مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

 د. هاني الغيتاوي * من “ريجيس دوبرية”، الذي آمن بالكلمة، ووجد فيها ا …

فلاسفة وأدباء.. في المنفى ووراء القضبان (5/6)

منذ شهر واحد

38

0

 د. هاني الغيتاوي *

من “ريجيس دوبرية”، الذي آمن بالكلمة، ووجد فيها العزاء لفتح مغاليق القلوب، وتنوير البصائر، إلى كاتب وشاعر وأديب أيرلندي سقط في بئر الرذيلة، فتطهر منها بسحر الكلمة، الكلمة التي كانت عزاءه الوحيد وراء العتمة، في أغوار السجن السحيق حيث القواعد الصارمة والصمت الرهيب الجاثم على روح المكان والزمان، وحيث صممت زنازين السجن لبعث الخوف والرهبة في قلوب المسجونين، فالبشاعة هي المفردة التي أطلقها “أوسكار وايلد” على سجن “ريدينج” في إنجلترا، فالسجن الذي كان يقضي فيه أوسكار وايلد عقوبته لارتكابه جريمة تمس الأخلاق العامة، حيث اتهم بممارسة الرذيلة وإقامة علاقات مثلية، عانى معاناة شديدة داخل السجن، كانت هذه المعاناة هي السبب في اعترافه بذنبه، وتطهره من الجرم الذي اقترفه في حق نفسه، ففي السجن الذي وصفه بالبشاعة والذي حطم نفسيته وترك أثره عليه حتى بعد خروجه منه، لم يجد العزاء داخله إلا في الكلمات.. يقول وايلد “ما الذي يمكنني تذوقه في السجن خلاف الكلمات؟!”. 

إنها تجربة إنسانية عاشها واحد من أهم الكتاب والشعراء البريطانين في القرن التاسع عشر، ففي ظل ثقل الجرم الذي ارتكبه وفي غياهب السجن وبشاعته، عاش وايلد حياة يغلب عليها اليأس والمرارة، وكان عاجزًا في البدء عن التأقلم مع أجواء حياته الجديدة، لثقل جرمه وبشاعة السجن ذي النظام الفيكتوري الرهيب المزروع في خاصرته الصمت ويروى بالدموع والآهات وأنين المسجونين، في ظل هذا المناخ السيء والتربة القاحلة عاش وايلد، ولأن الأمل يخلق من رحم المحن، استلهم وايلد ماضيه، وراح يفتش في ذاكرة الماضي عن عزاء يلتمس فيه الراحة، فكانت الكلمة والقراءة، لقد وجد في القراءة العزاء والسلوى عن ضيق المحبين؛ ذنبه وسجنه، هذا السجن الذي وصفه بالمرحاض “كان صعبًا كوصف المرحاض، يمكن للمرء أن يقول فحسب إنه سليم أو معطوب، نظيف أو العكس! كل شيء شائع جدًا، إلاّ أنه مذل وبشع”. 

لقد حارب وايلد صرامة السجن الفيكتوري بسحر الكلمة، والخيال النقي الخصيب من خلال رحلاته على الورق، يجوب الصفحات التي يستنطق كلماتها ويرتحل معها عبر الزمن، لقد خلق لنفسه زمنًا ومكانًا مغايرين بقوة المخيلة، وحارب المكان الضيق داخل السجن والزمان فيه، واعتبرهما مجرد حواداث يستطيع أن يتغلب عليهما بملكة التخيل “المكان والزمان مجرد حوادث عارضة للفكر يمكن للمخيلة أن تتعالى عليهما وتتحرك نحو مجال حر من الموجودات المثالية”. 

في ظل حياته المفعمة باليأس داخل السجن، وجد وايلد عزاءه في القراءة، فبدأ بقراءة الكتب المتاحة داخل السجن، وكانت مجرد كتب تعليمية ودينية، يستعيرها من مكتبة السجن، ورويدًا رويدًا وبعد عنت ومشقة استطاع أن يقنع إدارة السجن بطلب كتب من خارج السجن، فتمت الاستجابة إلى طلبه مع وجود رقابة على العناوين التي يطلبها، ومع مرور الوقت تم جلب له كثير من الكتب، وأصبحت القراءة هي متنفسه داخل السجن، ولم يعد يشعر بالوحدة مع هذه الكتب، ورغم المناخ غير الملائم للقراءة داخل السجن، لكن وايلد تغلب عليه بإقباله وشغفه عليها، فكان يقرأ في الضوء الخافت وكان بالكاد يقرأ الكلمات، لكن عزمه لم يلن أبدًا في مواصلة القراءة، فقرأ الكثير من الكتب، وتأثر بها.. لكن الكتاب الذي كان له أبلغ التأثير عليه كان “الكوميديا الإلهية” لدانتي، وكان يرى في قراءته أنه أعظم عزاء تلقاه. 

يقول وايلد:

“لقد قرأت دانتي بالإيطالية كل صفحة فيه، لا المطهر، ولا الفردوس، كان يعنياني.. لكن الجحيم، ما الذي يمكنني فعله سوى أن أعجب به، الجحيم، ألم نكن ساكنين فيه؟ الجحيم هو السجن”. 

كانت القراءة هي الباعث الروحي والنفسي لوايلد، ومن تمام حرصه عليها، راح يعمم تجربته على المسجونين معه، فحثهم على القراءة، ودلهم على برد الحياة والعزاء الذي وجده فيها، فكان يتناقش معهم حولها ، ويدلهم على عناوين الكتب المفيدة، ويدون ملاحظاته حول هذه الكتب، كذلك لم يكتف وايلد بالقراءة، فمارس هوايته كشاعر وأديب، فخط الكلمات على الورق، وأنتجت قريحته في السجن اثنين من أهم أعماله “من الأعماق”، “أنشودة سجن ويدينغ”. 

لقد حاول وايلد الخلاص من ثقل ذنبه، ومن ثقل الظلام الجاثم على روحه، فتوجه شطر الذكريات يستلهم منها التطهر والعزاء، فكانت القراءة التي ارتقت به ربى النقاء الإنساني، كالصباحات المشرقة الندية، وأماسي المساء العليلة، وموسيقى الروح التي تعزف على أوتار الوجود لحن الخلود، فالكتب كانت هي العزاء لوايلد وهي المسكنة لآلامه، كانت له كما كانت “لفرانز كافكا”، بمثابة الفأس الذي كسرت البحر المتجمد بداخله، لقد فتحت الكتب آفاقًا رحبة وعوالم جديدة لدى وايلد ، وكما يقول الشاعر الفرنسي “بول فاليري”: “إن مجرد فتحنا لصفحات كتاب يمكنه أن يمنح أفعالنا رؤية جديدة”. 

لقد فتحت الكتب وحب القراءة آفاقًا جديدة لأوسكار وايلد، وكانت عزاء ومطهرًا له.. يقول وايلد “هذه الكتب يمكنها أن تخفف وتعالج عقول مضطربة وقلوب مكسورة أخرى”. 

ويقول أيضًا: “فيما كنت أحب الأدب منذ صباي، لم تكن لدي فكرة أن هذا الفن الراقي سينقذ حياتي العقلية والجسدية في أحد الأيام”. 

*كاتب مصري. 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود