعام كل جائع يمر. مسحت دموعه، وذكرت أباها بأن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولم تعرف أختها إلا محسنة!
كان ما يقلقها أن أختها لا تزورها في «الحلم»، ولم تشهدها في «رؤيا».. «أفتقدك» كانت طوال الليل تبكي، ولا تهدأ الدموع إلا حينما يغلبها النوم!
أكملت «سعاد» وحدها المسير؛ في الأعياد تستيقظ قبل الفجر، من وقفة العيد تشتري حلوى وبسكويتًا وشوكولاتة وبالونات متنوعة بألوان الطيف، تكتب على كل كيس اسم الطفل أو الطفلة، مع قلب كبير، وعشرة ريالات من آخر ما لها، تسألها «أم سعيد» متبرمة: «كم تكسبين لتنفقي كل هذا؟!»، تردّ: «ما نقص مال من صدقة»، ثم تبتسم: «ولا من فرحة، تعرفين يا (أم سعيد)، أشعر بأنني لو توقفت عن هذه السُّنَّة عامًا واحدًا سأموت وألحق بأختي».
لم تمت، إنما مات هذا الطفل على يديها. كم من إثم تشعر به الآن، كم من خزي رأته في أعين أمه الصارخة، كم سبة لم تستحقها ألقتها الأم الملتاعة الثكلى، وكم ستكون مجرمة أمام أختها حين تلقاها.. أظلمت الدنيا في عينيها وأصابها الدوار، اجتمع أهل الحي، حملوا أم الطفل، واحتضنوها: «لا ذنب لها. إنها أم الخير. اختاره الله ليرحمه من المذلة»، وهم ينظرون في غضب إلى «أم سعيد» المرتبكة التي رفضت أن تفتح للعجوز!
شعرت «سعاد» بغصة تصعد من معدتها إلى عنقها. طلبت ماء، ثم بكت، بكت كما لم تبكِ من قبل، كما لم تبكِ على ضياع مالها، ولا وفاة أختها. احتضنتها نسوة الحي، وبكين، أشفقن على الصغير من إشفاقها، حركت فيهنّ حس الأمومة «حرمت الجنة على القساة»، قالتها وهي تنظر شذرًا إلى الجارة المتلكئة.
جاء أبوها وسط الجمع: «ما حدث يا ابنتي؟ جاءني الأطفال يهرولون، يرجونني أن أقوم إليك.. لا يطيقون أن يروا دموعك، ماذا حدث؟!».
«مات على يدي»، كذلك قالت، وما دَرَتْ بنفسها إلا في المشفى القريب، على سرير أبيض، يحيط به ملائكة في صورة أطفال صغار، وأمهاتهم يغالبن النوم، يبدو أنها نامت طوال الليل وهن سهرن لأجلها، اعتدلت فجريت الأمهات إليها، والأطفال على السرير يحتضنها، دموعها تهبط، تمسحها ألف كف.. «لا عليك»، كرروها حتى اطمأنت. تذكرت حلمها: رأت في نومها الطفل الفقير الصغير يقفز ضاحكًا، يصحبها إلى باب مهيب، يقول لها: «سأعبر إلى ما لا عين رأت، وأنت ابقي هنا فأمامك بعض الوقت»، ثم أشار إليها، فنزلت على ركبتها، فقبلها في وجنتها، ورحل ممسكًا بيد فتاة أخرى ممشوقة القوام، عرفتها «سعاد». إنها أختها منى.. التفتت منى، وحيت أختها باسمة، همت «سعاد» أن تجري إليها؛ أن تضمها في صدرها، لكن منى قالت لها في لطف: «ليس الآن»، وأرسلت لها قبلة في الهواء، وأمسكت يد الصغير ودلفا معًا من الباب.
تحكي هذا للطبيب، فيقول لها: «بالطبع لا يمكن.. الإغماء لا أحلام به»، فتقسم أنها صادقة! ويصدقها الأولاد، تصدقها الأمهات، يصدقها الآباء، حتى «أم سعيد» المتلكئة، صدّقت وبكت ليلتها نادمة.
في هذا العام، وفي يوم العيد صباحًا خرج كيسان لكل طفل؛ كيس «سعاد» وكيس «أم سعيد»!
لقد حرّك حجرها الماء الراكد!
*كاتبة من السعودية
التعليقات