الأكثر مشاهدة

عبد السلام إبراهيم* تبدو ملامح الاغتراب في قصيدة “ظلان فوق الرصيف” ل …

ملامح الاغتراب في قصيدة “ظلان فوق الرصيف” لـ محمد البريكي

منذ 3 أشهر

139

0

عبد السلام إبراهيم*

تبدو ملامح الاغتراب في قصيدة “ظلان فوق الرصيف” للشاعر الإماراتي محمد البريكي، من خلال كشفه عن رموز تستبطن الوعي واللاوعي وتحيل إلى حالته الشعورية المكثفة وطقسه الفني اللذين يرتقيان بالتجربة ويكثفان مدلولاتها؛ فالرمز عنده يضفي على التجربة زخمًا وتوهجًا وينقلها إلى آفاق أكثر رحابة، كما يحمِّلها بأنساق دلالية تبعث فيها روحًا تتميز بخصوصية وتفرد. تقوم فلسفة الرمز عند البريكي على البناء الثنائي “ظلان” يمزج المعنى الظاهري الذي يكشفه اللفظان، من خلال المعرفة الحسية المباشرة “أنا والذات” و”الصمت والليل”، والمعنى المضمر الذي يتم استجلاؤه عن طريق الإيحاء؛ بين الشاعر وذاته والصمت والليل، والإدراك المتبادل الخاص بالعلاقات العميقة المضمرة بين الظواهر الحسية والشعور بالوحدة وتجليات الذات التي تؤسس للشعور بالاغتراب، فنجد أن مطلع القصيدة يؤكد على تلك العلاقة؛ إذ إن الصبح يتجلى بضوئه ووهجه فيقوم باستدعاء الليل وسطوة ظلامه الذي يتمثل في المعطف، كما يقوم بثقب وعاء الحلم القديم لتتفجر من خلاله كل الآمال التي كانت محبوسة فيه وتتصف بأنها منهكة ظلت تتجدد تلقائيا، لكنها لم تجد أرضًا خصبة تحدث فوقها عملية التلقيح فتتحقق، لكنها كانت سببًا مباشرًا في لجوء الشاعر للوحدة ومن ثم شعوره بالاغتراب، رغم أنه كان إيجابيًا في التعامل مع مفردات الواقع.

أتى الصبح

يرمي على جسدي معطف الليل

يثقب فانوس حلمي القديم

إن الاغتراب الذي تثيره رموز محمد البريكي الشعرية حينما يقول: أهديته من دموعي عيونا، يعتبر محاولة جادة للانعتاق منه، وحينما يقول: ومن وحشتى أرغفة، تزيد رمزية الاغتراب، إذ يمنح الخبز من عمق ذاته الاغترابية؛ فتمثل هاتان الصورتان رمزية أعمق بكثير من الاغتراب الدلالي الصريح الذي تشير إليه مفردة اغتراب، لأنه يتضمن أكثر من دلالة وأكثر من رؤية، لكن ثمة علاقة جديدة تتولد بين الشاعر وذاته وخصوصًا حينما ارتدى رداء الصمت وقام يصلي معه في خشوع، جاء عنصرا  الزمان والمكان لتكريس مفهوم الاغتراب في الذات التي تحاول الاندماج بشكل أو بآخر مع البطل لكي يفتح آفاقًا دلالية واسعة تقوي التفاعل الإيقاعي بينهما؛ لأن إدراك دلالات تلك الصورة يحتاج إلى استكشاف الانسجام الحاصل بين الكيانين في زمن قصير وتتحول تلك العلاقة؛ الوجه والوجه الآخر إلى نموذج متفردُ، إذ يعرض أحدهما الولوج إلى الصوفية بوصفها علاجًا للاغتراب، لكن الآخر يعلن أن الصوفية تعتبر تهمة، فيقرر أنه مندمج في صوفية ذاتية حينما يتجلى معها، وهنا تبرز ذروة الاغتراب. نكتشف أيضًا أن هناك علاقات لغوية قائمة على الرمز والتجربة الوجدانية التي يتم تصويرها؛ خصوصًا عندما يقوم المتلقي بتوحيد القوة الإدراكية للنص، من خلال فهمه للصور المتتالية وتوحد أبعادها، فتتجلى للمتلقي رؤية متكاملة حول أبعاده.

ثم لما توضأت بالصمت

قام يصلي معي

في خشوع التبتل

يمثل الجزء الأول لقصيدة “ظلان فوق الرصيف” الجانب الداخلي للاغتراب بوصفه نبتة ذاتية في المقام الأول، فيحشد لها البريكي الرموز المحملة بدلالات تساهم في إضفاء العمق، لكنه في الجزء الثاني وهو الجانب الخارجي للاغتراب، إذ يخرج من مناجاة الذات إلى رحاب أوسع فيناجي الليل الذي كان يتدثر به في الجزء الأول بوصفه الزمن الدال على الاغتراب، ويؤنسنه فيسبغ عليه صفة الجلوس في حضرة الصمت؛ ومن هنا يخرج الثنائي الآخر الذي يمثل الجانب الخارجي للاغتراب والداعمين الرئيسيين للمغتربين، إذ يلجأ إليهما في حالته الحرجة، يلوذ بالصمت لأنه أبلغ من الكلام ولأنه أكثر من يستوعب ما يجيش في صدر المغترب، كما يلوذ بالليل وهو الكيان الحقيقي للاغتراب، فخلاله يتجلى حتى ولو كان مؤقتًا، كما يلوذ به المعذبون نفسيًا. لكن الصمت ليس مروضًا كما يبدو للآخرين، إنه صمت متمرد يتسم بالدينامية التي تضفي على الحالة الشعورية ديمومة من نوع خاص، فيخرج الظلان فوق رصيف الشاعر الشعوري، لمعالجة الدموع المنهمرة فتكون لهما بمثابة المتكأ حينما ينزف وتقف العصافير فوق دمائه.

أيها الليل تجلس

والصمت صاحبك المتمرد

ظلان فوق رصيف شعوري

وتفترشان دموعي

لجأ البريكي إلى بناء درامي شيده بشخصيات تقوم بالفعل تحت مظلة الاغتراب؛ فجاء بالأنا والذات والصمت والليل؛ إنه لجوء اغترابي أراد به تكثيف المشاعر في أعماق الذات الشاعرة، فلم يلجأ إلى التصريح بها مباشرة حتى لا تفقد فورتها الداخلية، فلجأ إلى استحضار العناصر الأربعة التي تمثل رموزًا في حد ذاتها ليعبر من خلالها عن  أحاسيسه المتراكمة في أعماقه الداخلية، وتشكيل بناء درامي وما يملكه من رصيد معرفي لتكثيف الرؤيا الشعرية بالمعنى المبطن خلف السطح اللغوي، عن طريق التجربة الإنسانية التي تحتوي صدق الانفعالات وعمق الرؤى.

 تتميز قصيدة “ظلان على الرصيف” بلغتها المتفردة؛ سواء بألفاظها أو بتراكيبها. تتسم أيضًا ببراعة اختيار المفردات المحملة بالدلالات والرموز الموحية بالاغتراب؛ ظلان، انطفأت، وحشتي، الصمت، تجلِ مع الذات، سياط البرد، رصيف شعوري. إنها تركيبة ذهنية وعاطفية متلاحمة يعلو فيها الخيال لدرجة استدعاء الزمن ومنحه صفة الدينامية في لحظة استثنائية، رغم تحول عنصر المكان إلى مكان افتراضي “فوق رصيف شعوري” لتكريس لحظة إنسانية من خلال صورة شعرية خصبة.   

جاء العنوان “ظلان فوق الرصيف” محملًا بدلالات تحتفظ ببعض أسرارها وتفشي ببعضها، كما ينزع إلى الغموض الموحي الذي يحث المتلقي إلى التأمل؛ لأنه ملتصق بمفهوم الاغتراب لأن النكرة توحي بتوهج الصورة وقدرتها على استدعاء ألفاظ منسجمة. إن البناء الفني للقصيدة كان عبارة عن وعاء شعري تتضح من خلاله معاني الاغتراب. تمثل النكرة تركيبيا “ظلان مبتدأ مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى وفوق الرصيف وشبه الجملة في محل رفع خبر.

إن مسألة الاغتراب عند محمد البريكي تعتمد في الأساس على رموز تفاعلية تتعامل مع الحالة الشعورية بجدية وطرح دلالي وثيق الصلة بالخيال الشعري، كما تعتمد على تطوير التجربة الشعرية من الداخل والخارج معًا؛ فجعلها دينامية ومؤثرة يمكنها تحريك فضاء تجربته؛ بسبب خصوصية الرمز، وقيمته داخل نطاقها؛ إذ لم يلجأ إلى تأكيد اغترابه بتحريك رموزه وتكثيفها بشكل غير مدروس؛ لأنه يقلل من خصوبتها وربما يفقد التجربة نبضها المتدفق، لكنه وضع تجربته في وعاء اغترابي درامي. جاءت دلالة الصبح لتكريس فكرة مرونة الزمن ودراميته، كما جاء لفظ الفانوس ليرفع من قيمة الاغتراب في وجود الليل، بينما جاء لفظا الآمال المنهكة والدموع لاستيفاء المضمون العام القائم على انكسارات وارتباكات داخلية، يمكنها التأكيد على  محاولات حثيثة يقوم بها الشاعر حينما يتحول فمه إلى منسأة يتوكأ عليها للخروج من حالة الاغتراب. 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود