الأكثر مشاهدة

د. محمد حسين السماعنة* تنحاز ميمونة الشيشاني في روايتها “دمعة ذئب” إ …

تجليات التراث الشيشاني في رواية “دمعة ذئب”

منذ أسبوعين

233

0

د. محمد حسين السماعنة*

تنحاز ميمونة الشيشاني في روايتها “دمعة ذئب” إلى الحضور في صراعه مع الغياب. ويشكّل التراث الشيشاني مادة رئيسة نهلت منها كثيرًا من أحداث روايتها الصادرة عن دار أكيول في أنقرة عام 2022، فهو الحاضر الدائم في كل فصل من فصولها الثمانية عشر المبنية على أحداث حقيقية موضوعها هجرة عائلات شيشانية من ديغستا إلى الزرقاء هربا بدينها، وكان فيها الحنين والتراث صنوان لا يفترقان، وشكَّلا معًا النتيجة المرجوة المقصودة للصراع بين ثنائية الحضور والغياب، واللازمة الظاهرة الواضحة أو المختبئة تحت أحداث الرواية، والإطار الواسع الذي يضم الوصف فيها، والتصوير والحوار والأحلام والحكايات والأغنيات والأساطير والألغاز، وهما الغذاء الرئيس لكل ما صهرته الرواية في بوتقتها من لغة شعرية، وتأريخ، ووصف متنوع الأساليب، وأسماء أعلام شيشانية، ومفردات من لغة الشيشان، وأدواتهم، وأثاثهم، ومعاركهم، ورحيلهم وعودتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وتراثهم الديني والاجتماعي، فالكاتبة في روايتها هذه قد حولت التاريخ الشيشاني إلى سردية روائية، افتعلت فيها مناسبات وأحداث وبنت حوارات داخلية وخارجية للحديث عن ديغستا وتاريخ أهلها، وعاداتهم وصفاتهم وتقاليدهم، ولذكر بعض مفردات لغتهم الشيشانية وأسماء أعلامهم وابطالهم، وهو افتعال فني متعمد وظاهرة أسلوبية مقصودة تشير إلى تمكن الحنين الذي لا يمكن إخفاؤه إلى ديغستا من روح المهاجر الشيشاني، وإلى الإصرار الثابت المعلن المقصود لدى المهاجرين على العودة للديار، فتعمل بما تبثه من حياة في الماضي، والحكايات، والأبطال الشيشان، والأساطير الشيشانية، والتراث… على إبقاء فكرة العودة حية، وتأكيد أن الحنين إلى الديار يسكن أرواح شعب له تاريخ لا يمكن تجاهله، وله ثقافة وتراث وحضارة لا يمكن محوها، وأنه شعب حي مصر على البقاء على قيد حلم العودة في دائرة الحضور، وهذا ما لخصه خطاب الراوي لليافاوي الذي فيه أن حلم العودة سيبقى حيًا في دمه، على الرغم من قوة أيدي الغياب وعوامله الشرسة[1]. ومن باب الحنين إلى دغستا ولتؤكد أن للشعب الشيشاني شخصيته الخاصة تكثر الكاتبة من وصف بيوت الشيشان الريفية[2]، ووصف أثاثهم، ولباسهم[3]؛ وتكثر من وصف جمال المرأة الشيشانية، ومن وصف ثيابها “رأيتها تنزل من عربتها باستحياء بيضاء كالجبنة التي تصنعها أمي، عيناها شهد تراقصت فيه أمواج الشمس، أنف أشم دقيق، تتدلى من تحت غطاء رأسها ضفائر ينام فيها ليل طويل، وترتدي ثوبا شيشانيا بلون عشب استحم بقطرات الندى”[4]، وتقول في وصف الزي القومي الشيشاني بصور وعبارات مغمسة بالحنين إلى ذلك الزي التراثي القوقازي: “رداء نيلي يتوقف طوله عند ركبتيه، يشده إلى خصره حزام جلدي معلق عليه غمد شلت خشبي مغطى بجلد طبيعي مزين بالعاج والفضة ومنحوت عليه اسمه بحروف شيشانية”[5]، وتقول في وصف شاب شيشاني[6]: “يرتدي رداءً قوقازيًا أسود اللون، يظهر من خلاله قميص ناصع البياض، ويعتمر قبعة صوفية سوداء متوشحة بخيوط رمادية”. وتقول بنبرات حنين واضحة[7]: “توجه صوبنا رجال يرتدون زيًّا شيشانيًا مزينًا بخناجر (الشلت) معلقة بأحزمته”. وتصف الورت[8]، والخلخوز وهو القبعة الشيشانية[9]، والسماور[10]، وطريقة صنع الإستنج[11]، وتوحي عبارات الوصف الندية التي يصف الراوي صناعة الوشاح وعملية تطريزه[12]، والإبريق الزجاجي المخصص للضيوف[13] واللباس الشيشاني والثياب الشيشانية، بأن الحنين يسيطر عليه كما يسيطر على بقية المهاجرين.

وتتحدث الكاتبة كثيرًا عن الرقص الشيشاني[14]، وعن حفلات اللوزر الذي تنفث فيه الآلات الموسيقية سحرًا، تقول[15]:” هيا لنعزف، فآلاتنا الموسيقية أسلحة نفسية خاف منها جنكيز خان، وأمر بمصادرتها كي يهزمنا، هيا لنرقص فــ(بحارمات) استطاع أن يسرق شعلة النار من (سيلا) بوساطة نايه، هيا لنرقص، لنرقص”؛ ففي الرقص لقاء بين القلوب والعيون، وهو إشارة واضحة إلى مساحة الحرية الواسعة التي كانت تعطى للشاب والفتاة في ديغستا للقاء[16]، وهو وسيلة تعبير عن حبهم للديار، وشوقهم إليها، وعن إصرارهم على العودة. وإيقاع الطبل ونوتات الأوكورديون في حلبة الرقص الشيشاني كفيلان برسم لوحة مشحونة بدفقات من الحنين من تلك التي تحملها هذه الموسيقا، ومن تلك التي توقظها في نفوسهم ذكريات وأخبار من ديغستا[17]. يقول الراوي واصفًا أثر الموسيقى في النفوس: “أخذ مراد الميرز بندر[18]، راح يداعب أوتاره، تحررت ألحان شجية جعلت طيف القرية يمر بالوجدان، ترشقنا مياه الينبوع اللجيني بالشوق، ترمينا أشجارها بأوراقها الخضراء”[19]. وفي اللوزر الشيشاني يرقص الشيب والشبان بشموخ، فتدك أقدامهم الأرض دكًا، وتحسب أنها ستصل إلى قمم جبال قوقاز حين تقفز في الهواء، أما النساء فتحوم في رقصتها بكبرياء موشح بالدلال[20]. ويلجأ الشيشاني إلى الغناء والنشيد ليشد عزمه، ويثبت نفسه، ويخرج نفسه من الواقع المر، أو الواقع الذي لا يريد أن يسمع تفصيلاته، كما فعلوا حين واجههم جنود الأتراك، وحاولوا منعهم من العودة إلى بلادهم[21].

وتسعى الكاتبة لإعادة رسم صور من حياة الشيشان، هي تصف مائدة الإفطار لتشير إلى ما كانوا فيه من نعمة وسلام وخير[22]، وتصف صناعة الخبز الشيشاني[23]، وعن طعام الجلنش وطريقة تناوله[24]، والخدر[25]، والسيسكل[26]، ويشي عيشات، وجيبلجش، وتشين أيق، ولوقمش[27]

ويفرض التراث الشيشاني بما فيه من عادات وتقاليد شيشانية نفسه في الرواية، كبطل له تأثيره الخاص في إثارة عاطفة الحنين إلى الديار خاصة ذلك الوصف المتكرر لعادات الشيشاني في الزواج، فغدت الرواية سجلًا تأريخيًا للشيشان، وتوثيقيًا تعريفيًّا بعاداتهم وتقاليدهم من مثل: عادات الزواج الشيشاني وطقوسه، وعاداتهم عند ولادة طفل[28] أو موت شخص[29]، أو عند حضور ضيف. فتنقل الكاتبة من الشخوص للمتلقي لوحات مشهدية سينمائية عن العرس الشيشاني الذي يستمر فيه الرقص والغناء سبعة أيام، من أول لقاء بينهما وطلب الشاب يد الفتاة للزواج[30] إلى طقوس الزواج، تنقل فيها الكاتبة، وفيض من الحنين إلى ديغستا يملأ عباراتها، ما استطاعت من العادات الشيشانية، فتتحدث عن كيفية الخطبة[31]، وعن وليمة العشاء[32]، وعن عربة العروس، وتوزيع أشبينة العروس للأوشحة، أو توزيع الورد على الحاضرات تعبيرًا عن الفرح، وعادة أن يأخذ أخوة العروس الفدية ليفتحوا الأبواب الموصدة لتضع العروس خطاها على درب جديد[33]، وعادة “فك اللسان” وهو ألا تتحدث العروس إلى أقارب العريس الذكور إلا بعد دفع مبلغ من المال في مراسم إطلاق اللسان، أو فك اللسان، وعادة أن تلصق العروس عجينة على باب الدار[34] لتثبيته، وأن تزيح العروس بيدها مكنسة توضع أمامها على عتبة الدار[35]، ومن عاداتهم التي ذكرت في الرواية ألا يتزوج الشاب من أخت صديقه[36]. وأن يزور العريس أهل زوجته بعد يوم واحد، وأن تزور العروس أهلها بعد أسبوع محملة بالهدايا[37]، وأخذت عادة خطف العروس مساحة من اهتمام الكاتبة فبينت فكرة الخطف وطريقتها لخطف لتزيل عنها ما قد يشوهها من أفكار[38]. وتحدثت الكاتبة عن سنقيرام، وهي عادة من عادات التعارف والتآزر عند الشيشان، فيه رقص وغناء تلتقي فيها فتيات القرية في منزل أحد أبناء العشيرة لإنجاز عمل تعاوني[39].

ومن عادات الشيشان التي ذكرت في الرواية أن ينتهي النزاع والحرب، إذا ألقت امرأة وشاحها على الأرض ما بين المتخاصمين[40]. وعادة أنه إذا أعطت الفتاة الخاتم أو الوشاح لشاب فإن عملها هذا هو وعد بالزواج لا رجوع عنه. ويظهر الصراع واضحًا بين دائرتي الحضور والغياب في عادة عدم ظهور العريس أمام رجال القرية وكبارها لعدة أيام، وفي ضياع ذات القرط والعثور عليها.

ونوعت الكاتبة من تقنياتها السردية في الرواية لتقرب المتلقي من مشاعر الشيشان وتحاول الاقتراب مما في قلوبهم، والاشتباك مع واقعهم اليومي بعيدًا عند ديغستا، فتعدد التقنيات ساعد الكاتبة في الإحاطة بكل ما يجعل الحنين إلى ديغستا هو العلامة الواضحة في حياة الشيشاني؛ فهي أدخلت في سردها أجناسًا أدبية متنوعة منها تلك التي كانت جزءًا من حياتهم اليومية في ديغستا القصة، والقصيدة[41]، والحزيرة، أو الألغاز[42]، والحكاية والأغنية…

وحاولت الكاتبة الاقتراب من التراث الشيشاني ببناء مشاهد سينمائية ساحرة كمشهد موكب (فاردة) العروس الشيشانية بين الماضي والحاضر[43]، ورسمت لوحات وصف سحري في بداية الرواية، وفي وصف القرية، ورسمت للمتلقي بلغة فنية عالية مليئة بعواطف الحب والحنين والزهو صورًا تشكيلية بصرية، وسمعية وشمية عن ديغستا. واستخدمت الحوار المسرحي[44]، والمونولوج الدافئ، والأطياف والأحلام التي دعمت بها رؤيا الشيخ الصوفي توسولت التي حركت قوافل المهاجرين، ونقلت أكثر من حلم على لسان الراوي الشيخ عمر[45]، واستخدمت الحكاية وسيلة لكسر سلم السرد التاريخي أو لتغيير مسار السرد، وإعطاء المتلقي فرصة للاطلاع على صور واضحة حية ناطقة من صور حياة العائلة الشيشانية، وطبيعة الموروث الحكائي الشيشاني، وهو جانب من جوانب حياة الشيشان له أهمية سردية عظيمة  كنقلها حكاية أبو الخير[46] وحديثها عن الحكواتي[47]، ونقلها بعض حكاياته، ونقلها حكاية لمبيرد[48]، وحكاية القروي والأمير الكردي[49]، وحكاية بورز وجبريل[50]. واستخدمت الكاتبة الأساطير الشيشانية وأبطالها، كحديثها الطويل على لسان الراوي عن زيلمخان[51]، وحديثها عن أسطورة نشوء الشمس والقمر[52]، وحديثها عن التنين تيفون. واستخدمت الكاتبة القطع الاسترجاعي بكثرة في الرواية فهو تقنية تسهّل الانتقال بين الماضي والحاضر، وتسهل الموازنات المختلفة بينهما[53].

وحرصت الكاتبة في روايتها على توضيح السبب الديني للهجرة الشيشانية من ديغستا أرضهم التي يحبون، فأظهرت لذلك أثر الدين الإسلامي في حياة الشيشان: في أسمائهم، ومعاملاتهم، وحواراتهم، وخلواتهم، ولغتهم، وهذا يتفق مع السبب الرئيس، وهو الهجرة للنجاة بدينهم، هجرة صافية خالصة لله والرسول، وحرصت على إظهار شخصيات الرواية مثالية متمسكة بتعاليم الإسلام وفروضه وأركانه وسننه، تجعل مرضاة الله غايتها وهدفها، والخوف منه دليلها، وأنها شخصيات مؤمنة تتوجه إلى الله شاكرة حامدة داعية شاكية طالبة بقراءات وعبادات وصلوات وتسبيح وذكر وقرآن، وتتحدث الكاتبة لذلك عن ارتباط الشيشان بالقرآن الكريم واللغة العربية في ديغستا؛ فهم كانوا يتعلمون القرآن الكريم واللغة العربية في مساجد ديغستا[54]، ويتعالجون بالقرآن[55]، ويعقدون حلقات الذكر[56]، وكثيرًا ما تتطوع شخصيات الرواية للحديث عن وضوئها وصلاتها، وحجها، واستغفارها، وحفظها للقرآن.[57]

الخاتمة

   وظفت الكاتبة في رواية “دمعة ذئب” التراث الشيشاني وما فيه من أثر إسلامي، ورحلة الهجرة من ديغستا إلى بلاد الشام، لتأكيد ارتباط الشيشان بديغستا وحنينهم إليها، وإلى أيامهم فيها، وتأكيد أنهم ما زالوا على قيد الوعد بالعودة إليها من خلال الحديث عما جرى لهم ومعهم في رحلتهم الطويلة من بلادهم إلى الزرقاء على لسان راوٍ  كبير في السن عاش الهجرة الطويلة، ورافق عربات أهله وعائلات المهاجرين من ديغستا إلى بلاد الشام، فأعطت الكاتبة بذلك للرواية طابعًا واقعيًّا مع ومضات فنتازية باستخدام تقنيتي الطيف والأحلام، واختارت الكاتبة التراث والعادات والتقاليد كمتكئ روائي تعبر به عن واقع الشيشان الاجتماعي المتكافل المرتبط روحيًا وقلبيًا بديغستا؛ لأن التراث قريب جدا من التاريخ مرتبط به عالق بأخباره، ولأنه يعطي للشعوب خصائصها التي تميزها من غيرها.

*كاتب من الأردن

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود