261
0727
018
041
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04785
04756
04676
04416
17إعداد_ حصة البوحيمد
من سنن الحياة المتلاحقة تباين فصولها وتقلب أحداثها وبين المتضادات نعيش فرحاً و تارةً ترحاً، وقد جسد لنا أبو البقاء الرّندي هذا التباين في نونيته المشهورة والتي يقول في مطلعها:
لكل شيء إذا ماتم نقصان فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدتها دولُ من سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ
فقد تزج بنا صفعات القدر في وجه الألم وتسرق منا ضياء أرواحنا؛ لتترك لنا زمنًا كالحاً لا دِفء فيه ولا حياة.
تلك هي مواسم الفقد، ذلك الزائر الثَّقيل الذي يفاجئنا وفي معيته مراسم الحزن والبكاء، غير أَنَّ ما يحمد لهذا الزائر أَنَّه كان الملهم لكثيرٍمن الشعراء والأُدباء؛ ليسطروا لنا على صفحات الإبداع لوحاتٍ خالدةً شعراً ونثراً وفناً، يميزها صدق الشجن وسمو العاطفة، وحيث أَنّ أَشد الفقدِ ما كان سببه الموت فقد أَبدع العرب في شعر الرثاءِ على مفقودِيهم،
ولنا أن نقرأ من لواعج الفقد حروفاً لا يجف مدادها ولا ينضب مخزونها لتحتضن أرواحنا وترتل الجمال على أذواقنا، وعليكم أيها الأدباء والنقاد والفصحاء أن تحدثونا من خلال أرواحكم الأنيقة في هذه المحاورة الأدبية على صفحات فرقد الإبداعية عن أجمل ما تفتقت به لوعة الفقد شعرًا ونثراً، وما مداه أثراً وتأثيراً في أرصدة الثقافة والأدب مسترشدين بالمحاور التالية:
١–كيف تستثير أحداث الفقد الأدباء والمؤلفين ليحولوا فجائع الموت إلى مؤلفات حية؟
٢–هل ترون أن التأليف في ميادين الفقد له مهارات خاصة أم أن الأمر عائد لتفاصيل المشاعر بين الأديب والراحلين ؟
٣–ما مدى ارتباط هذا النوع من الكتابة بالذاتية وهل تسهم أحداث الفقد الخاصة في نفع المجتمع ثقافياً أم أن المنتج يظل في دائرة الذكريات الخاصة؟
٤– كيف ترون هذا النوع من الأدب ومستقبله وارتباطه بذائقة المتلقي وصناعة الإبداع وهل أسهمت سلسلة الكتب المتوارثة في تطوره؟
*الكاتب فنان وليس مندوباً لدى المجامع
ويبدأ حوارنا الكاتب والروائي أحمد الدويحي بقوله؛
لا أحب المحاور ولو كانت فنارات وعلامات في مدن التيه، وفوق هذا جاءت مفردة (تصنع) لتضعني مشبوهاً بالكتابة الإبداعية، مفتتح لا بد منه لتتضح الصورة.
كتبت رواية (وحي الآخرة) رواية ميتافيزيقية، تعني بالماورائيات في استشرافاتها، وكتبت بعد فقدي عبدالله ورامي أبنائي، جعلهما الله شفعاء لنا يوم القيامة.
وهنا مربط الفرس لأوضح بأني حينها، للتو فرغت من كتابة ثلاثية المكتوب مرة أخرى، والكتابة الجديدة لا بد لها من فضاء جديد، ولغة جديدة تجترحها من فضاء الرواية، وليس أكثر من القراءة سعةً وحلمًا في مواجهة الحزن والوجع، فكانت فكرة بطلة رواية وحي الآخرة تطل برأسها من بين شقوق الحزن والوجع، وحتمًا لن يتخيل أحد، بأني مضيت في حفلة حوار العين، ففكرة الطفولة في معية الصبا رعيانًا فوق جبال السروات نرعى البهم، ونمارس مهنة الآباء في مهد أساطير متوارثة، لم تصمد في مواجهة التحولات التي كانت، تعتمل في داخل الكاتب بلاتصنع.
وضعت نقطة في آخر السطر، وطويت الرواية وحي الآخرة ونسيتها، وكانت رواية مدن الدخان، تلقي بظلالها على سطح مكتبي، وتحضرني أسئلة تحضر عن طقوس الكاتب بعض الأحيان؟ ولمّا أتذكر الآن في بلوراما مقتصدة عن تجربتي، أرى الموت والجنون لصيقاي ورفيقا الحياة والكتابة، ولم تتوقف الأسئلة الفلسفية في رحم رواية وحي الآخرة.
سافرت إلى اليمن في رحلة ثقافية، وتفردت بالشاعر الراحل الكبير محمد الثبيتي عدة ليال في تطوافنا على مدن وقرى اليمن، فوجدت الرواية تكمل نفسها، ولذلك أهديتها إليه رحمه الله، وحي الآخرة تمتحن اللحظة، وترمز الدلالة، لا أقوى على المضي في طريق مرتين، فكان التجريب للبحث عن معنى ولو كان من قلب التاريخ، كالسيرة الذاتية في أيضا من ضفائر الحالة السردية، وفي هذه الحالة فالكاتب فنان يخلص لتشخيص وتجسيد نماذجه، وليس مندوبًا لدى المجامع يعالج عيوبًا وتشوهاتٍ مجتمعية في أي من حقول الحياة، ولأباس بأن يكون فكره وفكرته عنوان إضافة في معارف المجتمع.
*الفقد مرتبط بالحب وبدونه هو تأدية واجب
ويشاركنا الحوار الناقد المصري د. محمود الضبع حيث قال:
يرتبط الأدب في كل أحواله بالحس الإنساني، وتعد المشاعر من الدوافع الرئيسة له، إذ لا يمكن إنتاج أدب يخلو من التعبير عن الأحاسيس بشكل أو بآخر.
ومن المعروف أن العواطف أو الانفعالات الإنسانية تشملها تصنيفات أربع، هي: الرضا، والغضب، والحب، والكره، وتحت كل واحدة منها تندرج عشرات المشاعر والأحاسيس، فالسعادة والفرح والحبور والانتشاء والضحك والسرور، كلها تأتي تحت تصنيفة الرضا، في حين يأتي البكاء والحزن والألم… إلخ تحت تصنيفة الغضب، وهكذا.
غير أن هناك مشاعر وأحاسيس تنتج عن أكثر من تصنيف، ومنها الفقد، الذي يأتي مزيجًا بين الغضب والكره في آنٍ واحد، ولذا يكون تأثيره على الإنسان أكثر قسوة، ويمثل بالنسبة له الفاجعة التي تجعل الأرض تميد من تحت الأقدام، وتفقد الحياة معناها بالجملة، وإلا ما كان فقدًا بالمعنى المتعارف عليه.
من هنا مثلت حالات الفقد مساحة من الأدب العربي، منذ أقدم نماذجه وحتى لحظتنا الراهنة، بل إن البدايات الأولى التي يتم تاريخ الشعر العربي بها تدين إلى الفقد، فمن المتعارف عليه في تاريخ الأدب أن بدايات الشعرتعود إلى ما يقارب 250 عامًا قبل الإسلام، مع حالة الفقد التي عايشها المهلهل بن أبي ربيعة، نتيجة لفقد أخيه وسيد قومه “كليب بن أبي ربيعة” على يد ابن عمه وأخو زوجته “جساس بن مرة“، فيما يعرف بحرب البسوس التي استمرت بعد ذلك أربعين عاما، وكانت بداية التعبير عن هذا الفقد مع قصيدة المهلهل التي مطلعها:
كليب لاخير في الدنيا ومن فيها إن أنت خليتها فيمن يخليها
كليب أي فتى عز ومكرمة تحت السقائف إذ يعلوك سافيها
نعى النعاة كليباً لي فقلت لهم مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
ثم تلا ذلك تعبير جليلة بنت مرة (أخت جساس قاتل زوجها كليب) عن الفقد في قصيدتها الشهيرة التي تقول فيها:
يا قتيلا قوض الدهر به سقف بيتي جميعا من عل
هدم البيت الذي استحدثته وانثنى في هدم بيتي الأول
ورماني قتله من كثب رمية المصمى به المستأصل
كما يذكر التاريخ بعد ذلك رثائيات الخنساء في تعبيرها عن فقد أخويها صخر، ومعاوية، والتي تقول فيها:
بكت عيني وعاودها قذاها بعوار فما تقضي كراها
على صخر وأي فتى كصخر إذا ما الناب لم ترأم طلاها
والمتتبع لمسيرة الشعر العربي بعد ذلك سيجد الكثير من النماذج التي تعبر عن حالات الفقد، والتي تتنوع بين فقد الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت أو الزوجة أو الحبيبة أو الابن أو الابنة، إلى جانب بعض النماذج التي استطاعت التعبير عن فقد الزعماء أو القادة الذين كانت لهم محبة في القلوب، فالفقد يرتبط بالحب في المقام الأول، وبدون وجود هذه العلاقة، يتحول إلى مرثية قد تؤول إلى تأدية واجب اجتماعي، أو طلبًا لنوال كما كان يحدث مع الشعراء وتكسبهم بالشعر عبر التاريخ.
وهناك علامات دالة في تاريخ التعبيرعن الفقد، شاعت وانتشرت أكثر من غيرها في الشعرية العربية، ومنها تعبيرابن الرومي عن فجيعة فقد ابنه في قصيدته الشهيرة التي يبدؤها بمخاطبة عينيه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي
توخى حمام الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد؟
طواه الردى عني فأضحى مزاره بعيدا على قرب، قريباً على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها وأخلفت الآمال ما كان من وعد
ومن العلامات الدالة كذلك، ما سجله العصر الحديث من تعبير عن فقد الزوجة على وجه الخصوص، مع محمود سامي البارودي الذي كتب أطول قصيدة رثاء في زوجته، ثم مع عزيز أباظة وعبد الرحمن شكري، وكلاهما تعرض لتجربة فقد الزوجة، ولكل منهما ديوان كامل في التعبير عن هذا الفقد، “أنات حائرة” لعزيز أباظة، و “من وحي المرأة” لعبد الرحمن صدقي، يبدأ البارودي قصيدته المطولة:
أيدَ المنون قدحت أي زناد وأطرت أية شعلة بفؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فيلق وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بساحتي فأناخ أم سهم أصاب سوادي
أقذى العيون فأسبلت بمدامع تجري على الخدين كالفرصاد
ويعد موضوع رثاء الزوجة والتعبير عن فجيعة فقدها، من أكثر الموضوعات انتشارا في الشعر العربي منذ العصرالأموى، مروراً بالعباسي والأندلسي، وحتى العصر الحديث، وهو ما أثرى المكتبة العربية بعديد من الدراسات والكتب، ومنها كتاب محمد عبدالعزيز موافي في المقارنة بين ديواني أباظة وصدقي السابقين، و“ديوان رثاءالأزواج” لعمر الأسعد، وغيرها كثير من الدراسات والرسائل الجامعية.
أما نزار قباني، فقد تعرض لثلاث تجارب في الفقد عبر عنهما بكل مرارة، الأولى هي فقد أخته التي ماتت في ريعان شبابها، والثانية هي فقد ابنه توفيق، والثالثة فقد زوجته بلقيس، التي خصص لها ديوانًا كاملًا في قصيدة مطولة بذات العنوان، يقول فيه:
بلقيسُ..
مذبوحونَ حتى العَظْم..
والأولادُ لا يدرونَ ما يجري..
ولا أدري أنا.. ماذا أقُولْ؟
هل تقرعينَ البابَ بعد دقائقٍ؟
هل تخلعينَ المعطفَ الشَّتَوِيَّ؟
هل تأتينَ باسمةً..وناضرةً..
ومُشْرِقَةً كأزهارِ الحُقُولْ؟
بلقيسُ..
إنَّ زُرُوعَكِ الخضراءَ..
ما زالتْ على الحيطانِ باكيةً..
وَوَجْهَكِ لم يزلْ مُتَنَقِّلاً..
بينَ المرايا والستائرْ
والنماذج المندرجة في إطار التعبير عن لوعة الفقد لا تنتهي في الشعر العربي قديمه وحديثه، نظراً لأن كوارث الحياة لا تنتهي، وحوادث الأيام لا تتوقف، وهو ما يستثير المشاعر الإنسانية للشعراء، فتفجر المأساة التعبير عن هذا الفقد، وإن كان ذلك جميعه يظل مرهونًا بمقاييس يمكن استنتاجها من تاريخ الشعرية في التعبير عن هذه الفجائع، ومنها:
– وجود علاقة عاطفية تربط بين الفقيد والشاعر، سواء كانت هذه العلاقة ناتجة عن صلة رحم، أم حب، أم صداقة، وأحيانًا للتعبير عن رمز من رموز الأمة، مثل الملوك والزعماء والرؤساء الذين أحبتهم شعوبهم.
– وجود فجيعة في الموت ذاته، يرتبط بحادث، أو وفاة في سن مبكرة، وبخاصة مع فقد الأبناء، الذي يعد أكثرها لوعةً، وأعمقها شعرية، وهو ما يتكشف من خلال مراجعة نماذج الشعر العربي بدءًا بابن الرومي، ومرورًا بالشعرالمعاصر.
– تحقق الإمكان الشعري ذاته، فالشعراء الذين عبروا عن فقد أحبتهم، كانوا شعراء في الأساس، وحتى جليلة بنت مرة، والخنساء، لا نعدم وجود أشعار لهما قبل أشعار الفقد تلك، وإن كان الفقد هو الذي جعل نصوصهم يشيع ذكرها.
أما في غير الشعر، من فنون السرد (القصة، والرواية، والمسرحية)، ومن الفنون المعاصرة (السينما وفنون العرض البصرية والحركية)، فقد اتخذ التعبير عن هذا الفقد أشكالا متعددة، من خلال الحكايات والقصص التي تم نسجها سردًا، والتي يطول الحديث عنها، نظراً للإمكانات التي يمتلكها السرد من مساحة أكثر اتساعًا في التعبير قياسًا إلى الشعر الذي يعتمد التكثيف والاختزال، ومن قدرة على تصوير الأحداث المصاحبة قبل وأثناء وبعد هذا الفقد، وهو ما نجده في كثير من أعمال نجيب محفوظ، وبخاصة رواية حديث الصباح والمساء، والتي تم إنتاجها في مسلسل تليفزيوني، ويوسف إدريس في كثير من قصصه، وغيرهما كثير.
بل إن الآداب السردية استطاعت التعبير عن شكل آخر من أشكال الفقد وهو فقد الأوطان، بالتهجير أو الحروب أوالكوارث الطبيعية، وهو موضوع في أساسه قديم بدأته الشعرية العربية مع رثاء المدن والممالك المصاحب لانهيارالأندلس، وبخاصة مع نونية أبي البقاء الرندي، وغيرها.
ونرى أن التعبير عن الفقد أدبيًا لن ينتهي بوصفه موضوعًا، بل تتسع مساحته السردية والشعرية مع فنون العرض المعاصرة، ومع استمرار كوارث فقد الأحبة والأهل والأوطان التي تتزايد في العالم الآن، ومع تعدد وسائط التعبيروسهولة انتشارها بفعل التكنولوجيا وإمكانات الميديا المعاصرة، التي سمحت بتركيب مقاطع شعرية وموسيقية مع مشاهد مصورة (متحركة أو ثابتة) للتعبير عن هذا الفقد.
*أدب الفقد منتج إنساني مستمر ومتدفق على مر العصور
تشاركنا الأديبة الدكتورة هيا الزهير رأيها في محاور هذا القضية إذ تقول:
– الفقد أو تجربة الموت من أكثر التجارب الإنسانية تأثيرًا في وجدان الإنسان وفي تشكيل مشاعره وموقفه من الحياة، بل إننا لا نبالغ لو قلنا: إن الموت من أكثر الأحداث وأشدها ألمًا التي توقف الإنسان أمامها حائرًا وتباينت مواقفه منها إما بالتسليم والرضا أو الحزن والألم، وهذه التجربة حاول الإنسان تصويرها عن طريق الأدب شعرًا ونثرًا ، فظهر شعر المراثي الذي هو من أقدم وأصدق أنواع الشعر التي صوّرت أحاسيس الفقد، وقد سُئل أعرابي : ما بال المراثي أصدق أشعاركم ؟ فقال: لأننا نقولها وقلوبنا تحترق !
و تجيب حول المحور الثاني : لا أظن أن الأمر يتعلق بمهارات خاصة بقدر ما يتعلق بمشاعر خاصة، وصدق التجربة وعمق المشاعر، والمقدرة على التعاطي مع تجربة الفقد وتحويلها إلى منتج إنساني في محاولة التكيف مع هذه التجربة ومحاولة التحرر من ثقلها.
ولعل الأديب شاعرًا كان أم كاتباً يملك مهارات خاصة في التفاعل مع التجربة ونقلها للآخرين، ويحضرني في هذا السياق رواية (باولا) للروائية إيزابيل اللندي، وكيف حولت تجربة الفقد والمرض وموت ابنتها إلى تجربة تأملية ممتدة في الحياة والتاريخ والسيرة.
و عن مدى ارتباط هذا النوع من الكتابة بالذاتية ترى أن: الفقد تجربة ذاتية بامتياز، لكنها تمتد في الوجدان الإنساني لتصبح تجربة (جماعية) أو مشتركة، لأن كل إنسان قد عاش تجربة الفقد ولكن الأديب يساعد المجتمع على التكيف مع فاجعة الفقد وعلى أنسنة الألم وفلسفته ومحاولة التحرر من ثقله وسطوته، ومن ثم محاولة النظر للحياة بروح التفاؤل والتحرر من المشاعر السلبية للفقد، وهذا الأمر يصنعه الأدب عندما يمنحنا القدرة على التكيف مع التجربة واستعادة توازنا بعد قراءة تجربة مماثلة تهبنا العزاء.
– أدب الفقد منتج إنساني مستمر ومتدفق على مر العصور، وثيمة الفقد حاضرة في المنتج الإبداعي، سواءً كان الفقد معنوياً كالموت،أو الفقد الحسي بالهجر والبعد وهذا المنتج ممتد وتراكمي، وهو حاضر وبكثافة في المنتج الأدبي في عصرنا مع شعور الأديب بالاغتراب وأحاسيس الخوف والألم، والكوارث الطبيعية والأمراض التي جعلت من الفقد حالة ملازمة للإنسان في معاشه اليومي وانعكست على كثافة المنتج الأدبي من كتب وقصائد وروايات وأفلام.
*لشعر الرثاء ونثرة حبكة خاصة تمليها مشاعر الفقد
ويقول الشاعر منصور الدماس عن الفقد وأحاسيس الموهوبين:
إذا اختلف المفكرون في معنى الحبَّ– إذْ منهم من يرى أنه مجموعة متنوعة من المشاعر الإيجابيَّة والحالات العاطفية والعقلية قوية التأثير تتراوح هذه المشاعر من أسمى الأخلاق الفاضلة إلى أبسط العادات اليوميَّة الجيدة– فالفقد يختلف بمقدار الحبِّ المتنوع والمعنى أنه بقدر قوة الحب ووقعه المتشكل في أحاسيس ومشاعر المُحبِّ تكون وطأة الفقد آلامًا تختلف شديدة ومتوسطة ودون المتوسط حسب مكانة المفقود العاطفية لدي فاقديه وبدون شك أن حب الأب والأم ليس كحب الأخ والأخت وحب الزوجة والزوج حبٌّ عاطفيٌ ذو أحاسيس ومشاعر تختلف عن أحاسيس ومشاعر من سبق أمَّا حبُّ الأصدقاء الأصفياء فهو أقرب إلى حبِّ الأقارب أخذاً من قولهم: [ربَّ أخٍ لكلم تلده أمك] مثلاً، وإذا كان للفقد المتنوِّع لدى الناس عامة تأثيرٌ مختلفُ بنوع الحبِّ لكنَّ تأثيره يظهرعلى ملامحهم وتذرف له مدامعهم فهو عند الشعراء والكتاب والمفكرين أحاسيس ومشاعرٌ تفرزها أفكارهم ومواهبهم أدباً حيَّاً يتناقله الأحياء وتنمو به ثقافة الأجيال، وإذا كانت الفجائع تختلف فأعظمها تأثيرًا فاجعة الموت لذلك كانت قصائد تماضر بنت عمرو السَّلمية المشهورة بالخنساء في رثاء أخيها صخر من عيون الشعر الحيِّ الخالد المؤثر في نفوس قارئيها قوةً وبلاغة وعاطفة بل ضمن كتب الأدب المقررة في التعليم.
ولو نظرنا من قصائدها لهذين البيتين فقط
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي
وما يبكو ن مثل أخي ولكن أسلِّي النَّفس عنه بالتأسِّي
لوجدنا أنهما قمَّةٌ في التعبير عن فقد الأخ إذْ رأت لا قيمة لحياتها بعد موته ولم يمنعها من قتل نفسها واللحاق به سوى أنَّها ترى الباكين لمن يحبون كثيراً حولها فانثنت عن عزمها رغم شدة تأثير حزنها بفقده تأسيًا بهم رغم أنها ترى صخراً أرفع ممن يبكون مكانة وشجاعة وقدراً وللشاعر الجاهلي عدي بن ربيعة التغلبي الملقب [بالزير] رثاء في أخيه ربيعة الملقب [بكليب] قصائد كثيرة لو تأملنا منها لهذين البيتين:
سَقاكَ الغَيثُ إِنَّكَ كُنتَ غَيثا وَيُسراً حينَ يُلتَمَسُ اليَسارُ
أَبَت عَينايَ بَعدَكَ أَن تَكُفّا كَأَنَّ غَضا القَتادِ لَها شِفارُ
لوجدناهما أيضا رائعيْن في المبنى والمعني حيث شبَّه أخاه بالغيث إذْ يعمَّ خيره وبذله لقاصديه وغير قاصديه من الذين يلمس حاجتهم له ثم وضح ألم فقده بأخيه بعدم استجابة عينيه بالكف عن البكاء وكأنه يطبقهما على شوك القتاد وأنَّى لمن يطبق أجفانه على القتاد أن ينام وينقطع دمع عينيه، وبلا ريبٍ أنَّ هذا الفقد سارٍ في كل الأزمان والأماكن بدون استثناء ولأنَّ الشواهد لا حصر لها سأذكر هنا بعض ما قيل في العصر الحاضر فدونته الصُّحف وطُبع في الدواوين ومنه لشاعر الحلبتين الشيخ عبد الله بن خميس رحمه الله قصيدة في رثاء زوجته رحمها الله قال فيها:
أأرحل قبلك أم ترحلي وتغرب شمسي أم تغربين؟
ويَنْبَتُّ ما بيننا من وجود ونسلك درب الفراق الحزين
ويذبل ما شاقنا من ربيع تؤرجه نفحة الياسمين
وتسكب سحب الأسى وابلاً على مرقدٍ في الثرى مستكين
فإن كُنْتُ بادئ هذا الرحيل فيا حزن رُوْحٍ براها الحنين
إلى آخر القصيدة وهي ضمن كتبه المدونة ونشرتها الصحافة وللشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري رحمه الله مرثية في زوجته رحمه الله أجاد فيها أيما إجادة أيضا إذْ قال:
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أَجِــدُ
أهذهِ صَخرةٌ أم هذهِ كَبِـدُ
قدْ يقتلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُـدوا
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِــدوا
تَجري على رَسْلِها الدنيا ويَتْبَعُها
رأْيٌ بتعليـلِ مَجْراهـا ومُعْتَقَـدُ
أَعْيَا الفلاسفةَ الأحرارَ جَهْلُهمُ
ماذا يُخَبِّـي لهم في دَفَّتَيْـهِ غَـدُ
طالَ التَّمَحُّلُ واعتاصتْ حُلولُهمُ
ولا تَزالُ على ما كانتِ العُقَـدُ
ليتَ الحياةَ وليتَ الموتَ مَرْحَمَـة ٌ
فلا الشبابُ ابنُ عشرينٍ ولا لَبدُ..
إلى آخر القصيدة وهي مدونة ضمن دواوينه
وللشاعر الكبير خالد الخنين قصيدة في رثاء ابنته رحمها الله منها:
أهديت للترب أحلى العمر أجمعه
فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا
ما كنت أحسب أنَّ الدهر يفجعني
حتى رأيت عليك القبر منتصبا
الدار بعدك لَفَّ الحزنُ ساحتَها
والعامُ عامٌ من الأحزان قد كُتِبـا
تقول أختك والأحزانُ تَعصِفُها
ألن نراها؟ فكيف الشملُ قد ثُلبا؟
تبكي عليك صبايا الحَيِّ مِنْ وَلَهٍ
دوامعاً مِنْ عيون خِلْتُها سُـحُبا
أين التي يُسعِدُ الأطفالَ بَسْمَتُها
أين التي ما علا صوتٌ لها لجبا
وهي من منشورات الأستاذ خالد الخنين حفظه الله ومتعه بالصحة وطول العمر، وللشاعرالكبير نزار قباني قصيدة في رثاء زوجته بلقيس جاءت في ديوان خاص ورثى الشاعر الكبير الدكتور غازي القصيبي رحمه الله الشاعر نزار قباني رحمه الله قال في مطلعها:
نطوف على أبوابه وننقِّرُ
أكوخك هذا أم زبيبٌ وسكَّرُ؟
نجيئك أطفالاً فتمنحنا الدمى
وتحكي لنا ما كان يفعل عنترُ
ونأتيك عشاقاً فتمنحنا الرُّؤى
لكلِّ حبيبٍ في جيوبك دفترُ
لك الله أتعبناك لا نحن نرعوي
ولا أنت من زوراتنا تتضجَّرُ
إلى آخر القصيدة وقد نُشرت في جريدة الشرق الأوسط وأعتقد أنها ضمن مطبوعات الدكتور غازي رحمه الله، وللأمير خالد الفيصل مرثية في أبيه الملك فيصل رحمه وهي نبطية شعبية لكنها في غاية الجمال منها الأبيات الآتية:
لاهنت يـا راس الرجاجيـل لاهنـت
لاهان راس(ن) في ثرى العود مدفون
والله ما احطّك بالقبـر لكـن آمنـت
باللي جعل دفـن المسلميـن مسنـون
منزلك يا عز الشـرف لـو تمكنـت
فوق النجوم اللي تعلّت علـى الكـون
ورثيت أبي وأمي وأخواي وبعض أقاربي وأصدقائي والدكتور غازي القصيبي وغيره من أدباء المملكة – أرجو لهم رحمته ومغفرته ورضوانه– بقصائد متفرقة في دواويني المطبوعة ومعظمها نُشر في الصَّحف وتناوله الباحثون من حملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وللشعراء المعاصرين شعر كذلك، ولا شك أن لشعر الرثاء ونثره أو فقد الأحبة طابعاً خاصاً وحبكةً فنية خاصة تمليها المشاعر والأحاسيس الصَّادقة التي لا يشوبها نفاق ولا يصنعها طمع لذلك تأتي قوية مؤثر بقدر مكانة المتوفى لدى الشاعر أو الكاتب، وممَّا لاشك فيه أنَّ لها وقعاً مؤثراً لدى المتلقي ومن أمثلة ذلك أن أحد المعارف قرأ قصيدة رثائي لوالدتي في ديواني رجع فتذكر أمَّه المتوفاة حيث حاكت ما لأمِّه في نفسه من مكانة وفقْد فزارني عنوة ليعبر عن القصيدة ويبدي إعجابه رغم إقامته في منطقة أخرى ولهذا وذاك بدون أدنى ريب أقول: إنَّ لقصائد الرثاء إسهاماً كبيراً في تنمية ثقافة الأجيال والارتقاء بلغتهم ومواهبهم إذا أحسنوا الاختيار نظراً لجزالة قصائد الرثاء ورصانتها وصدقها غالباً، أما بالنسبة لفقد العشاق فقد ظهر جليَّاً في شعر مجنون ليلى وابن زيدون وعنترة العبسي وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم كثير ولهذا أيضاً ما للشعر السَّابق من تأثير على المتلقي وفائدة تتجلى في تنمية المواهب أيضاً وإثرائها لغة وبلاغة وجزالة لأنها تأتي صادقة بقدر حبِّ العاشق وحجم فقده حتى وإن خرج بعضها عن المألوف وحطم قيود المعروف.
*الذاتية تجافي الانغماس في الأحداث والتحيز لها
ويدلي الكاتب فايز بن عمرو من اليمن الشقيق برأيه حول محاور القضية بقوله:
برأيي الكاتب أو المبدع إنسان منغمس في محيطه ومتفاعل معه، وهو أكثر حساسية تجاه الصدمات والكوارث لذلك تكون انفعالاته وأحزانه دافعاً للكتابة والتنفيس عن حالات الاضراب النفسي والضعف الإنساني.
وتجربتي مع الكتابة وتفاعل الأحداث سلبًا أو إيجابًا لا تعتمد مع القرب من الأشخاص بل القرب من الحدث والمأساة، بل كثيراً ما أفشل في التنفيس عن مشاعري تجاه الأشخاص الأقرب لي، وكثيرًا ما تسهم الذاتية بنجاح العمل الإبداعي، فالشخص الناقد أو الثائر أو الغاضب أو المتعصب لظواهر المجتمع يكون عمله قوياً وحماسياً وانعكاساً لأفكاره ورؤياه للمجتمع وشخوصه وقضاياه، والذاتية برأيي تجافي المباشرة والانغماس في الأحداث والتحيز لها.
ومهما تعددت الأوصاف والتعاريف والتفسيرات للأعمال الأدبية والإبداعية فهي تظل في أبسط حالاتها حالة إنسانية انفعالية، لذلك سيبقى هذا النوع من الأدب أو العمل الإنساني تعبير عن المجتمع وصراع المجتمع وحركته وضعفه ولا يمكن أن ينقرض إلا بزوال الإنسان نفسه.
وأعتقد بأن الإبداع يحاكي بعضه بعضًا ويستفيد المتأخر من المتقدم إذا صح تسمية ذلك تطورًا.
*تاريخ الفقيد من خلال عمل إبداعي من أهم الإبداعات
ويمتعنا الشاعر المغربي الحسن الكامح ببعض مما نظمه في الفقد من خلال حديثه حول محاور القضية:
ليس هناك إحساس ينطق الذات بوحاً واعترافاً من الوجع والألم، والفقد من قمة الأوجاع الإنسانية عبر تاريخ الإنسانية، قد نفرح لساعات لكن سرعان ما ننسى تلك اللحظة، لأنها تمر بعد وقت وجيز، أما الوجع فإنه يسكن أعماق الذات، فما إن ننسى للحظات حتى سرعان ما نعود بمجرد أن يطفو شيء بسيط يذكرنا بالفقيد. فتغوص الذات من جديد في تلك اللحظة المؤلمة، لحظة الفراق، والشعور بالاحتياج للفقيد، كأنك طفل صغير فقد أعز شيء له:
(نَحْتاجُ إلى صمْتٌ أكبر
إلى زمن لا مُسَمَّى؛ كيْ نَجْرَعَ موْتكَ الآنَ
ونرْكبَ فعْل الموْت احْتِرَاقَا
بلْ نَحْتاجُ إلى صَمْتٍ أكْبرَ منَّا
ومنْ تبايُّن الأحْداثِ
كيْ نعْلنَ الآنَ في هذا الزَّمَن القاتل
موْتكَ، فنرْتدي الرَّمادَ أو الجنونَ
حِدَاداً عَليْكَ أو اعْتناقا)*1
الموت لا يرحم، والفقد يقتل الإحساس بالأمل وفي الغد، فلولا أن الله – سبحانه وتعالى – منحنا قوة الصبر لعاش الإنسان منغلقاً على نفسه من كثر ما فقد من أحبة، والأدباء والفنانين يحاولون دائما صيغة حالة الفقد في إبداعاتهم، إما بإعادة كتابة سير من فقدناهم، أو برثائهم، أو تشخيصهم في أعمال إبداعية، في الرواية أو في الشعر، أوالفن التشكيلي…الخ، وهكذا يتحول الفقد عملاً إبداعياً يؤرخ للفقيد.
ويجيب على المحور الثاني بقوله:
هناك حالتان، الأولى أن الكتابة تأتي تلقائية وطبيعية لقوة الإحساس بالفقد، فنكتب مراثي أو مقالات عن الراحل، ومثل هذه الكتابات هي أصدق لأنها نابعة من عمق الإنسان المكلوم، فالوجع ينطقه ويصوغه إما قصيدة شعرية، أو نصاً متنوعاً.
أما الحالة الثانية، وهي مهارة خاصة تأتي بعد الحالة الأولى، إذ بعد الكتابة الأولى يستطيع الكاتب ضبط قاموسه اللغوي الخاص بهذه النوع من الكتابات، والصيغة المثلى في هذه المواقف، فبمجرد ما يفقد أحداً مهارته الإبداعية توحي له بنص أدبي خاص بالحالة، فيستطيع أن يؤلف نصاً له مكانة خاصة في المتلقي فنستحضرالفقيد، إما بإعماله أو بشخصيته.
وإن من أجمل القصائد التي نذكرها وأعمقها، هي التي كتبت في حالة الفقد لأن المبدع له قدرة خارقة في بلورة الوجع والألم وصيغته في نص إبداعي، فذاته هي التي تكتبه وليس هو الذي يكتب النص، أي نص قابل للمساءلة لكن نص الفقد يؤثر في المتلقي أكثر، لأن كل إنسان عاش هذه الحالة النفسية الصعبة، فليس من السهل نسيان إنسان عاشرته سنوات وله الفضل عليك. فيكفي أن مجموعة من الروايات والمسرحيات والأفلام والمعزوفات واللوحات التشكيلية التي وظفت هذه الحالة لا زالت مؤرخة وتذكر حتى الآن، فالأبطال لا يموتون كما يقال، والكاتب المبدع الذي يستطيع إعطاء مصداقية لكتاباته النابعة من الألم لن يموت، فلا أحب أن أذكر أسماءً، ولكن دعيني أقول لك: أن تأريخ الفقيد من خلال عمل إبداعي يبقى من أهم الإبداعات، وله صدى واسع في الساحة الإبداعية.
(ثمَّةَ نزيف على بعدكَ
وأنا واقفٌ على قبرك
في هذا الصباحِ كأنني حارسْ
أمسحُ دمعاً جفَّ على مقلتيَّ
منذ رحليلكَ في ذلك اليوم الفائت
كيف أقولُ لكَ بعد ثلاث سنواتٍ
أنَّ البعدَ قاتلٌ…وأنّض اليوم ليلٌ دامسْ..؟؟
كيفَ أقولُ لكَ…
أحتاجُ إلى صوتكَ يدفي البيتَ الباردَ
ويمسحُ أتعاب النهى في وقتٍ رافسْ
يا أيها الأبُ الذي استلقى على فراش عاما
تاركا خلفه الدنيا
وما ملكتْ يداهُ في شبابٍ قاسٍ
وما قامَ منهُ إلا لقبرٍ به لمَّ برد قارسْ
أحتاجُ إلى نظرتكَ في هذا المدى
أحتاجُ إلى وجودك يغطي هذا المدى
أحتاجُ إلى صوتكَ يزلزلُ هذا الصدى
أحتاجُ إليكَ
لأقولَ لكَ بحرف جارحْ
موتكَ موتٌ لا أطيقهُ حينَ ما آلَ إليهُ الجمعُ في حرب ضارسْ)*2
إن هذا النوع من الكتابة سيدوم بدوام الإنسانية، ويساير العصور والتطورات الإنسانية، فالتعبير عن الفقد مرتبط بكل مبدع: كيف سيحول هذا الإحساس الأليم إلى نص أو عمل إبداعي، فالكتب المتوارثة منحتنا أفقاً للغوص في التجارب السابقة التي كانت مرتبطة بزمانها المحدد وبيئتها المحددة، فمثلاً التعبير قد يتغير من بكاء تلقائي إلى نص إبداعي، إلى رقص جسدي، إلى لوحة تشكيلية، إلى معزوفة صامتة حزينة…الخ.
فصناعة الإبداع مرتبطة هي كذلك بالتلقائية والعفوية والاحترافية، بالإضافة إلى التجربة الشخصية لكل مبدع، قد أعبر عن حالة الفقد بنص أذكر فيه أعمال الفقيد… وقد يعبر آخر بنص يصف فيه الفقيد ودواليك، لذلك فصناعة الإبداع مرتبطة بالذاتية وبالمتلقي، وكثيراً ما نكتب لأننا نشعر بحاجة للكتابة للتفريغ عن الذات آلامها وأوجاعها دون التفكير في المتلقي، والمتلقي ستعامل مع النص بحرارة لأنه يجد ذاته فيه. ويذكره باسم ترك ما ترك للإنسانية.
(آه أيها الموت ما أقساك
آه أيها الموت ما أتعسنا
ونحن نجوب شوارع الحياة بلا أمل
أن نعانق وجه أحببناهُ.)*3
ملاحظة: هذا ينطبق على كل
أنواع الفقد: الحبيب… الحرية….الصحة…. الوطن… الصبر.. الخ، المهم هو أن يشعر المرء بهذه الحالة التي تولد عنده إحساس نفساني، بعدم القدرة على إعادة ما فقده.
1- من قصيدة نحتاج إلى وقت أكبر
2- من قصيدة: بوح على قبر أبي
3- من قصيدة: وقف الموت على قلبي.
*أدب الفقد يمر بمنعطف التناسي والإغفال
ويفيد الشاعر محمد عطيف برأيه حول أدب الفقد بقوله:
نحن بشر نتأثر بكل ما حولنا أفراح أم أحزان، والفقد ليس للأموات فقط بل للأحباب المفارقين والمبتعدين عن حياتنا لمنازلنا لقرانا لأحيائنا التي غادرناها أو أزيلت من خرائط الطبيعة وهكذا، وهنا أشير في هذا السياق إلى أثر الفقد الذي يحدثه الأموات، وكيف ينتزع منا الحروف والكلمات، فمن سبقنا أثروا المجال بأحلى الجمل والعبارات المبكية والمهيجة لهستيريا من التشنجات والأعصاب والضحك أحيانا لقوة الطرح في تلك الفترة سواء في الإنتاج أو أحداث الأثر الذي صحبه خلو الزمن من المؤثرات الجانبية، ومن وجهة نظري أن نوع القرابة وقوة العلاقة لهما الأثر الأكبر في إثارة ذائقة المبدع أيَّاً كان نحو المفقود إن كان أبا أو أخا أو زوجة أو حبيبة في عرف العلاقة..
وكثيراً ما تصادفنا هذه الأحداث فتستجر منا الكثير من المواقف والتي نصورها وقد نضيف قليلاً من الخيال ممزوجاً بالواقعية وذلك للتخفيف من معاناتنا أو لترسيخ أثر المفقود فينا، وإبداء صور كانت غائبة عن المجتمع وخاصة الإيجابية منها على سبيل اذكروا محاسن موتاكم.
وأرى أن التأليف لا يجيده أي كاتب ناثر أو ناظم شعر لمجرد المحاولة، بل لابد له من مهارات وثراء لغوي معين وعواطف خاصة وأسلوب مختلف في انتقاء عبارات الفقد هناك من يصيغها إيجابيات مؤثرة وهناك من ينتزعها من حنايا الأضلاع لتكون آهات حارقة وهناك من ينتقي أسلوب الربط بين العاطفة الإيجابية والمواقف الحزينة ليخلق توازناً في ردة الافعال، وبالتأكيد أن التفاصيل ذاتها لها تأثير واضح في إثراء التأليف، حينما أنظم في هذا المجال أجد أن التفاصيل التي تربطني بالمفقود تعطيني مساحة للحركة والتفاعل بصورة مريحة لاختيار الصور المنقولة للمتلقي، وفي نفس الوقت أشعر أن المحيط يتألم من عدة أحداث جارية وخطوب مدلهمة؛ لذا ألجأ إلى محفزات تثير قليلاً من البهجة ضمن الرثاء أو نعت المفقود بما يقلل التوتر لدى المتلقى.
ويعلق على مدى ارتباط هذا النوع من الأدب بالذاتية بقوله: العلاقة وثيقة بينهما كون الموضوع أصلاً يبدأ باستجابة ذاتيه لإفراغ التوتر العاطفي في إناء خارج الذات وتنقيته وتقديمه على شكل قوالب محزنة، أو مفرحة حسب السياق للمتلقي بعد إشباع الذات.
الحقيقة لم أرَ هناك إضافة عالية الوضوح في النفع المجتمعي لدرجة نقول أننا أحدثنا نقلة نوعية في نسيج المجتمع الثقافي من خلال هذا الجهد الذي لا يتجاوز الكاتب وأسرة الفقيد وأحباءه وربما نضيف فترة أحزان زائدة لدى المتلقين من ذوي المفقود.
وقد يستثمر ذلك في خلق شحن عاطفي سلبي في محيط المفقود خاصة إذا ماكان أسلوب المنتج مبكي ومحزن، وقد يكون تأثيره أفضل بقليل إن كان إيجابياً يصور الصفات الإبداعية والعادات الحميدة في المفقود.
وبالنسبة لمتذوقي المشهد الأدبي بدت الصورة تنكمش بعض الشيء بصفة عامة لشدة نشاط المشاهد الأخرى المنافسة، وبالتالي يتأثر أدب الفقد نسبياً، مالم يؤثر ماضيه ولا أظن أن يؤثر حاضره الغائب عن المشهد إلا قليلاً، أما فيما يتعلق بسلسلة الكتب فعامة القراءة تضاءلت مع وجود المقتطفات ووسائل التواصل والتطور الإعلامي المتلاحق في مجالات النقل المباشر.
وحتى المسلسلات الفقدية لم نرى لها وجود إلا ما ندر وبالتالي تأثيرها ليس مؤثرًا سلبًا أو إيجابًا بالقدر اللافت، وعليه فمستقبل هذا الفن الأدبي للأسف من وجهة نظري يمر بمنعطف التناسي والإغفال لكثرة المآسي اليومية والمشاهد الدرامية المتلاحقة، فلم يعد هناك حاجة لمؤلفات والأحداث تشاهد على الهواء والدموع تحل محل الحبر لكتابة آخر سطر من الحدث اليومي.
*الاحتفاء بالموت شعور بالتقصير تجاه المبدع
ويرى الشاعر والمستشار الإعلامي أحمد آل مجثِّل أن:
الفقد بمفهوم الموت للمبدع المؤلف حالة إنسانية يشعر به الرفقاء والأصدقاء وكذلك القارئ المتابع، مما يعني أن الاستثارة أمرٌ طبيعي في التعبير وذكر المناقب لأي رحيل، وقد يرى البعض أن فجيعة الموت فرصة لإحياء الذكريات وتوثيق حياة المبدع بما يليق بقيمته الأدبية، وقد يرى البعض وأنا منهم أن الاحتفاء بالموت شعور بالتقصير تجاه المبدع في حياته، فيلجأ الأحياء إلى سيرة المبدع المتوفي والكتابة عنها رثاءً وتأبينًا، إذاً نحن أمام حالتين من التباين بين أحقية إحياء سيرة الرحيل واستغلالها باعتبارها فرصة للكتابة وبين خشية ما نسميه حفاوةً بالموت.
ويتطلب التأليف في ميدان الفقد مهارات متعددة منها: الصدق، وحسن الظن، واقتناص جوانب خاصة في حياة الفقيد، وكذلك المعرفة والقدرة على خط الحياد بمعنى لا إفراط ولا تفريط.
والكتابة أولاً تُعدُّ ارتباطًا بالحياة والمجتمع والتأثير والتأثر، أي أنها تفيد المجتمع حين تكون ذات قيمة أدبية عالية واقتراب حقيقي من حياة المبدع الراحل، ولا ينفصل ذلك عن الأسلوب والحبكة، وقد يراها البعض أنها لا تخرج عن مفهوم الذكريات والانطباعية.
ويعلق على مستقبل هذا النوع وارتباطه بذائقة المبدع بقوله: التلقي لها يكون على طريقتين: القبول المطلق، الرفض أو التحفظ على ما تحتويه من أحداث، لكنني أرى أن مفهوم التعود والزمن سيكونان كفيلين بتفهم القبول والرفض، ومتى لقي هذا الجنس الأدبي من الكتابة مَن يواجهه بقدرةٍ وإتقان لا شك أنه سيفرض قبوله على المتلقي وسيشكِّل أهمية ً كبرى وخاصةً على مستوى السرد في الكتابة.
*مطرقة الفقد تفيض بها قرائح الشعراء
ويحدثنا الشاعر والأكاديمي د. يحي عبدالعظيم عن شجن الغربة والفقد بقوله:
لم أكن يومًا من أولئك الذين اعتادوا الشكوى، ولا من البكَّائين من ابتلاءات الله – جلّ وعلا – ، بل أفرُّ فرارًا من الذين يصمون أنفسهم بهذه الوصمة التي تملأ الجو كآبة وحزنًا، ولكنها الأيام التي تجعل أقوى الرجال يبكي لفقد أوغربة!.
فهل الغربة أسبق، أم الفقد؟!.
أياً كانت الإجابة، فأحلاهما مرٌّ. فما بين الطوفان والغرق؛ ينادي نبي الله نوحٌ بمشاعر تملؤها غصة الفقد، ومرارة الفراق؛ ابنه: ” وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا“، وهو الذي يدرك تمامًا أنه “لاَعَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ“، ولم يلبث أن سبق قول ربنا بما كان في علمه الأزلي:” وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ“.
وما بين الصراع النفسي وصراع الفقد والغرق والضياع؛ يتشقق القلب ألمًا، وتضيع الروح عذابًا، بل إن رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم -؛ ليبكي بكاءً مرًّا على فراق ابنه “إبراهيم” من أم المؤمنين السيدة مارية القبطية عند موته، فيقول: “تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا وَإِنَّا بِكَ يا إبراهيم لمحزونون“.
فإذا كانت هذه حال الأنبياء، فالأولى أن يكون الناس أكثر جزعًا وحزنًا في حال الفراق والفقد، وقد امتلأت صفحات أدبنا العربي شعراً ونثراً يتناول رثاء النفس والغير؛ مما تفيض به الروح ألماً، ويقطِّع شغاف القلوب حرقة ولوعة، هذا اللون من الإبداع الذي يمثل رغم مرارته وشدة وجعه نوعاً لا يمكن لكل ذي نفس إنسانية أن يهرب منه، ولكن تتحكم أحيانًا في المبدع روحه من قرب ومن بعد الفقيد.
بل إن أحدنا ليقف عاجزاً مشلولاً من أن يكتب، ولو حرفاً واحداً يرثي به من يحب، وذلك لا لشيءٍ إلا للصوق الفقيد بشغاف القلب والروح، وقد وقفت عاجزاً عن أن أرثي أبي الذي جاءني نبأ وفاته، وكنت خارجاً توًّا من مسجد رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – في يوم الثلاثاء الموافق 1يناير 2008م، فلم يستطع قلبي أن يخط ولو حرفاً واحداً في رثاء ذلك العظيم الذي أنجب رجالاً؛ حملوا اسمه من بعده إلا قولي:
أبي يا وحدك المنسيَّ في دوامة المحَنِ
فاجتمعت في الروح غربتان: غربة الفقد، وغربة الجسد؛ إذ بيني وبينه ـ رحمات الله تعالى ومغفراته عليه في أعلى عليين ـ آلاف الأميال التي تحول بيني وبين تلقي عزائه مع إخوته، فكان العوض أن صليت عليه صلاة الغائب في الروضة الشريفة، ثم صلاة الجنازة مع بعض الأحبة.
ومرة أخرى يضرب الوجع الجسد والقلب والروح غربة وفقدًا، فكان مرض أخي الكبير الذي حالت الحوائل بين أنأراه في مرضه الأخير وبين وفاته، فكان ما كان بما يصدق معه قول الشاعر:
الْجِسْمُ في بَلَدٍ والرُّوْحُ في بَلَدِ
يا وَحْشةَ الرُّوْحِ، بَلْ يا غُرْبَةَ الْجَسَدِ
ومع صدمة الغربة، ولوعة الفقد؛ لم تحتمل روحي ذلك الوجع المتغلغل في شغاف القلب، والحارق جنبات الروح، ففاض الشعر بقصيدة طويلة تحمل عنوان “مباغتة“؛ أجتزئ منها بعضها:
أخي
هو الحزن؛ إذ يستحيل انتظارا
هو الوجد حين يصير احتضارا
أخطُّك في القلب … أحطُّك في العين؛
لكنني إذا همت باسمكَ، أشتاق لكْ
يُغيِّبُكَ الوقتُ.. يدهمك الموتُ
تأكَّدْ بأنك، لا تبرح القلبَ، لا تبرح العقل
لا تبرح الروحَ والأمنياتْ.
وما بين فقد وغربة، أو غربة وفقد، فنحن بين مطرقة الفقد وسندان الوجع؛ ذلك الإحساس الذي لا يفتأ أن يغزو روح الشعراء، فيغذوها بما تفيض به القرائح، وما تسطره القلوب؛ لتظل هذه المشاعر ملتهبة مستعرة؛ تحمل في طياتها من شواظ الألم ما يبرِّح الروح، ويوجع القلوب.
التعليقات