853
0331
2810
0506
0394
018
040
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04784
04756
04676
04416
17جماليّةُ المكان في قصيدة (أعرابيّة الهوى)
للشاعر علي بن ناصر الحناكي
د.هاني سعيد*
الإيقاع وتشكُّلات الدلالة: رسم الشاعر من خلال بحر الطويل دلالات أسهم الإيقاع في تحركها صعودًا وهبوطاً داخل الأماكن الفسيحة، بعد أن آثر أن يصوّب عدسته الشعرية نحوها؛ ليجترَّ ذكرى لا تزال حاضرة في الشّبّاك الأمامي لنافذة عقله وقلبه معا. وعبْر استثمار ذكي لإمكانات بحر الطويل الإيقاعية، التي ارتسمت من خلال (القبض)، الذي يُعرّف بأنه” حذف الخامس الساكن من التفعيلة”، ومعلوم أن حذف السكون يُصَعِّد من وتيرة الإيقاع فيجعله أسرع، وهو ما ينعكس على الدلالة، ومن ذلك مثلا:
وشَعشَع برقٌ قد تراءىٰ فزادني جوىً نحو شِعبٍ بالبطاح سواكِبُه
ففي هذا البيت جاءت التفعيلة الأولى(فعولُ//o/) بدلاً من (فعولن) وتفعيلة العروض والضرب (فزادني/سواكبه) على وزن (مفاعلن//o//o) بدلاً من مفاعيلن، بعد حذف الخامس الساكن في كُلٍّ؛ ليسهم في تسريع الإيقاع صعودًا إلى تلك الدلالة المهمة في البيت، وهي سرعة البرق الخاطف، التي ألهبت شوقَ الشاعر إلى ذلك الشِّعب، وقد سعى حثيثاً إلى الالتحام به؛ لكونه يحمل ذكرى محبوبه. والأمر نفسه بالإمكان أن نلمحه في قوله:
وأقصر قلبي بعد ما كان لاهيًا يصوغُ القوافي في عشيرةَ صاحبُه
فجاءت التفعيلة الأولى (فعولُ) بحذف السكون لتوحي بصعود الإيقاع، الذي يعكس سرعة جريان التغير على القلب وما أصابه بعد عَفاء الرس، مع ملاحظة أن التفعيلة في (عفا الرس) في مطلع القصيدة جاءت تامة (فعولن) لتعكس هبوطا إيقاعياً ناسب دلالة الشمول والإحاطة للتغيُّر والعفاء الذي جرى على الرس بعد مغادرة الشاعر لها، مما أضفى ما يمكن أن نسميه (حركيّة الإيقاع)، وهي حركية تتماوج مع الدلالة صعودًا وهبوطا.
كما أن هناك بُعدًا مهما لتلك الحركية الإيقاعية في القصيدة يتمثل في كون الإيقاع زمناً، يتوزّع داخل أروقة الأماكن في النص، مما يصنعُ لها زمناً جديدًا غير الزمن الفيزيائي المعروف، ولنضرب لذلك مثالاً آخر:
تذكرته بالأنعمين ومنعج تفيء علينا بالظلال ذوائبُه
فالتفعيلة الأولى جاءت تامة (فعولن) لتمنح الفعل الماضي (تذكرته) ولوجا مغرقاً في دهاليز الذاكرة؛ من خلال ما حققه تمام التفعيلة من هبوط في الإيقاع الزمني، مما حول الماضي إلى ماض بعيد، لما في التذكر من شجن وشرود وتحسر واجترار لأحداث بعينها دون أحداث أخرى، وهو ما نلمحه أيضا في قوله:
ووجه تخال الشمس نحوه أشرقتْ بهيٍّ حَسِيْنِ الثغر دُرٍّ ثواقبُه
هذا الوجه الجميل الفاتن يحتاج إلى تأمل وإمعان في رصد حسنه وتعاريج جماله؛ لذلك ناسبه هبوط الإيقاع بمجيء التفعيلة تامة (فعولن) مما يمكن أن نسميه زمن الحاضر الممتد، لمواكبة دلالة تأمل هذا الوجه، التي أنتجت لنا هذا الوصف البديع له في تضاعيف البيت. – تناصّات جاهليّة: تشدُّ القصيدةُ القارئ من أوّل كلمة (عفا) إلى أسلافها من قصائد الشعر الجاهلي، على نحو ما نجد في معلقة لبيد:
عفتِ الديارُ محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
وكذلك قصيدة الشاعر النّجدي بشر بن أبي خازم “عفا رسم برامة فالتلاع” وقصيدة حسان بن ثابت:” عفت ذات الأصابع فالجواء” وغيرها كثير، مروراً بطقوس الوصف الجاهلي للطلول، والبروق، واجترار الذكريات، ووصف الحبيبة…، وهو ما قد يدفعنا إلى القول: إن شاعرنا “علي الحناكي” تراثي المذهب، يكتب الشعر من حيث يهوى ويرغبُ، ولكن هذا التبرير لا يشفي غُلة القارئ النَّهِم، فاللغة قاسَمٌ مشترك بين الشعراء جميعا، التراثي منهم والحداثي، وهو ما يدفعنا للبحث عن وجهة أخرى نبرر بها اختياره لهذا القالب الجاهلي لغة وتصويراً وطقوسا؛ إذ إن اختيار القالب هو الخصوصية بعينها، ولعل الأماكن التي اختارها الشاعر وزخرت بها قصيدته من موطنه (الرس)، تُعد أحد أهم الأسباب في حلول النص في هذا القالب، فللرس وآثارها تاريخ عتيق، وطأتها أقدام الشعراء الجاهليين من قبل، وحلوها ومرواً بها، من مثل: زهير بن أبي سُلمى، وامرئ القيس، وعنترة، وغيرهم… كما تغنّى كثير منهم بآثارها وجبالها، التي ذكرها شاعرنا في نصه، ومن ذلك ( إمرة، كير، خزازى، الأنعمين، منعج…)، يقول عروة بن الورد:
سَقَى سَلْمَى وأين مَحَلُّ سَلْمى إذا حَلَّتْ مُجَاوِرَةَ السَّريرِ
إذا حَلَّتْ بأرضِ بني عَليّ وأهْلُكَ بين إمَّرَةٍ وكِيْر
وفي خزازى يقول سلمة بن خالد بن كعب بن زهير، المعروف بسفاح التغلبي:
وليلة بت أوقدُ في خزازى هديت كتائبا متحيراتِ
وفي قراءتنا نرجّح أن الشاعر لا تشده إلى هذه الأماكن -بوصفها قالباً جاهلياً- كونها من الآثار المشتركة الممتدة عبر الزمن في المكان (الرس) القديم الحديث فقط، بل إن تجربة الشاعر الشعرية تميل إلى التفتق في هذه الأماكن، فهو إلى سيد الصعاليك عروة بن الورد أميَل، في انتهاج صعلكة شعرية تُؤثر العزلة، وبإمكاننا أن نعثر على وشائج بين مسلكه ومسلك عروة بن الورد في ذلك، فإذا كان عروة يبحث عن سلمى بين هذه الدروب والجبال بعد أن ضيّعها، فشاعرنا يبحث عن حبه الضائع (هند) في الأماكن نفسها، يقول:
عفا الرّسُ بعدي غيّرتُهُ نوائبُه وراح تسافي دارَ هندَ هبائِبُه
ووصف البروق لعروة اقتفاه شاعرنا، فقد قال عروة:
أرِقْتُ وصُحْبَتي بمَضيق عَمْقٍ لبَرْقٍ في تِهامةَ مُسْتَطِيرِ
ويقول علي الحناكي:
وشَعشَع برقٌ قد تراءىٰ فزادني جوىً نحو شِعبٍ بالبطاح سواكِبُه
بل إن تذكّرَ شاعرنا هو نفسه تذكر عروة:
ذكرتُ مَنَازلًا مِنْ أمِّ وَهْبٍ مُعَرَّسُنَا فُوَيْقَ بني النَّضيرِ
ويقول شاعرنا:
تذكرته بالأنعمين ومنعج تفيء علينا بالظلال ذوائبه
نخلص من ذلك إلى أن النص لم يختر ذاك القالب الجبليّ للمكان؛ لكونه شابَه تجربة الجاهليين فقط، بل جاء المكان امتداداَ لتجربة شاعرنا، التي أشبهت تجربة الشعراء الجاهليين على نحو ما وجدنا عند عروة. – طلليّة المكان بين التعدد والاتحاد: نجد في النص أمكنة لا مكاناً، فهناك الأماكن الأعلام: ( الرس، البطاح، كير، إمرة، خزازى، الأنعمين، منعج)
كما نجد أماكن أخرى تعد وصفاً للمكان أو مكاناً عاماً، نحو: (الدار، الدروب، الطلول، الحزون)
ومع ما أوحت لنا به هذه التعددية من انفساح مكاني امتد للدلالة على انفساح زماني، وهو زمن (الذكرى)، فإن هذه الأماكن جميعاً تتحد في مكانين فقط، هما: (الأنعمين، ومنعج)، الّلذانِ أهِلا بذكرى الشاعر، ومطارحته محبوبه الغرام بين سفوحها، يقول:
تذكرته بالأنعمين ومنعج تفيء علينا بالظلال ذوائبه
شكوت إليه ما ألاقي فعادني من الشوق ما تخشى النفوس تقاربه
فطارحته سبْل الغرام فشاقني بطرف كما الوسنان يفتر هادبُه
فعلى نحوٍ شعريّ يجتر الشاعر ذكرى مضت جمعته بمحبوبه هند؛ ليعيد إلى هذه الطلول أهلها وريعانها، مستحضراً لحظات الوصال التي كانت تجمعه بها، وقد قفز إلى هذه الذكرى بالفاء (فطارحته) مستأنفاً من خلالها أمتع لحظاته معها.
لكنْ هل كان الشاعر حقا قد وقف بهذه الأرض وأطلالها؛ ليستمطر لها الغمام، ويستدعي البروق والرعود؟ والإجابة: لا، بل كان وقوفه بها استدعاء للشوق والحب الضائع، يقول:
وما كان يرجو سَقيَ أرضٍ وإنّما ملاقاةَ خِلٍّ أحرقتني لواهِبُه
يعيد “علي الحناكي” تشكيل الطلل البائد مرة أخرى على نحو فنّي حين يجعله حيّا بالتذكر، آهلا بلحظات الوصال التي يكتنزها منذ زمن فات، فليست السحب السواكب، والرعود المزمجرة، والبروق التي تلوح كالسيوف مما تعيد لهذا الطلل حياته، بل شاعرنا حين أحياه بهند، ووجه هند، ومُحيّا هند، وثغر هند، وضياء هند الذي امتاح من محاسن يوسف. وهو ما يجعلنا نعيد تأويل رؤيتنا للمكان مرة أخرى، وَفق سؤال نطرحه: ألا يمكن أن تكون هندُ هي الرسَّ؟!
وأن يكون هذا الهُيام بهند إنما هو هُيام بالرس، فالمكان المادي يفترق ويتعدد في النص، ثم يتحد في مكانين، ثم يجتمع الكل في (هند)، التي لا نرى غضاضة مطلقاً في جعلها معادلاً موضوعياً للرس، فبعد أن فتح الشاعر قصيدته على أماكنها الفسيحة، أراد أن يهبها وصفاً أجمل فأنزلها منزلة هند؛ لتصير هند (الحناكي) متداخلة في المكان، بل هي المكان، على نحو ما كانت عند الحطيئة كل شيء، وذلك في قوله:
ألا حبّذاً هندٌ وأرضٌ بها هندُ وهِنْدٌ أتى مِنْ دُونها النَّأْيُ والبُعْدُ.
*أستاذ النقد المساعد بجامعة القصيم
مقال نقدي رائع لقصيدة مبدعة.
أحببت القصيدة واستمتعت بقراءة المقال.
قصيدة رائعة ومقال مبدع كتب بأسلوب سهل ممتنع جعلني أحب القصيدة.
استمتعت كثيرا بالقراءة.
اللهم بارك ، بالرغم من عدم تخصصي في اللغة العربية الا اني تعجبت من سهولة الكتابة وفهمي لمصتلحاتها وذلك بسبب قلم الكاتب الرشيق الذي صاغ النقد الشعري باوضح عبارة جعلت الفائدة قريبة للقارئ ولو كان غير متخصص