302
0218
0292
0962
0481
029
048
050
095
0231
060
4الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11530
04673
04046
173166
0د.عبده منصور المحمودي*
تتشكّلُ تجربةُ الشاعر عبد الإله الشميري الإبداعية من اشتغالاتٍ واعيةٍ على مساحاتٍ فنيةٍ وفكريةٍ، تتبلور من خلال عمله عليها خصائصُ أسلوبية في نصوصه. وهو – بذلك – ماضٍ نحو غايته في أن يكون لشاعريته مكانٌ مستقلٌ بفرادتها، إذ يرى “أن المثابرة ضرورية لنمو الشاعر وتطوره، والشاعر الحقيقي هو من يدرك موقعه بين كل من سبقوه وجايلوه، وهو من يضع بصمته الخاصة به ويأتي بالجديد…”.
وقد ظهرت مثابرته تلك في: اشتغاله على صورٍ صوتية، ورؤىً، وبُنىً عروضية. الاشتغال على صورٍ صوتية:
تأتي في صدارة نماذج الصور الصوتية، التي أغرتْ الشاعر بالعمل عليها دلاليًا، الصورة التي تظهر على نطق بعض الأصوات نطقًا ذا لثغةٍ مسموعة، كقوله من نص “عائشة”:
والسِّينُ .. يا للسين مِنْ لثْغِها *** إنْ بَعْثَرتْ في مِتْنهِ هامشهْ!
إنْ قلتُ إني للهوى حارسٌ *** تقولُ: إني للهوى “حارِشَة”.
يورد الشاعر في هامش النص اللفظ “حارشة”، على صورته الأصلية “حارسة”. وفي المتن، وظف الصورة السمعية التي تظهر عليها هذه اللفظة بخصوصيةِ لثغ صوت (السين) فيها، وهي خصوصيةٌ متعلقةٌ بشخصية المتحدث (حبيبته)، بما هي عليه من صفاتٍ لمخارج الأصوات لديها. ومثل ذلك كان توظيف الشاعر للَّثْغة في نصه “عينان سوداوان”، إذ يقول:
قالتْ: “صباح الخير”، ثم تَبَسَّمَتْ *** وغرورها يجتاحني كالسيلِ
فتخلّلَ الخجلُ العظيمُ مفاصلي *** والطهر يركضُ فيهِ ركضَ الخيلِ
وسمعتُ طفلًا داخلي مُتَلَعثمًا *** لثغَ التحيةَ: “يا ثَباهْ الهيلِ”
أشار الشاعر في هامش النص الذي جاء منه هذا النموذج، إلى جملة “ثباه الهيل”، موضحًا ما فيها من خصوصيةٍ صوتيةٍ، أضفتها عليها اللثغة. وفي هذه الصورة الصوتية ـــ جملة: “يا ثباه الهيل” ـــ استثمرتْ الذات الشاعرة ثراءً دلاليًا تكاثفت فيه الإحالات على حال الشاعر الخجول المرتبك في رد التحية، وهو يسمع تحية الصباح على لسان حبيبته، إذ استشعر فاعلية اللحظة فيه على هيئة طفلٍ صغيرٍ مرتبكٍ داخله يلثغ في رد التحية. وقد برع الشاعر في تشكيل صورته الشعرية هذه، وتأثيثها بمعطياتٍ تضفي عليها مقومات بنائها المنقسمة على حاله المرتبكة، وصورة الطفل محدود القدرات الصوتية. في اتجاه آخر من استثمار الشاعر لمعطيات الصور الصوتية، يمتاح مادته من صوت مشية الخيل، في النص “متوتر”، الذي منه قوله:
ولكلِّ ناسٍ فكرةٌ في رأسهِ *** تجتاحُهُ كالخيلِ حينَ يُفكّرُ كالخيل
تعجنُ بعضَهُ في بعضهِ: *** تررن ترو تررن ترو تررن ترو
في هامش النص، وردتْ إشارةٌ إلى ماهية الشطر الثاني من البيت الثاني، بالقول: إنه “تشكيلٌ صوتيٌّ لمشية الخيل، نؤديها بقرع طرف اللسان الأيسر لأعلى الحنك، ينتج عنها تطريبًا محاكيًا لمشيته”.
لقد استدعى الشاعر ـــ هنا ـــ الأثر الصوتي لمشية الخيل، وأوكل إليه مهمة تخصيب معنى الصخب الفكري في الذهنية البشرية، بماهيتها التجريدية التي وجد حالها متسقةً مع مشية الخيل وتداعياتها الصوتية. ويظهر الأمر ذاته، في هذا البيت من نصه “صنعاء وغبار الأسئلة”:
سيـــارةٌ للمـوتِ يصـــــدح بوقـــــُها: *** تِـــرِرِنْ…. تِــــرَارِنْ..تِيـــــرَ..رِنْ…تيــرارا
السيارة هنا ليست سيارة عادية، وإنما سيارةٌ من النوعية التي صار الموت واحدًا من معانيها، وفي تضمين البيت لفظة الموت؛ ليحيل على هذه النوعية من السيارات ما يفي بالمعنى، إذ تسطع الدلالةُ المرعبة في حركية سيارة الموت وعليها جنازةٌ، كما يبلغ المعنى ذروته التأثيرية مع سماع صوت بوقها العالي. وقد طوّع الشاعر امتدادات هذا الصوت المرعب لميزان نصه العروضي، مثلما طوّع صوت مشية الخيل لميزان نصه السابق “متوتر”. تكريس الرؤى: في أكثر من نصٍّ، كرّس الشاعر رؤيته في الأنثى، التي نالت قدرًا لا بأس به من اشتغالاته التكريسية لبعضٍ من رؤاه، ومن ذلك قوله:
طعمُ الأبوةِ دون بنتٍ ناقصٌ *** جِدًا؛ لأنّ البنتَ أمُّ أبيها.
رؤية الشاعر في الأنثى، تضمَّنها هذا البيت في قالبٍ من حاجة الأبوة إلى الاكتمال، فلا طعم للأبوة إلا حينما يكون للبنت نصيبٌ فيها. ثم يَرِدُ التعليل الشعري لمحورية البنت ـــ هذه ـــ مفاجئًا وغير متوقع، إذ جاء ارتقاءً بالبنت من محدودية فضائها المتجانس مع مرحلتها العمرية إلى فضاءٍ أوسع تبدو فيه مأهولةً بعاطفةٍ أكبر من عمرها، عاطفة الأم الحانية على ولدها، ومَنْ ولدُها هنا؟ إنهُ أبوها، مكتملُ الأبوة بها، فهي ابنته وأمه في آن واحد. ورؤية الشاعر في الأنثى تمنحها محوريةً في التجربة الشعرية، فهو يرى أن “المرأة مهمة جدًّا في حياة الشاعر وامرأة واحدة لا تكفيه. [لأن] رسو الشاعر على امرأةٍ واحدةٍ ينتج نوعًا واحدًا من الغزل ومملًّا، لذا عليه تنويع تجاربه العاطفية؛ إذ إن كل امرأة تمنحه سقفًا إبداعيًا مختلفًا عن سابقتها بحسب اختلاف جمالها، أناقتها، لغتها، روحها، مشاكساتها، عنفوانها، صدامها معه،…”. لذلك، فإن الأنثى ترادِفُ عنده الحياة والخير، كما يعيد إليها الكونَ بحيويته من أوله إلى آخره، ويلقي على كاهل الرجل مسؤولية الخراب كله، فيقول:
الكونُ أوَّلهُ أنثى، وآخرهُ *** أنثى، وكلُّ خرابٍ خلفهُ رجلُ
ولا يطرد هذا الشمول الإيجابي لشخصية الأنثى في رؤيته، إذ يتبلور لديه توصيفٌ للنساء، ينقسمن فيه على صنفين: الأول صنف المأهولات بالحياة، والثاني صنف المفتقرات إلى هذه الصفة. وأقل ما يمكن أن يقال عن ذوات الصنف الثاني إنهن صورةٌ أخرى من أشواك “المحاطيب”، حسب ما تضمنه قوله:
بعضُ النساءِ بساتينٌ مُعلّقةٌ *** وبعضهنَّ كأشواكِ “المحاطيبِ”.
من اشتغالات الشاعر الدلالية، اشتغالُهُ على أنسقة التواشج بين مظاهر الحياة وجوهرية الفكر والإبداع، كقوله:
البحرُ بحران: بحرٌ زاد أزرقُهُ *** قَدْرًا بموسى، وبحرٌ … بالفراهيدي.
يشيِّدُ هذا البيت علاقةً بين البحرين: بحر الطبيعة، وبحر الإبداع الشعري. مستثمرًا واحدية الاسم، ومُجَسِّرًا الهوةَ بينهما، تلك الهوة المتأتية من اختلافهما في المسمى، يبدو هذا التجسير في واحديةٍ أخرى، تتخَلَّقُ فيهما تجانسًا بينهما في علو قدريهما، أحال التناص القرآني مع قصة موسى على علو قدر بحر الطبيعة، وأحالت جهود الفراهيدي على علو قدر البحر الإبداعي، بعد أن ارتقت به فصار عِلْمًا ذا أسسٍ وقواعد وتنظيراتٍ نقدية وصوتية وإبداعية.
اشتغالٌ عروضي: طرقت تجربة الشاعر ـــ في سياق اشتغالها على غاية التفرد ـــ بُنيةً عروضية، في نصه “بالأحمر”، الذي يستهله بالقول:
غناءٌ كلما أطْفأتُهُ اشْتَعلا *** على إيقاعهِ أيْقظتُ مَنْ غفلا.
النص من بحر الوافر، والسائد في الشعرية العربية والرؤية العروضية الخليلية أن تفعيلات هذا البحر ست تفعيلات، وفقًا لصيغته هذه: مفاعلتن مفاعلتن فعولن *** مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وبتأمل تفعيلات بيت الشاعر، يبدو انزياحه عن هذه الصيغة ذات التفعيلة الثالثة غير الكاملة (فعولن)، إلى الصيغة الأخرى ذات التفعيلة الثالثة المكتملة (مفاعلتن)، حيث جاء البيت على هذا الوزن:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعلتن *** مفاعيلن مفاعيلن مفاعلتن
ذكر الخليل الفراهيدي أنه لم يعثر على نماذج من الشعر العربي وردت على هذه الصيغة، وأن ما توافر له من القصائد العربية جاء على الصيغة الأولى. وأورد هذه الصيغة المكتملة على افتراض أنها الأصل في بحر الوافر، وأن فيها ممكنات الكتابة على نسقها. وقد التقط الشاعر هذه الإشارة، واستثمر إمكاناتها الفنية، ضمن اشتغالات التجديد والتجريب في تجربته الشعرية؛ فجاء نصه “بالأحمر” صورةً جليةً لهذا الاشتغال. إن فضاءات التجريب والتجديد في التجربة الشعرية فضاءاتٌ رَحْبَةٌ، أمام كل شاعرٍ حريصٍ على إثراء تجربته، والاشتغال على ما يتراءى له من إضاءاتٍ فكريةٍ وتقنيةٍ لم تُسْتَنفد إمكاناتُها بعد. وفي هذا الطريق سار الشاعر عبد الإله الشميري؛ فاتسمت تجربته بسماتٍ تنحو بإبداعه نحو مزيدٍ من التشَكُّل لخصائص أسلوبية في نصوصه الشعرية.
*ناقد من اليمن
التعليقات