الأكثر مشاهدة

 بقلم: د. سهام  السامرائي* تعد الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تمردًا على القوال …

السرد.. إمبراطورية التجريب وفدرالية الأجناس

منذ 11 ساعة

8

0

 بقلم: د. سهام  السامرائي*

تعد الرواية من أكثر الأجناس الأدبية تمردًا على القوالب الجاهزة،  فهي الفن الأدبي الذي لا يستقر على شيء ثابت ولا يقرُّ بمنطق الاكتمال، فهي في صيرورة وفي انبعاث مستمر.. إذ تسعى إلى تدمير سلطة السائد والمألوف الفني ثقافيًا واجتماعيًا بالبحث عن الجديد. وأصبح المتلقي اليوم – في مواجهة خطاب روائي مخالف في بنائه وشكله، خطاب يسعى فيه الكاتب إلى تجريب جملة من الأفكار، والتقنيات الفنية والجمالية التي يعكس من خلالها براعته ومهارته على ممارسة فن القول الأدبي، والإفراط في ممارسه هذا الجديد، والغريب هو ما يُطلق عليه بالتجريب. فالتجريب رؤية فنية تحيل على المغامرة، وتحث على رفض المسلَّمات وتجاوز الأنموذج، وتمييع الحدود الأجناسية بين الرواية والأجناس الأدبية الأخرى، وهي تجاوز للتقليد وتقويض للأشكال القديمة وهدم للثوابت وتكريس لحرية المبدع لبناء أشكال أخرى جديدة  لم يتم حفرها من قبل، الروائي رؤية إبداعية وثورة على الرواية التقليدية بكل مكوناتها، من المعروف أن التجريب لا يخالف التأصيل بل يتمِّمه، فالتجريب خرق للسائد، وانحراف عن المألوف، وتجدد وتفرد  وخلخلة للنسقية التقليدية الجاهزة،  إنه محاولة للإبداع والابتكار والبحث المستمر عن الجديد  في الشكل والمضمون معًا.. والتماشي مع موجة ما بعد الحداثة.

فالرواية جنس يقبل التجديد أكثر من بقية الأجناس الأخرى، هذا الأمر حفزَ كتَّابَ الرواية على ابتكار وابتداع أشكالٍ جديدة للتعبير تخطت الإطار التقليدي المتعارف عليه للحبكة وخطية السرد، مدعمة بتطورات تقنية جادة. 

ولم يكتف الروائيون المجددون بالمساس بشكل الرواية فقط؛ بل  تعدى ذلك إلى مضمونها، إذ طرق الروائيون المجددون موضوعات كانت محرمة ومبعدة ومقصية عن المتناول، مثل: الجنس والدين والسياسة وغيرها من الموضوعات التي كانت محظورة من قبل الروائيين المحافظين.

أما من حيث الشكل.. فقد سعى الروائيون إلى تجاوز الأشكال التقليدية المتعارف عليها، والاستفادة من التقنيات الحديثة في الفنون التشكيلية والسينما وتوظيف الوثائق والرسائل والمذكرات، ومن أول تلك المظاهر التجديدية هي: تكسير خطية السرد، وتحطيم استقامة الزمن الروائي، إذ لم يعد الروائي ملزمًا بسرد الأحداث من بداية الرواية إلى خاتمتها متتبعًا التسلسل الزمني للأحداث، (بداية وعقدة وصراع وحل ونهاية) بل صار بالإمكان أن يمزج الأحداث من دون مراعاة استقامة زمنها التاريخي/ الواقعي.. تاركًا للمتلقي حرية ربط الأحداث وفق قراءته،  ورؤيته، وفهمه.

فالرواية تمتاز بالمرونة والقدرة على احتواء أنواع عدة من الفنون الأدبية ومن التقانات، دون أن تفقد قالبها الفني المتعارف عليه  المتسع والعابر للأجناس.

وهذا ما يقودنا إلى ثنائية (الروائي/ الراوي)، فالأول الذي يؤسس للفعل الروائي، أمّا الثاني فهو  يؤسس لفعل الحكي داخل الرواية.. وقد أبرز الناقد محمود الضبع في كتابه (الرواية العربية الجديدة) أهم ثلاثة تصنيفات للراوي:

الراوي العالم بكل شيء: يستعمل الحكي الكلاسيكي الذي يطغى  عليه ضمير الغائب، ويكون ملمًّا بكل الزوايا الحوارية والمورفولوجية والمبنية للشخصية وله السلطة عليها.

أمّا النوع الثاني فهو الراوي المحايد: لا يتجاوز حضور الشخصية ويكون محاذيًا  لها في كشف الأحداث.

أمّا النوع الثالث فهو الراوي الخارجي: الذي لا يكون عالمًا إلا بما توصل إليه بحواسه ويولي سلطة كشف الأحداث للشخصية والحوارات داخل النّص، والقارئ مثل هذه الروايات يجد نفسه دائمًا أمام كثير من المبهمات وعليه أن يجتهد بنفسه لإكسابها دلالة معينة [i]. بناءً على ذلك نلمس تراجع ترهين السارد الأول عن مواقفه الرؤيوية التقليدية، لم يعد ساردًا عليمًا بكل شيء بل تشترك معه أصوات عدة في بلورة عملية السّرد، ويكشف أحيانًا للمتلقي الخارجي عن أسرار لعبته وقد يعلن عن محدودية (…) درايته بخبايا القصة ذاتها [ii].

 تأسيسًا على ما تقدم تمكنت الرواية الحديثة من أن تضيف سمة أخرى من سمات التجديد؛ ألا وهي تعددية الأصوات التي تتم من خلال تعدد الرواة في عملية السّرد.. بالتالي تعدد الرؤى وزوايا النظر للأحداث.

أما ثاني مظهر من مظاهر التجديد في الشكل فهو: إزالة الحدود الفاصلة بين الرواية وبقية الأجناس الأدبية؛ كالشعر والمقامة والأسطورة والسيرة وأدب الرحلات والمسرح والقصة القصيرة وغيرها من الفنون الأدبية الأخرى.. فلا وجود لحواجز تمنع من تداخل هذه الأشكال التعبيرية وتلاحمها وتمازجها مع بعضها البعض.. هذا إلى جانب أدوات فنية_ شكلية  أخرى وظفها الروائي مثل الاسترجاع وتيار الوعي والحوار الداخلي وتعدد الرواة والضمائر المخاطبة… إلخ.. ولا يلغي التجريب أصالة الرواية بل يؤكدها ويدعمها.

ولم يستقر التجريب على مفهوم واحد، فمنهم من يعرفه بأنه: الخروج على النموذج الثابت وتجاوز الأشكال التقليدية، فهو: (نقض المسلَّمات الجامدة والتقاليد الثابتة والأعراف الخانقة  وصياغة السؤال  وممارسة حرية الإبداع في أضحى حالاتها)[iii].

فالتجريب فرصة لإظهار القدرات التعبيرية الكامنة في الكاتب؛ ما يجعل الرواية أكثر مطاطية وقدرة على الاستجابة لتطورات الحاضر، ويظهر ذلك في التمرد والقفز على الأساليب الكلاسيكية  الثابتة ورفض الأشكال السائدة، ونبذ القواعد والسنن المتحكمة، والبحث عن أساليب غير مألوفة قادرة على احتواء رؤية  المبدع المعاصر واختراق كل ما هو سائد ومجمد، وفي مقال للطاهر رواينيه.. كتب قائلًا: (أصبحت الرواية الحديثة بفعل رغبتها التجريبية، وحدة بنيوية  ممزقة ومفككة، يمتلكها تناقض رائع.. وقد أسهم تصدع البنية  السردية في الرواية، إضفاء طابع التعددية الموضوعاتية والشكلية والإيهام  بشمولية الرواية، وأدى بالتالي إلى تبعثر الرؤية الأحادية المبهمة وتشتيتها عبر مختلف التسريدات التي تؤلف النص)[iv]. ما ذكره الكاتب كله أو بعضه  يعد شرطًا من شروط التجريب في الرواية الحديثة.

أما الكاتب محمد عز الدين التاجي، فقد رأى أنَّ: (عالمَ الرواية كما يريد له الكاتب الحداثي لا يولد جاهزًا، إنَّما يتخلق عن طريق الصنعة الروائية التي هي صنعة تكتسب بالخبرة والمراس والصبر ومحو المكتوب لتحل محل المحو كتابة أخرى تبدو قابلة للمحو، بهدف خلق الانسجام بين المكونات النصية على تعدد أنواعها)[v].

أما سعيد يقطين فإنه ينظر إلى التجريب بعدِّه عملًا فنيًّا يحفر مجرى مخالفًا  في  محيط الكتابة الروائية العالمية و(أهم ما يميز هذا المجرى الجديد يكمن في كونه يرمي إلى التخلص من إسار المسبق والجاهز، بما يحملان من دلالات على مستوى الرؤية والوعي والممارسة، وعلى كافة الأصعدة)[vi]. إلا أنَّ سعيد يقطين لا يكتفي بالتجاوز، بل يدعو إلى الإفراط والإيغال في (ممارسة التجاوز، هو ما تتم تسميته عادة بـ(التجريب) وهي التسمية التي تكرر الحديث عنها في أواسط السبعينات في مناقشات قصص التازي والمديني وفي الندوات التي كانت تقام على هامش بعض المعارض التشكيلية؛ أو بعض العروض المسرحية)[vii].

والتجريب وفق رؤية سعيد يقطين، لا ينحصر في الكتابة الروائية فقط؛ إنّما يتسع ليشمل الفنون التشكيلية والفن المسرحي، والعامل المشترك بين هذه الفنون هو عدم التقييد بمجرد التجاوز، بل يمتد ليشمل  التغيير الكلي لمضمون وشكل الرواية من حيث الرؤية والقالب الفني.

ومن خصائص التجريب الروائي، وفق رؤية سعيد يقطين، أنه ينفتح على بنيات خطابية متنوعة؛ المسرحي – الشعري – الديني – الحكائي – الشفوي – الصحافي – السياسي – التاريخي، ما يجعل هذه البنيات الخطابية تنخرط جميعًا في إثراء عالم الرواية وتخليق مكوناتها.. إلى جانب ذلك البعد العجائبي  الذي يسهم في تكوين إحدى خصوصيات التجريب الروائي، لا من خلال كثافة التوظيف، بل من خلال شكل هذا التوظيف بكيفية تجعله أساسًا من أساسيات الحدث الروائي كتهويل الواقع، وإبراز الحلم المستحيل، والسخرية المرة[viii].

ويفتقد مفهومُ التجريب تعريفًا محددًّا، إذ لا يستند إلى قاعدة خاصة أو قانون معين يحكم ويضبط شروطه؛ ما يجعله زئبقيًا وهلاميًا منفلتًا يصعب  الإمساك به والسيطرة  عليه بسبب انفلاته الدائم من المعيارية والثبات؛ وإن لكل روائي قواعد خاصة به تحكمه؛ لأن التجريب متعدد التمظهرات فهو يشتغل على الهدم والبناء.. ولا يتقيد بجيل، إنما بالمرحلة ووعيها، وأشكال عيشها في التجمعات والمشتركات الإنسانية.. فهو وعي فكري جمالي ارتبط بتقنيات سرد الحداثة وما بعدها، وتمرد على الجاهز من الرؤى والأشكال وطرائق التعبير مبنيًّا على الخلخة والانزياح الدائمين.

ختامًا نذكر مقولة معروفة  للكاتب ميخائيل باختين: (جوهر كل جنس أدبي لا يتحقق ولا يتجلى بعمق إلا في تنوع متغيراته التي يبدعها في  الجنس، موضوع الاشتغال في أثناء تطوره التاريخي، وكلما توصل الكاتب إلى هذا التنوع يكون عمله أكثر غنى وأكثر توغلًا إلى لغة الجنس، لأن لغة الجنس محددة وتاريخية).

 إذاً؛ السرد نص ديمقراطي يؤمن بحقوق الأجناس الأدبية، حتى إنه الجنس الوحيد الذي أعطى شرعية لتتنازع السلطة في متنه، مما قدم أنموذجًا فدراليًا للنص، له شرعية في أن تكون هناك حدود لكل الأجناس في النص الواحد، تلتقي به كل النصوص، هو نظام فدرالي للغة والسياق، يقبل تعدد الأصوات والتهجين، النظام السردي يختلف عن كل النصوص في شرعيته، في تعدديته لا يقبل المسار الواحد ولا يقبل التحديد؛ لأنه ابن بيئته وتؤثر عليه بشكل مباشر، لغته ثنائية وزمانية ومكانية أو حسب تقسيم (دي سوسير) تاريخية وزمانية آنية، تؤمن بالتغيرات والأحداث، وفي الوقت ذاته لها نظام آني وهذه ميزتها.. هي لغة حية لا تحتوي على ميتافيزيقية ولا حكمة مثل الشعر، فلسفتها في كونها تعكس الحياة الواقعية بكل تصوراتها، وكلما كانت واقعية اخترقت حاجز الصوت للإنسان المعاصر ومشاكله.

[i] الرواية الجديدة قراءة في المشهد الأدبي المعاصر ، محمود الضبع، 90- 91.

[ii] التجريب في الرواية العربية المعاصرة، بد العزيز ضوير، 279.

[iii] التجريب وارتحالات السرد الروائي، بوشوشة بن جمعة ،31.

[iv] مقال: ( الكتابة: إشكال المعنى) – مجلة (التبيبن)- الجزائر، ع 5/6/ 1993. ص5.

[v] محمد عزالدين التازي، كتاب عمان – حوارات- دار/ ص 185.

[vi] القراءة والتجربة (حول التجريب في الخطاب الروائي) سعيد يقطين، ص285.

[vii] المصدر نفسه، 287-  288.

[viii] القراءة والتجربة، سعيد يقطين، 287- 288.

*كاتبة وناقدة أكاديمية عراقية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود