27
034
065
073
055
050
0الخير والشرُّ طريقان يبرزان أمام الإنسان في مسيرة حياته التي يوجد بها كثير من الصراعات والاضطرابات والظروف والسلوكات التي تسحب الفرد باتجاه طريق خاطئ.وأمر الخير ل …
611
0392
0276
8252
1217
0خامسة سالم اّل فرحان*
(المسرح مظلم تماما)
لن أبقى في هذا البيت أبدا، لا يمكنني العيش هنا…
(ووسط المسرح تظهر بقعة ضوء يقف فيها شاب في الثامنة عشر من عمره تقريبا)
الشاب: هذا البيت يقيد طموحي ويثبط عزيمتي ويمنعني من تحقيق ذاتي ..
(تظهر بقعة ضوء أخرى أكبر على يمين الشاب ويقف فيها رجل وامرأة ناضجين وتبدو عليهما الثقة والثقافة هما والد ووالدة الشاب اللذان يتحدثان إليه دون أن يلتفت إليهما أثناء حديثه)
الأب: أي حلم يردعك البيت من تحقيقه؟ وكيف عساه يقوم بذلك؟ وهل للبيت يدين كي يقيدك أم ماذا؟
الأم: إنه يقصدنا نحن يا عزيزي، فلا يوجد في البيت عداه سوانا.
الأب (ناظرا إليها): وهل تحسبينني لا أعرف قصده؟ أعرف أنه يقصدنا بكلامه وأعرف بأننا نحن البيت في نظره الذي لا يرتد إلينا وهو يحدثنا؟
الشاب: أنا لا أقصدكما أنتما فقط، أقصد هذا البيت والمحيط والبيئة والمجتمع الذي جبلت فيه، إنه خانق ولا أستطيع العيش فيه، إنه يمنعني من التنفس، هذه الظروف التي تحيط بنا .. قلة المال، وانعدام الوظائف، ورجعية المجتمع .. كلها خانقة.
الأم: وهل تنوي مغادرة البيت أم مغادرة الدنيا، فحسب علمي .. جميع المجتمعات الإنسانية تحمل نفس الطابع تقريبا .. إلا تلك التي تتسم بالانحلال ولا أعتقدك راغبا بها..
الشاب: هذا يعتمد على تعريفكم للانحلال.
الأب: بل يعتمد على تعريفك أنت له.
الشاب: أنا لا أرى في الحرية انحلالا .. الحرية هي حق كل إنسان.
الأم: لكن الحرية والانحلال ليستا مفردتين متناقضتين يا بني فلا تضعهما ضد بعضهما البعض، الحر…
(يقاطعها الأب) : انتظري يا عزيزتي.. دعيه يكمل .. أكمل يا فاضل.
فاضل: أكمل ماذا؟
الأب: أكمل تعريفك للانحلال.
فاضل: لا أريد أن أكمل فأنا أرى بأنكم قد عرفتموه سابقا وجزمتم بأنه أساس الفساد ..
الأب: إذا تريد أن تحصل على الحرية المطلقة اللامسؤولة
فاضل: أرجوك يا أبي .. توقف عن إلقاء المحاضرات فأنا لست أحد طلابك في الجامعة، أنا فقط أريد أن أخلق مستقبلا يناسبني .. أريد عملا يناسب طموحاتي.
الأم: انتبه لطريقة كلامك يا فاضل، لا تنسى بأنك تتحدث إلى والدك.
فاضل: أعتذر.
الأب: ألا يمكنك أن تنظر إلينا وأنت تحدثنا ..
الشاب: لا داعي لذلك .. أنا اتخذت قراري، ولا أريد أن أنظر إليكما فتضعف عزيمتي، وخصوصا أنت يا أمي.. أعرف خشيتك علي.
الأم: إذا كنت تعرف ابق بيننا إذا.
فاضل: أمي أرجوك .. دعيني أحاول بناء نفسي، لقد طلبت منكما إرسالي إلى الخارج كي أدرس منذ البداية لكنكما رفضتما، ومع أنكما مثقفان ومتعلمان وأستاذي جامعة عجزتما عن فهمي، فالمال لا يعوزكما وإن كان الأمر كذلك كان باستطاعتكما الاستدانة أو الاقتراض لبناء مستقبل ولدكما الوحيد، الآن وجدت طريقة مثلى للذهاب ولن أنتظر. وجمعت المال الكافي مما بعته من أغراضي الشخصية .. وسأذهب إلى بلاد الغرب لأكون مستقبلي.
الأب: أنا لا أفهم أي نوع من المستقبل تريد أن تكونه في الخارج ولا تستطيع ذلك هنا..
فاضل: أبي .. أنت معزول عن العالم الحقيقي، العالم الحقيقي يختلف عن عالم الكتب الذي تقرؤها .. نحن في عصر مواقع التواصل والشهرة السريعة والغنى السريع..
الأب: إذا بإمكانك الوصول إلى مبتغاك ها هنا..
فاضل: أبي .. أنا لا أمتلك الوسامة التي تؤهلني لبلوغ الثراء والشهرة عبر مواقع التواصل بسرعة، والفضل يعود لكما في ذلك، فكلاكما يعوزه الجمال والوسامة وأنجبتماني بكل ما لديكما من عيوب، الحمد لله أن لا أخت لي وإلا لكانت ستبدو شديدة القبح، ومع ذلك فقد حاولت أن أصل إلى الشهرة بقبحي لكن تنقصني خفة الظل ..
الأم: هل تعرف ما الذي ينقصك فعلا؟
الشاب :ماذا؟
الأم: ينقصك الأدب.
الأب: لا بل ينقصه العقل .. أنظر إلي يا فاضل (ينظر فاضل إلى والديه ويضيء المسرح من ثم يقتربان منه، المسرح بعد الإضاءة يوجد به صالة جلوس بباب يمثل المخرج من البيت وباب اّخر يؤدي إلى أحد الغرف بالمنزل والبابان يقابلان بعضهما البعض) نحن لم نمنعك من تحقيق ذاتك أبدا، مع أنني شخصيا لا أعرف خطتك وهدفك من السفر، فإن كنت قبيحا هنا كما تدعي، صدقني ستكون أكثر قبحا بالنسبة للأجانب، وظروفك التي تتحدث عنها وتعزو إليها قلة حظك إنما هي من صنع ذاتك التي تنشد الوصول إلى هدف دون وضع خطه له ودون عمل جاد كذلك، ذهابك في هذه السفينة التي ستقلك إلى أرض الأحلام خطر جدا فكما يبدو ستغادر عبر التهريب والتزوير، أنت لست بحاجة لذلك لكن يبدو بأنك قد اتخذت قرارك .. اذهب وابحث عن ذاتك لأنك لم تجدها حتى تحققها.. أنا لن أمنعك ولن أقف في وجهك الذي تشيح به عن وجهي … وأمك هاهنا… لها أن تحاول منعك إن أرادت… أنا أتمنى أن تجد ذاتك سريعا وأن لا تعاني كثيرا… سأذهب إلى غرفتي كي أستريح من عناء العمل..
(يتجه إلى خارج المسرح من الجهة المقابلة لجهة باب الخروج).
(ينظر فاضل إلى أمه بشيء من الخجل)
الأم: بني .. إن كنت خجلا مم فعلت فاعلم أنه خطأ لكن لا تغادر وهذا الخجل على وجهك .. ارفع رأسك وأنظر أمامك وإن خجلت من شيء فحاول أن لا تظهر ذلك لغريب، وأعلم بأنك مهما قابلت ومهما عرفت وحيثما ذهبت فإنك لن تجد مثل هذا البيت الخانق كما اسميته .. إن جنباته تضمك حبا لكنك فسرت هذا الحب على أنه خنق لك … اذهب يا ولدي وعسى أن تجد بغيتك لكن تذكر بأن هذا القلب مرتبط بك فلا تنسى أن تطمئنه ولو بكلمة عنك لأنك إن غبت ورحلت صار خواءً … (تبكي)
فاضل: سأفعل … سوف أتصل بك دائما… أعدك .. سأجعلك فخورة بي.
الأم: وهل قلت لك بأني لست كذلك .. اذهب حماك الله ورعاك وردك إلي سالما ..
(تعانقه بحرارة وتتابعه بنظرها بينما يغادر من الباب المقابل للباب الذي خرج منه والده) وتقول: نحملهم وهنا على وهن ونضعهم وهنا على وهن ويأخذون من أعمارنا وأروحنا بإرادتنا وعندما يشتد عودهم يكسرون عودنا… يا رب لا تكسر له عوداً …
يظلم المسرح مجددا
المشهد الثاني
(المسرح مظلم … عاصفة شديدة .. صوت رعد مدوي .. برق يظهر وميضه على المسرح … تلاطم أمواج .. صراخ … استنجاد … ومن ثم يخيم الهدوء على المسرح ويضاء بشكل تدريجي كبزوغ الشمس في الصباح وانقشاع ظلمة الليل.. في خلفية المسرح غابة استوائية … صوت طيور النورس.. فاضل مستلق على خشبة المسرح على بطنه بعد أن قذفته أمواج البحر على جزيرة نائية .. يستفيق تدريجيا ويتفقد نفسه ليرى إن كان حيا أم ميتا … مصابا أم سليما .. يقف على قدميه وينظر حوله ويقول:)
أين أنا.. هل أنا حي أم ميت.. إن كنت حيا فأين أنا.. وإن كنت ميتا فلا بد وأن هذه هي الجنة .. لكن أين أنا من الجنة.. أنا لم أكن أصلي وصيامي كان أغلبه كذبا … ينظر خلفه ليجد خشبة تعلق عليها وكانت سبب نجاته .. صحيح.. هذا طوق نجاتي … أنا لست ميتا إذا .. أين بقية أفراد السفينة؟ … هل ماتوا؟ … أين أنا؟ (يصرخ) هييه .. هل من أحد هناك؟ هل من أحد؟ أيسمعني أحد؟ (لا إجابة)، يبدو أنني وحدي هنا.. لن أتحرك من مكاني هذا أبدا… سأبقى هنا حتى يأتي أحد لنجدتي .. لكني جائع وعطشان؟ وإذا بقيت هنا فأنا ميت لا محالة … من الأفضل أن أبحث عن سكان هذا المكان .. قد أجد من يطعمنى أو يسقيني .. لكن أخشى أن أدخل إلى الغابة فتلتهمني الحيوانات المفترسة… لم لا أنادي بصوت مرتفع .. قد يسمعني أحد فياتي لنجدتي .. هيييه … هل من أحد هناك؟ هل يسمعني أحد .. يا ناس … يا بشر… هل يوجد أحد على هذه الجزيرة؟ يبدو أنها مهجورة .. يا سكان الجزيرة، وفجأة يسمع صوتا يقول (هل من أحد هناك؟) يتوقف ليستمع .. هل أسمع صوتا؟ .. من هناك؟ يرد الصوت (من هناك؟) يتساءل .. هل هذا صدى صوتي أم أنني بدأت أهذي؟.. يرجع الصوت مجددا… (هل من أحد هناك؟) .. لكني لم أتكلم .. إذا لابد من وجود شخص ما على الجزيرة … يصرخ عاليا … أنا هنا .. ساعدوني … النجدة … أنا هنا .. ثم يظهر شاب من جهة المسرح اليمنى وعندها يتوقف فاضل عن الحركة والكلام ويسمر نظره ناحية صاحب الصوت الذي ظهر أمامه ويقول مرحبا… يرد صاحب الصوت (مرحبا).
فاضل: هل أنت من سكان الجزيرة؟
صاحب الصوت: لا لقد وصلت إلى هنا بعد أن تحطمت السفينة التي كنت أستقلها بالأمس .. وقد ألقت بي الأمواج هنا.
(يقترب الاثنان من بعضهما ويتصافحان)
فاضل: أنا أدعى فاضل، وقد تحطمت السفينة التي كنت أسافر على متنها بالأمس كذلك وألقت بي الأمواج هنا. ما اسمك؟
صاحب الصوت: اسمي هو فضل.
فاضل: يا للعجب؟ يا للصدفة.
فضل: إني أتضور جوعا وأكاد أموت عطشا.. هل لديك شيء يؤكل؟
فاضل: أنا أشاطرك الشعور والعجز كذلك.
فضل: هل لديك فكره عما نستطيع فعله لنحصل على ما نأكله.
فاضل: للأسف لا.. ألم تر أي شيء يؤكل وأنت في الغابة؟
فضل: أنا لم أدخل إلى داخل الغابة .. لقد التففت حولها .. لازمت الشاطئ حتى وصلت إلى هنا.
فاضل: علينا أن ندخل سويا ونبحث عما نأكله أو نشربه..
فضل: لا جرأة لدي على دخول الغابة.. إني أخشى الحيوانات المفترسة.
(فاضل ينظر اليه باستغراب وكأنما ينظر إلى نفسه)
فاضل: ماذا تقترح إذا؟
فضل: لم لا تدخل أنت وتحاول إيجاد طعام لنا وأنا سأنتظرك هاهنا والمرة القادمة أنا سأدخل؟
فاضل: لم لا يحدث العكس؟
فضل: قد أخبرتك بأني أخشى الحيوانات المفترسة وأنت تبدو هماما..
فاضل: أنا لست كذلك بل أخشاها أكثر منك..
فضل: حسنا… فلندخل سويا إذا …
فاضل: هذا ما اقترحته من البداية..
يقفان ساكنين ومتقابلين ..
فضل: أدخل أنت أولا، لا تخف سأكون خلفك مباشرة..
فاضل: وهل تخالني مجنونا؟ لقد تركت أهلي.. ودراستي.. وركبت سفينة بطريقة غير شرعية ونجوت من الموت بأعجوبة وتطلب مني الآن أن أدخل إلى الغابة هكذا لتفترسني السباع؟ إما أن ندخل سويا.. قدما بقدم .. أو نبقى ها هنا سويا.
فضل: أن تفترسك السباع بسرعة خير من أن يفترسك الجوع ببطء.
فاضل: حسنا.. أدخل كي تفترس أنت أولا ومن ثم سأدخل أنا..
فضل: يوهووووو… لا أدري لم سررت بسماع صوتك من بعيد، ليتني لم اّت إليك .. أنت عديم الفائدة..
فاضل: ماذا عنك … مفيد جدا… أليس كذلك؟
فضل: دعنا لا نتشاجر.. اجلس ودعنا نتحدث قليلا.. أخبرني عن نفسك.. لم وكيف انتهى بك المطاف هنا؟ فاضل: (يجلس إلى جانب فضل) لقد رحلت من بلدي لأثبت نفسي وأحقق ذاتي، أنا لم أجد من يفهمني في بلدي .. (يقف ويمشي وهو يتحدث عن نفسه وترافقه موسيقى مؤثرة) أنا شخص ذكي ولدي مؤهلات عدة والجهل في بلدي جعل اكتشافها مستحيلا .. لذلك قررت الرحيل إلى الخارج حيث الفرص والتقدير والتفهم ..
فضل (يقاطع حديثه): وما هي مؤهلاتك؟ فيم تبرع؟
فاضل: أنا ذكي..
فضل: لم أعترض على ذلك.. لكن فيم تبرع؟
فاضل: في وسائل التواصل.. أنا أستطيع أن أكون نجما على سناب شات .. أنا ذكي..
الصوت: هل حاولت أن تكون نجما..
فاضل: نعم.. لكن لم أحصل على الدعم الكافي.. ووالدي لم يشجعاني مع أنهما أستاذي جامعة ومثقفان.. على العكس، استمرا في تثبيط عزيمتي .. قالا لي بأني لست مرحا وبأني أفتقر إلى حس الدعابة..
فضل: يبدو كلامهم صحيحا..
فاضل: لا وما أدراك أنت؟ أنت تعرفني منذ خمس دقائق فقط..
فضل: لا تغضب.. أنا أعبر عن رأيي فحسب..
فاضل: حسنا.. أخبرني عن نفسك .. من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
فضل: أنا خرجت من بيتي لأبحث عن فرصة لأثبت نفسي كذلك .. أنا من عائلة فقيرة، ولم أتمكن من إتمام تعليمي بسبب والدي، لم يتمكنا من إدخالي إلى مدرسة خاصة فأنا لم أرد أن أكمل دراستي في مدرسة حكومية .. أنا مختلف والمدارس الحكومية لا تخدم المختلفين.
فاضل: فيم اختلافك؟
فضل: في الواقع ..أنا لا أحب المناهج الحكومية، أحب أن أدرس مناهج خاصة تناسب تفكيري وقدراتي.
فاضل: هل تشكو من تخلف عقلي أم ماذا؟
فضل: أقول لك أنا مختلف لم أقل متخلف، أنا فقط أحتاج إلى مدارس تقدر اختلافي وتعاملني بشكل فردي لأن لكل شخص قدراته وتفرده … المهم المهم .. لم يتمكن أهلي من إدخالي إلى مدرسة خاصة مما دعاني إلى ترك الدراسة ومحاولة تنمية قدراتي بالشكل الذي يناسبني..
فاضل: ماذا فعلت؟
افضل: تركت الدراسة وتعرفت على مجموعة من الشباب العصاميين والأذكياء أمثالي وأمثالك والذين يتاجرون بكل شيء لكن للأسف أمسكت الشرطة بأربعة منهم أثناء العمل بحجة أن ما يقومون به مخالف للقانون وتم إيداعهم السجن وأنا فررت بأفكاري وتطلعاتي إلى بيئة أفضل.
فاضل: أها… فهمت .. لكن أرجو منك أن لا تشملني بنعتك للذكاء هذا.. أنا لم ولا ولن أخالف القانون ما حييت .. الذكاء ليس في مخالفة القانون بل في الاستفادة منه للكسب .. وهذا ما أنوي فعله.
فضل: وكيف ذلك؟
فاضل: سأطلب اللجوء السياسي بحجة الاضطهاد .. لقد شاهدت الكثيرين ممن طلبوا اللجوء وقبلوا ثم سأظهر في وسائل الإعلام المختلفة وأشتهر ثم أشق طريقي من هناك.
فضل: فكرة ساذجة؟
فاضل: (بغضب) ماذا؟ .. ماذا قلت للتو؟
فضل: فكرتك ساذجة وغير مفيدة ولن تحصل منها سوى على كراهية أهل بلدك لك .. ثم إنك سوف تشتهر لبضعة أشهر ثم تنسى فأنت لا تحمل مقومات الشهرة على محياك؟
فاضل: وهل تعتقد بأنك أفضل حالا؟
فضل: لا لكني لا أكذب على نفسي مثلك؟
فاضل: صحيح.. أنت صادق جدا مع نفسك..!! أنت فاشل في الدراسة ومطلوب للشرطة وهارب وتعتقد بأنك غير مقدر ولم يفهمك أحد، بل إنك تلقي اللوم على والديك في ما حل بك.
فضل: وهل أنت أفضل حالا.. أنت كذلك فاشل وسخيف وتلقي اللوم على الجميع عدا نفسك. ما لم تستطع تحقيقه في بلدك لن تتمكن من تحقيقه في الخارج أبدا، أنت لديك والدان مثقفان كما ذكرت ومستعدان لأن يصرفوا على تعليمك لكنك غبي ولست أهلا لذلك.
(يمسك كلاهما بخناق الثاني ويبدأن الشجار وتبادل التهم بالغباء والسخف وعندها يظهر صوت أجش، جهور من الغابة يقول كفاكما شجارا..)
فضل وفاضل (من هناك.. من في الغابة… ما هذا الصوت؟)
المشهد الثالث
(يظهر من وسط المسرح شيخ كبير أشعث، أغبر يرتدي ملابس قديمة وشبه مهترئة تشبه ملابس رجال الكهوف. ويتوكأ على عصا من أغصان الشجر)
الشيخ: توقفوا.. كفوا عن الشجار.. ألم تسأموا.. لقد قاطعتم خلوتي ..
(وحينما يراه الشابان يركضان هربا جيئة وذهابا على المسرح)
الشيخ: لم تركضان؟
(يتوقفان لبرهة عن الركض وينظران إلى الشيخ ثم إلى بعضهما البعض ثم يتابعان الركض)
الشيخ: توقفوا .. كفوا عن الركض … ماذا دهاكما؟؟ إلى أين تذهبان؟
فاضل: ما أنت؟
فضل: هل أنت إنس أم جان؟
الشيخ: بل ما أنتما؟ .. والله قد عرفت الإنس والجان ولم أعرف لكما جنسا.
فاضل: نحن نفهم ما تقول .. أليس كذلك يا فضل؟
فضل: نعم أفهمه .. أنا أفهم ما يقول.
الشيخ: ثم ماذا؟
فضل: أخشى أنني لم أبارح بلادي وأن السفينة قد تحطمت قبالة شاطئ المدينة المجاورة. أولا التقي بفاضل ثم هذا العجوز المهترئ.
فاضل: ما الذي تقصده؟
فضل: أقصد بأننا نتحدث اللغة ذاتها ووصلنا إلى هنا في ظروف متشابهة كثيرا .. أولم تلاحظ ذلك؟
فاضل: أعتقد بأننا كنا على متن السفينة ذاتها وأتينا من البلد ذاته لذلك نتحدث اللغة ذاتها وظروف وصولنا إلى هنا تكاد تكون متطابقة.
فضل: وماذا عن هذا العجوز؟ يبدوا أنه هنا منذ قرون.
الشيخ: وهل تجدان الحديث عن شخص واقف بينكما بصيغة الغائب أمرا جيدا؟
فاضل: نعتذر إن كنا قد أسانا إليك بحديثنا. لكن وضعنا سيء جدا، لقد غرقت سفينتنا ونحن نتضور جوعا ولا ندري ما الذي سيحل بنا.
الشيخ: (لفضل) وهل كلامك مطابق لكلامه أيها الغلام؟
فضل: أجل .. أجل.
الشيخ: ولم تتضوران جوعا.. أنتم في مكان حباه الله بالخير الوفير .. لم لا تبحثان عما تقتاتان منه؟
فاضل: إنها جزيرة غير مأهولة كما يبدو وهذه الغابة مخيفة ومن المحتمل أن تكون مليئة بالحيوانات المفترسة لذلك لن نستطيع دخولها.
الشيخ: (لفضل) وهل كلامك مطابق لكلام رفيقك؟
فضل: نعم نعم.
الشيخ: هل لي أن أعرف سبب ركوبكما البحر؟
فضل: نحن نبحث عن فرصة لنثبت أنفسنا ونحقق طموحاتنا.
الشيخ (لفاضل): وهل هذا سبب ركوبك البحر أنت أيضا؟
فاضل: نعم نعم.
الشيخ: على ما يبدو أنتما شابان في مقتبل العمر ولم يأخذ منكما الزمان مأخذه.
فضل: وهل تتطلب معرفة ذلك إلى حكمة؟ نعم نحن يافعين.
الشيخ: يافعين جدا
فاضل: أجل .. أنا في الثامنة عشرة من عمري.
فضل: وأنا في التاسعة عشر.
الشيخ: وركبتما البحر بحثا عن ماذا؟
فضل: لقد أخبرناك.
الشيخ: لا مانع أن أسمع ذلك مجددا .. ففيم العجلة؟
فاضل: صحيح .. فيم العجلة؟!
فضل: سأخبرك أنا أولا .. لقد ركبت البحر بحثا عن حظ أفضل وحياة أفضل. أنا لم أكن محظوظا أبدا في بلادي وفكرت أن أهاجر لأثبت نفسي وأغير حظي.
فاضل: أما أنا فركبت البحر لأثبت وجودي في بلد يفهمني ومجتمع لا يخنقني.
فضل: وأنت يا شيخ لم تركت بلدك؟
الشيخ: أنا .. لا شأن لكم بي .. أنا مختلف عنكم.
فاضل: وكيف ذلك؟ أخبرنا عنك يا شيخ، من أنت وما الذي تفعله هنا؟
الشيخ: حكايتي طويلة وغائرة في التاريخ .. هذا هو بلدي ومنشئي ومن نعتموهم بالحيوانات المتوحشة هم أهلي ورفاقي، وجدت نفسي بينهم، فلا أعلم لي أبا ولا أما من البشر .. أنا ابن الغابة ..
فاضل: هل يعقل .. لقد اعتقدت بأنك شخصية خيالية ..
فضل: وأنا كذلك.
الشيخ: وهل بلغكم خبري؟
فضل وفاضل معا: نعم نعم.
الشيخ: حسنا.. أخبروني عن مبلغ علمكم عن خبري.
فضل: أنت ماوكلي. فتى الغابة.. ضيعك أهلك .. وأرضعتك ذئبة.
فاضل: أنت طرزان .. وأمك غوريلا ..
الشيخ: هل هذا ما بلغكم عني؟
فاضل وفضل: أجل..
فضل: لقد شاهدنا قصتك في التلفاز .. لقد كبرت كثيرا جدا.. ثم لم لم تعد إلى ديارك الأصلية، في الفلم أنت هندي..
فاضل: لا طرزان لم يكن هنديا ..
فضل: إنه ماوكلي .. إنه ليس أشقرا، أنظر إلى ملامحه.
فاضل: طبيعي … لقد سفعته الشمس .. ويبدو أنه لم يستحم منذ سنين.
الشيخ: يبدو أن اسمي ووسمي قد اختلفا لدى بني البشر. ويبدو أن خبري قد شابه ما شاب التاريخ من تحوير .. هذه الأسماء ليست لي .. ومن أرضعتني هي أمي الغزال وليست ذئبة أو غوريلا كما أسلفتما ..
فاضل: إذا أنت حقيقي .. يا إلهي.
الشيخ: أنا حقيقي بكل ما تقتضيه الحقيقة وخيالي بكل ما يقتضيه الخيال ..
فضل: ما هذا؟ ماذا تقول؟
الشيخ: اخبراني أكثر عن خبري .. ماذا وصلكم عني؟
فاضل: أنت أخبرنا أولا، ما هو اسمك الحقيقي؟
الشيخ: أنا ابن الإنس .. وابن الغابة .. وربيب الأسود ..
فضل: حسنا حسنا… لقد قلت ذلك مسبقا .. لكن ما هو اسمك؟
الشيخ: اسمي لا يموت ولا يغفوا ..
فاضل: هل هذ لغز؟
فضل: لقد أثرت فضولنا فعلا.
الشيخ: قبل أن أفصح لكم عن اسمي اخبراني أكثر عن نفسيكما وعن ذاتيكما التي أردتما إيجادها وفي بلاد غير بلادكما.
فضل: لقد اخبرناك عما ما نصبو إليه.
فاضل: لا إضافة لدي.
الشيخ: هل تريدان أن اخبركما المزيد عن ذاتيكما؟
فضل: وهل تعرف ذاتينا أكثر منا.
الشيخ: إن ذاتيكما واحدة .. وكأنكما وجهان لعملة واحدة.
فاضل: وهل تعرف العملات وأنت تعيش في الأدغال مذ خلقت.
الشيخ: لقد عشت بين البشر فترة في شبابي وأيقنت أن لا مكان لي بينهم .. وعدت إلى عالمي هذا المليء بالجمال.
فضل: في أي بلد عشت … من المؤكد أنك كنت في بلدي.
الشيخ: أولا يسكن البشر بلادك؟
فضل: بلى ..
الشيخ: البشر متشابهون في كل زمان ومكان …
فاضل: حسنا .. أكمل يا شيخ حديثك عن ذواتنا.. افدنا.
الشيخ: أنتما تهربان من أمر وتحملانه معكما.. العلة ليست في بلادكما ولا في ظروفكما .. العلة فيكما أنتما الاثنين .. تلومان الدنيا على ما لم تعطه لكما وتبحثان عن حظ هو أصلا من صنعكما.. فهل عساكما تركتما حظكما في بلادكما مع ذويكما اللذين لمتماهم على فشلكما.
فضل: هل كنت تسمعنا منذ البداية؟
الشيخ : نعم … سمعت حديثكما كله .. أيها الشابان أنتما تشكوان من العلة ذاتها وإن لم تعالجا نفسيكما منها سيلاحقكما النحس الذي تزعمون وجوده حيثما ذهبتما.
فاضل: ما هي هذه العله؟
الشيخ: حبكما الزائد لذاتكما أيها الشابان أنتما الآن قد وجدتما ذاتيكما.. فكلاكما انعكاس للآخر إن كانت هذه الذات ما تصبوان إلى إثباته فاعملوا على تطويرها وتهذيبها أولا..
فاضل: (ينظر إلى فضل)كيف نستطيع تغيير ذاتنا إن لم تعجبنا.
الشيخ: ابحثا داخل نفسيكم عما تعشقانه غير ذاتيكما وعشقكما سيرشدكما ..
فضل: وكيف نستطيع أن نعشق؟
الشيخ: القلب ثم العقل هما دليل العشاق؟ ابحث في قلبك ثم اعمل، عقلك يدلك سواء السبيل.
فاضل: ومن نعشق؟ البنات يعشقن المال والوسامة ونحن لا نملك الإثنين.
الشيخ: هذا ليس بالعشق الذي أقصده.
فضل: ما هو إذا؟
الشيخ: عشقك نابع من إخلاصك وتفانيك لما تعشقه، فإن تفانيت فيه نجحت.
فاضل: تعني أن أعشق ما أريده. أن أعشق حلمي؟
الشيخ: أوليس خيرا لك من أن تعشق ذاتك؟ أخلص في عشقك واطلب الله المشورة .. فلا يضل سائلة.
فضل: أيها الشيخ .. هل نبقى معك على أن تعلمنا كيف نعشق كما ذكرت لننجح ونحصل على المال؟
الشيخ: إن رضيت قنعت .. وإن قنعت وجدت الثراء ولذته .. فالثراء ليس بكثرة المال بل بحلاوته …
فاضل: لقد قال لي والدي هذا مرارا وتكرارا لكني لم أرد أن أصغي إليه..
الشيخ: لأنك تريد من الحظ أن يركض إليك بينما يحتاج هو أن تسعى إليه .. وتلوم والديك على حظك مع أنه من صنع يديك .. على أية حال .. إن أردتما الخروج من الجزيرة أسلكا الطريق الذي يتوسط الغابة وستجدون في نهايته قاربا صغيرا .. خذاه وغادرا شرقا وستجدان جزيرة مأهولة بالناس ..
فاضل: من أنت يا شيخ؟
فضل: أخبرنا أرجوك..
الشيخ: عداني أولا أن لا تعودا إلى هذه الجزيرة أبدا.. وأن تحاولا إصلاح ذاتيكما.
فضل وفاضل: نعدك..
الشيخ: أنا إسمي هو حي بن يقظان ..
فضل : أنا لم أسمع باسمك من قبل.
الشيخ: ألم تقل بأنك قد سمعت عني …
فضل: هذا يختلف عما سمعنا به .. لست ماوكلي ولا طرزان..
الشيخ: وما أدراك .. قد أكون كلاهما .. فمن يعلم أي اسم ستعطياني عندما تصلان إلى وجهتيكما.. والآن .. أسلكا الدرب الذي وصفت لكما، وستجدان الفاكهة والماء في الطريق.
فضل: إننا نخشى الحيوانات المتوحشة يا ابن يقظان.
حي: أتخشيان الغابة وتريدان السفر في هذا السن إلى عالم لا تعرفانه … عجيب أمركما…. لا تخشيا الحيوانات.. فهي لا تهاجم إلا عدوها ولا تأكل إلا عندما تجوع..
فضل: في أمان الله إذا.
فاضل: ألا تريد أن ترافقنا حتى نصل الطرف الاّخر من الجزيرة.
الشيخ: لا.. لقد رافقتكما بما فيه الكفاية.. وأرجوا أن يرافقكما ما قلته ما حييتما.
فاضل: في أمان الله.
(يدخل الاثنان من الباب الذي خرج منه الشيخ، ويقف الشيخ في وسط المسرح قائلا:
(عجيب أمر الإنسان .. يبقى كما هو على مر الأزمان.. وتبقى العبرة ما بقى البيان).
*كاتبة من السعودية
التعليقات