36
041
0104
053
078
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11903
05711
05652
05379
04865
0سمية غازي الطيب*
تثير قضية العلاقة بين الأنا والآخر، إشكاليات تتعلق بالهوية وتسريدها، وذلك بالاختلاق كما يقول إدوارد، لكنه ينحى بها منحى آخر عندما يخلصها من حمولتها السلبية، ويُبقى على معناها الإيجابي الذي يقوم على المناحي المشرقة في المنعطفات التاريخية للمجتمعات.
تتعالق الأنا والآخر تعالقًا سياميًا لا ينفك فيه أحدهما عن الآخر؛ لذا يظهران بصورة صارخة في فن الرواية وخاصة تلك التي تعمل على التاريخ، فتعرّي الأدلجة أحيانًا وتصفق للآخر، وأحيانًا أخرى تعمل على سلب الآخر وتمجيد الهوية والأنا والثقافة ….الخ؛ لذا فإن ” سرد الهويات ليس بعيدًا عن الصراع، لأن سيادة أية هوية أو سردية لا يتم إلا على حساب انحسار هوية وسردية وحبكة أخرى”.
ستتناول هذه الورقة صراع الفن بين الشرق والغرب في الرواية التركية: إسمي أحمر لأورهان باموق، وذلك عبر سبر أغوار الصراع في الفن بين الذات (المنمنمات التركية العثمانية) وبين الآخر (فن البورتريه الإيطالي- الإفرنجي)، وكيفية التفاعل بينهما، وذلك بالاتكاء على كتاب السرد والهوية في منهجيته الثقافية التي اتبعها.
فن المنمنمات في القرن السادس عشر في الدولة العثمانية.. ويُطلق على من يرسمها بالنقّاش أو الرسام.
يقوم النص الروائي (اسمي أحمر) على ثيمة الأنا والآخر، مستعرضًا الثقافة والحياة في إسطنبول أيام الحكم العثماني، فجاء العنوان يحيل إلى وقفتين متعاضدتين: الأولى: الهوية وذلك بتوظيف ياء المتكلم، والثانية: دِلالات الهوية المرتبطة باللون الأحمر عبر أمرين: أولهما: مدار الحدث الرئيس قائم على القتل جرّاء الفتنة بين فريق يؤمن بأن الفن العثماني له أسسه وقواعده وأصوله المُتبعة وفق الشريعة الإسلامية، وبالتالي نيل رضا الله سبحانه وتعالى عند الالتزام بها، وبين فريق ينادي سرًا بضرورة الرسم على غرار الإفرنج الإيطاليين (البورتريه) وهذا وفق الثقافة العثمانية السائدة كفر وإلحاد، ومن هنا تحدث جريمة القتل الأولى، وتتحرك على إثر الدم الأحمر الأحداث. وثانيهما: أن فن المنمنمات العثمانية تميز باللون الأحمر الفاقع.
تنعكس الثيمة من العنوان وصولًا إلى عناوين الفصول المتتابعة في الرواية التي جاءت بضمير المتكلم مشيرة إلى الذاتية والهوية: أنا قرّة، أنا زوج خالتكم، اسمي إستر، ينادونني فراشة، إلخ؛ ما يُعطي إيحاءً دِفاعيًا كأنه يُجلي الستار عنه بهذا التعريف الذي يجعله في مقابلة الآخر، فطالما استخدم ضمير المتكلم فإنه دون وعي يشير إلى الغائب وهو الآخر، والمثير تكرار تسمية: اسمي أحمر التي جاءت منتصفة فصول الكتاب، فهي البذرة الأساس التي قام عليها تاريخ فن المنمنمات العثماني الإسلامي.
اهتم أورهان بموضوع الحياة العثمانية خاصة في إسطنبول، فتعددت أوجه الكشف عن الهوية والآخر، عبر عرض صور التعايش وتعدد الثقافات والهويات، من ذلك مثلًا وجود اليهود والمتمثلة في شخصية إستر الخائنة للأمانة وذلك بفتح الرسائل قبل إيصالها للمرسل إليه. وعرض الآخر المتمثل في بلاد العرب والعجم والإفرنج بواسطة نبرات الصوت والكلمات التي توحي بمشاعر عدّة كما ظهر على لسان شخصية قرة عند وصوله إلى إسطنبول وذلك بالإسقاط على المكان الذي حضر منه محيلًا إلى أنه مكان متخلف “تدهش أمثالي القادمين من أمكنة بعيدة”، والإسقاط على الزواج في العالم العربي بالإحالة على كتاب الغزالي وحديثه عن الزواج بصورة سوداوية. أيضًا: المخاوف من الآخر متمثلة في الموضوع الرئيس الذي قامت عليه الرواية وهو: فن المنمنمات العثماني الذي تكشّفت فيه صور الهوية والآخر على مدار الرواية، ففي حال الوصف يعرّج على النقوشات وما يتعلق بها من أصباغ عائدًا إلى ذكريات الماضي، وهذا يعطي فكرة مفادها تجذر النقش في الحضارة العثمانية خاصة إذا ما عرفنا ارتباطها بالبلاط السلطاني، إذ تعد وظيفة النقّاش مرموقة تعتمد على الفن والسرية من جهة، وتمثل حياة العثمانيين من جهة أخرى، وذلك بتأريخها للأحداث السياسية والحربية والاجتماعية، فالنقش إثبات وقائع؛ ولذا فالنقاش يهدف إلى غرس هذا التأريخ والحاضر عبر التنقيش كما ظهر على لسان النقّاش لقلق “عندما نعود إلى إسطنبول بعد الحرب أرسم أدوات الحرب التي سينساها الجميع، والأجساد المشروخة، إلخ” فهو وسيلة إشهارية يعتمدها العثمانيون بصورة عامة والسلطة بصورة خاصة عبر تمرير رسائل للمتلقي، فمثلًا في معرض وصف رسمة للسلطان تقول الشخصية قرّة: ” فجر البارود وسط الجبل أمام السلطان عارضًا كيف جعل مملكة الكفار بمآذنها تئن، وفي صفحة أخرى ثمة أسد يمثل الإسلام يطرد خنزيرًا ملونًا بالزهري والرمادي يمثل الكفار” كلها دلالات على قوة السلطة العثمانية، التي جاء التصوير الروائي للفن يخدم هذه الفكرة؛ إذ أن النقش آنذاك فن مشترك بين إسطنبول وبلاد العجم والعرب، لكنه تراجع للوراء عند الآخر بسبب الحروب، هذا يخلق صورة متناقضة مع صورة نقّاشي العثمانيين التي توحي بقوة الانتماء لفن النقش وعدم التخلي كما ظهر عند غيرهم.
من منعطفات الرواية الإشارة إلى تميز فن الرسم المركزي عن الهامشي، فالنقش لفئة الهامش يكون بواسطة نقّاشين مارسوا النقش على غير أسسه النقية فرسموا الخلاعة وقصص الحب ورسموا على الورق المهترئ وبأصباغ سيئة، بينما الرسم للمركز يكون بواسطة نقاشين مختصين لهم براعتهم ورسمهم النقي، إذ يرتبط النقاش ومهنته بالقدسية، وهذا إيمان محض وثقافة سائدة مرتبطة بالأساتذة القدماء في النقش، ذاك أن عملهم بإلهام من الله، بل هو “بحث مباشر عن إلهام الله ورؤية كما يريد الله”، ربط الرسم بالله يحيل بالضرورة إلى ربطه بالدين؛ لذلك كان العمى هِبة واصطفاءًا للنقّاش إذا كَبُر في العمر؛ ذاك أنه يقوم بمهمة قدسية، إنه يرسم الجمال والعالم وفق رؤية الله، لذا حين يعمى فهذا صيانة لنظره وحفظًا لها من أن يخدش العين هذه شيء من الدنس، “العمى ليس بلاء بل هو السعادة الأخيرة التي يمنحها الله للنقاش الذي وهب حياته كلها للجمال”؛ لذا كان من الحماقة والذنب في بلدان العجم أن يُعاقب الرسام بفقئ عينه.
ينبثق الصراع بين الفن العثماني والإفرنجي مرتبطًا بالأساس للفن الإسلامي الذي تميزه خصائصه عن غيره، خاصة أن النقش في الثقافة العثمانية هو فلسفة ومعرفة أبعاد هذه الفلسفة الضاربة بجذورها في التاريخ إلى الأساتذة القدماء توحي بفهم النقّاش العثماني لفلسفة التخييل، فالنقاش كما جاء على لسان زيتونة” ينظر أولًا إلى الحصان ثم يرسم بسرعة على الورق ما في ذاكرته، فالحصان على الورق ليس هو الحصان الذي يراه، بل ذكرى الحصان الذي رآه قبل قليل”، لذا عندما بدأ النقاشون في التأثر برسم الإيطاليين الواقعي ظهرت المخاوف؛ لأن السلطان أحب أصول النقش الإفرنجي، لكنه أراده بتأثير عثماني فكلّف أحد رجاله بعمل كتاب سري يحمل حكاية ونقوشات لم يُفصح عنها، هذا الرجل كان من الفئة الثانية من الفنانين المتأثرين بالفن الإفرنجي، إذ يتحدث عن نفسه قائلًا: “أنظر إلى رسوم الشخصيات التي يقدمها الأساتذة الإيطاليون، لا أعرف إذا كانت الرسوم تحمل موقفًا معينًا من حكاية معينة، لكنني كنت أحاول استنتاج حكاية، هو رسم شخص مثلي إنه بالتأكيد رسم كافر، وليس واحدًا منا، لكن كلما نظرت إليه أشعر أنه يشبهني”، اعتراف النقاش العثماني بأن رسم الآخر (البورتريه) الذي يتميز برسم واقعي مضيفًا إليه تكنيك الظل لم يكن موجودًا في فن المنمنمات؛ لذا وصفه بقوله: رسم كافر، ما يحيل إلى قضية الصور وتحريمها في الإسلام التي كانت تحكم العثمانيين، فالرسم الإيطالي يرسم العيون بطريقة “لم تعد كما كانت تُرسم عبارة عن دوائر أو ثقوب متشابهة، بل إنها مثل عيوننا تعكس الضوء مثل المرآة، والشفاه كذلك”، واستخدام هذه الأساليب يجعل “الرسم حقيقة وهذا يدفع الإنسان إلى السجود للرسم كما في الكنائس” لذا فإن اتخاذ خطوة كهذه يُظهر الصراع الذاتي للنقاشين العثمانيين الذين باشروا النقش متأثرين بأصول الأساتذة الإفرنج وفي المقابل شعورهم بتزعزع هويتهم المرتبطة بأصول الأساتذة القدماء من جهة، وببغض بعض فئات المجتمع التي لها سلطة على العوام من فقهاء ووعاظ وقضاة لهم، إن علموا بطريقة الرسم المستحدثة، هذا الصراع قاد إلى جريمتي قتل بين النقّاشين الذين تربطهم علاقة ودية.
ينخر الآخر الإفرنجي بأساليبه الفنية في ثقافة الفن الإسلامي من وجهة نظر النقاشين العثمانيين؛ لذا فقد كانت سمة النقاش غير الموهوب فراغ العقل؛ لأنه “يرسم الحصان على طريقة الرسامين الإفرنج”، لكن الحقيقة ما جهر به زوج خالة قرة أن الرسام الإيطالي “أكثر إقناعًا وأكثر شبهًا بالحياة، إنهم يرسمون ما يرونه، لكننا نحن نرسم ما رأيناه”، يتعاضد صوت الراوي الحصان في الانتصار لقبول أساليب الإفرنج فهي “ليست مروقًا، بل على العكس هي الأنسب لديننا، لقد سئمت من إظهاري بشكل خاطئ على يد النقاشين الذين يجلسون في البيت ولا يخرجون إلى الحرب مثل النساء، إنهم يرسمونني وأنا أعدو مادًا قائمتي الأماميتين”، هذا الصراع الثقافي المتعلق بالفن جعل فضاء النص الروائي يقوى على استيعاب رواة عدّة من الفريقين، ففي المقابل للرسم الإفرنجي الدخيل، تظهر الهوية متمثلة في الأستاذ عثمان الذي يصف الرسم بقوله “إذا كنا داخل رسم إفرنجي فسنخرج من الإطار والرسم، وإذا كنا في رسم على طريقة أساتذة هرات كما نرسم فسنصل إلى مكان يراه الله، وإذا كنا في رسم صيني فلا نخرج منه أبدًا”، يطرح صور الرسم المتداولة لينتصر للرسم العثماني عبر تمرير العلاقة مع الله؛ فالعاطفة الدينية تلعب دورًا مهمًا في الخطابات التي تصدر ممن لهم شأن كالأستاذ عثمان الذي ينظر للفن أنه طريق لله، وأن النقاش يبذل حياته وخياله “لتذكر المناظر الرائعة التي أودعها الله وأمرهم برؤيتها ونقشها”.. هنا تكمن هوية النقش العثماني أن “المعنى في الرسم يأتي قبل الصورة، لذا عندما يبدأ الرسم على الطريقة الافرنجية والإيطالية فسيذهب عالم المعنى ويبدأ عالم الصورة وفق الأسلوب الإفرنجي”، تتعاضد رؤية الهوية عند النقّاشين ضد الآخر، كما يأتي على لسان الشخصية النقاش فراشة بصورة تحذيرية تحمل أبعادًا تنتصر للفن العثماني وذلك بإيضاح تبعات اتباع الطريقة الإفرنجية بقوله “أنا أعرف أنه بتأثير بعض الأساتذة الصينيين المساكين المنحرفين عن طريقهم بانخداعهم بالرسوم ذات التأثير الإفرنجي التي نقلها الخوارنة اليسوعيون من الغرب، وُلد هوس الشخصية والتوقيع في الأسلوب”، بالتالي لا بد من أن يُوسَم الأسلوب الإفرنجي “بالمرض المعدي”.
ومن صور الصراع علاقة الإفرنج بالألوان والسخرية من ماضيهم، ما يحيل إلى تأثيرهم الحاضر على الفن، لاستحباب السلاطين الرسم الواقعي، يقول اللون الأحمر راويًا “قبل مئة وعشر سنوات عندما لم يكن النقش الإفرنجي توقًا للشاهات، وتهديدًا حقيقيًا، ولأن الأساتذة الكبار يؤمنون بأساليبهم كما يؤمنون بالله كانوا يضحكون لاستخدام أساتذة الإفرنج مختلف أنواع الأحمر”، هذا التعبير يحيل لهوية فن النقش العثماني وجذوره الأصيلة ويكشف انعكاس الصراع الثقافي على أدق تفاصيل الرسم، ليوصلنا نهاية إلى موت فن المنمنمات، والطريقة الإفرنجية بسبب رؤيا السلطان التي جاءه فيها رسول الله محذرًا” أنه إذا أفسح المجال لقومه بإبداء الإعجاب بالرسم خاصة الذي يشبه الإنسان، والذي يُظهر التسابق مع الله في الخلق فإنه سيعتبر خارجًا عن أوامر الله، هكذا لم يعد يُرسم لا مثل الغربيين ولا مثل الشرقيين ، ونسي النقاشون دون رحمة أن العالم كان يرى بطريقة مختلفة”.
وصولًا للختام انتصرت الهوية الثقافية ومات الآخر، دون ظهور صوت للروائي أو تفضيل لفريق على آخر، بل بتسريد الصراع المنصبِّ على الرسام ونقوشاته؛ لأنه يغير مشهدًا من الذاكرة الموثقة للتاريخ عن طريق النقش؛ لذا جاء وضع الآخر في كفة الميزان (الفن الدخيل) مقابل الهوية (فن المنمنمات) الفن الأصل، ما ساعد على حركة الأحداث السردية المتتابعة من ارتفاع وهبوط وسكون يديرها هذا الحراك الثقافي بين نوعي: الفن التركي والغربي.
قعّد أورهان لفن المنمنمات ولفت النظر إلى أصول هذا الفن، وجعله بوابة سلط عليها الضوء ليرى الآخر الغربي شيئًا من حضارة مفقودة.
*ناقدة من السعودية
التعليقات