الأكثر مشاهدة

   قبل عقودٍ من الزمن لم يكن الناس يمتلكون وسائل الترفيه التي توفرت في العصر الح …

الرواة والروائيون

منذ 3 سنوات

479

0

   قبل عقودٍ من الزمن لم يكن الناس يمتلكون وسائل الترفيه التي توفرت في العصر الحديث مثل أجهزة التلفاز والراديو والسينما.
إذ كانوا يعتمدون على الرواة في سهراتهم الليلية أو (سمراتهم وتعليلاتهم ) والراوي شخص يجيد القراءة والكتابة ويتمتع بذاكرة جيدة، يبهر الحاضرين بلغته وطلاقة لسانه، فإما أنه يقرأ غيباً من ذاكرته أو أنه يقرأ من كتابٍ معتمدٍ ومشتهرٍ في التاريخ مثل الملاحم الشعبية: عنترة بن شداد أو تغريبة بني هلال أو الزير سالم وغيرها من الروايات الشعبية العربية المعروفة بين الناس.
ورغم ظهور بعض الدراسات النقدية لتلك الروايات الشعبية وتحقيق ما ورد فيها وتبيين المبالغات الظاهرة في نصوصها وأخبارها إلا أنها لم تفقد قيمتها وقيمة رموزها الحقيقية بلا شك.
لكننا نميز بين الواقع والخيال والمبالغة في السرد والشعر في تلك الروايات التي تمتلئ بالأشعار والقصص والمعارك وبعض الأساطير والمبالغات مثل ما ورد في رواية عنترة بن شداد الذي أفرغت في أربعة عشر جزءاً كبيراً، ومثل ذلك رواية تغريبة بني هلال والزير سالم، وكرم حاتم الطائي، ثم فيما بعد عشق قيس وجنونه وافتتان جميل بثينة.
ولو أخذنا مثلاً رواية عنترة ابن شداد أو (أبو الفوارس) كما هو اسم الكتاب المتعدد الأجزاء لدهشنا فعلاً كيف استطاع المؤلف تجميع هذا الكم الهائل من القصائد والأشعار ونسبتها لشعراء وفرسان عاصروا عنترة في زمانه، بل وكيف استطاع كتابة معلقةً أخرى غير معلقة عنترة المعروفة والمحققة في كتب التاريخ، معلقةً أخرى أطول من الأولى.
المعلقة الأولى التي علقت على أستار الكعبة المشرفة والتي مطلعها:
هل غادرَ الشعراءُ من متردِّمِ
أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توَهُّمِ
أعياكَ رسمُ الدار لم يتكلمِ
حتى تكلم كالأصم الأعجمِ
ولقد حبست بها طويلاً ناقتي
أشكو إلى شفعٍ رواكدِ جُثَّمِ
هكذا وردت بدايتها ويبلغ عدد أبياتها في الرواية الشعبية: مائة وعشرة أبيات.
وأما القصيدة الأخرى فهي الجيمية لعنترة:
أشاقكَ من عبلة الخيالُ المدملَجُ
وقلبكَ فيه لاعجٌ يتوهَّجُ
لفقدِ الذي بانت وأنت متيَّمٌ
غدا فاحتواها عنك لي البرهودجُ
كأن فؤادي يوم سرت مودعاً
عبيلة من ضاربٍ يتفجفجُ
وهي تقارب المائة بيت
كما نسب إليه قصائد أخرى عديدة، مطولات تتحدث عن فروسيته وعشقه وبطولاته ولا تخلو من تصويره لحالة المجتمع في ذلك العصر وملوك وأمراء بني عبس وبني ذبيان والنعمان والغساسنة بسرد تاريخي رائع.
ولست بصدد نقد أو دراسة ما ذكر في الأدب الروائي فله رجاله ومختصوه.
لكنني بصدد الإشادة بقدرة الرواة على التأليف والسبك الروائي المتقن الذي لا يستطيع اليوم أحد أن يجاريهم ويجاري خيالهم وتمكنهم من أدوات السرد والقصة، أو أن يكتب رواية خيالية تعتمد في الأساس على شخصية حقيقية.
واليوم ونحن نقرأ أو نشاهد الأعمال الروائية الهندية والتركية والشرقية والغربية لأساطيرهم القدماء والإبداع السينمائي والتلفزيوني في إخراج وتمثيل تلك الأساطير، وتقديم رموزهم للعالم بشكل مذهل (كما ورد في مسلسل ارطغرل والغازي عثمان وألب أرسلان وجنكيز خان وغيرهم ) وكيف تمت المبالغة في الوصف والفروسية والبطولات الفردية، وترسيخ تفوق الجنس التركي على غيره من الأجناس، وهو حق من حقوقهم إن لم يتجنوا على غيرهم، لكننا نتساءل أين العرب من تلك الأعمال.
أين الرموز الفاتحين وأين رموز تاريخ الدولة العباسية والدولة الأموية والأندلس وأبطال فتح السند والهند وخراسان وتركستان الأرض التي آمنت بالإسلام على يد فرسان العرب، وانبعث منها السلاجقة والعثمانيون الذين نشاهد أبطالهم على الشاشات كرموز يقدمونهم على أنهم الأفضل والأقوى وأن أحفادهم هم الأجدر بقيادة الأمة.
لقد حاول الفن العربي أن يقدم بعض الأعمال الروائية الدينية، لكنه أخفق في ذلك بسبب توجه القنوات الفضائية التجاري وعدم وجود رسالة حقيقية، مجرد انتاج للهو وقضاء وقت مع عبثية الممثلين والدعايات المصاحبة لهم.
كما أنهم سخروا في أعمالهم السينمائية والتلفزيونية من عنترة ومن أبي زيد الهلالي ومن الزير سالم، وقيس وجميل بثينة، والجاد من أعمالهم كان ضعيفاً وهزيلاً ، وتجاهلوا الفتوحات والتاريخ الإسلامي العربي العريق، متأثرين بمن وصفهم غزاة محتلين.
لقد توجه المنتجون العرب لإنتاج أفلام ومسلسلات تاريخية لا تليق بتاريخنا بل أن بعضها تم تقديمه باللهجات المحلية.
وأخفقوا في مجاراة الراوي العربي القديم الذي سطر لنا ملاحم عديدة مثل ملحمة عنترة بن شداد، وكيف أن السينما العربية قدمت هذه الشخصية الحقيقة كشخصية مضحكة بلهجة محلية وبتمثيل هزيل، أو عمل تلفزيوني في مسلسل صغير جداً من أجل كسب المال فقط وفي شهر رمضان دون رسالة واضحة تقدم الثقافة العربية والشعر العربي والفروسية كما يجب أن تقدم.

ماذا لو أن عنترة أو الزير سالم أو حاتم الطائي، أو فيما بعد رموز الإسلام العظام أو قيس بن الملوح أو سيرة بني هلال كانوا ضمن حضارة الشرق أو الغرب، ترى كيف سيكون العمل الإبداعي لتقديمهم كما كان يقدمهم الرواة في أماسي العرب العتيقة ومقاهيهم المفعمة بروح العربية وتاريخها.
ماذا عن أبطال العرب والمسلمين الذين فتحوا أقطار الأرض وكيف ابتذلت سيرهم بأعمال ضعيفة جداً لم نقنع بها نحن هنا فكيف تصل للعالمية، وللأسف الشديد قدمت كمسخ في مسلسلات رمضانية من ثلاثين حلقة كل حلقة عبارة عن عشر دعايات تجارية وعشر دقائق للقصة المراد تقديمها.
وعلى المستوى المحلي السعودي تخفق الرواية السعودية التاريخية هذا إن وجدت ويخفق الممثلون السعوديون الذين ذهبوا ضحية توجه بعض القنوات الفضائية، حيث لم يستطيعوا تقديم عمل روائي مقنع للشارع السعودي أو العربي، مجرد مسلسلات ضعيفة تلتبس الثوب الكوميدي عبثاً وهي مبكية من الخجل المصاحب للمشاهد المتأمل فيه هذه المسوخ المشوهة.
فلماذا لا نرى عملاً روائياً يتحدث عن مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز رحمه الله ورجاله وأبطاله الذين وحدوا البلاد ونقلوها من الظلمات إلى النور ومن الشتات إلى الوحدة ومن قبائل متنافرة إلى قبيلة واحدة.
ما الذي يستفيده المواطن العربي والسعودي من مسلسلات مضحكة كرتونية أو من انتاج مسلسلات تطعن في القيم والدين والأخلاق وتبشر بقيم الغير وتدعو لثقافة أخرى غير ثقافتنا، وتصب إعلامياً في مصلحة المتصيدين من أعداء الوطن.
أو ماذا نستفيد من مسلسل يستعرض حياة مجرم ويبالغون في قوته واختراقه للأمن وهو مجرد ضال يوجد مثله الآلاف على مر العصور وفي كل مجتمع، استطاع الأمن السعودي القبض عليه وأن يقدمه للعدالة والحكم عليها قضائياً بما يستحق هو وأمثاله.
ما الذي نستفيده من مسلسلات يستعرضون خلالها مواد المساحيق والتجميل والمكياج والملابس البراقة للرجال والنساء، وأخرى من مشاهد يبالغون فيها من تجهيل أفراد المجتمع وتقديمهم بطريقة مخزية لا تليق ولا تطابق واقع وشهامة وكرامة أبناء هذا الوطن الكريم.
وما نراه هنا ينطبق على سائر الأعمال الفنية في الأقطار العربية، لم يقدموا تاريخاً مشرفاً ولا حاضراً متميزاً بل قدموا مسوخهم كأبطال لروايات مسلسلاتهم لا يقلون عن الدعاية التجارية التي تأخذ مساحة أكبر من مساحة الرواية أو القصة أو ابتسامات الممثلين البلهاء.
ولذلك فإن الرواية العربية الشعبية القديمة الغير مصنفة جدياً في ثقافتنا الحديثة الباهتة، هي الأجمل، وأن جوائز الشرق والغرب لو عرفتها لاتجهت لها وانحنت احتراماً وتقديراً للأصمعي ورفاقه.

*شاعر وكاتب سعودي

حساب تويتر: abalwled

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود