48
047
047
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11847
05073
04982
04806
04482
0فاطمة الجباري*
نتحدث عن الوفاء وعن الأوفياء، ونعتقد أننا نستطيع التعبير عنه بكلمة، إلا أن المواقف وحدها هي من تتحدث عنه بكل صدق.
في محطة من محطات الحياة التي لا تهدأ، كان هناك لقاء مع وجه آخر للوفاء، وجه لم تغيره المغريات ولا الماديات. وجه من عالم الأوفياء الذين لا يرخصون الصديق، ولا يكذبون الصادق، ولا يخوّنون الأمين؛ لأن قلوبهم النقية تلتقي بأرواح الأنقياء.
عرفتها بوجه واحد، لا ترتدي وجهًا آخر كحال الكثيرات من حولها.
لم تكن قصة من نسج الخيال، بل كانت حقيقة من قلب الحياة.
كانت “فاتن” فاتنةً؛ لأنها اسم على مسمى. يتيمةً بعد أن رحل والداها وتركا لها أخًا وأختًا وبيتًا من الطين في تلك القرية الفقيرة البعيدة عن المدينة.
لم تكن تملك من حطام الدنيا غير هذا البيت الذي يؤويها وأخوتها. تعمل في البيوت المجاورة، تنظف وتطبخ، وتجمع قوت يومها، ثم تعود مساءً لتضع ما جمعته بين يدي أخوتها.
طلبت من أخيها وأختها الصغيرين أن يدرسا ويتعلما، ووعدتهما بأنها سترعاهما وتساعدهما بما تستطيع.
ظلّت هكذا تغدق على أخيها وأختها بالحب والعطاء والحنان.
كان الخطاب يقرعون بابها ليل نهار، لكنها كانت ترفضهم بشدة.
كانت تقول لهم: “لدي أمانة لن أفرّط فيها. أخي وأختي لن أتركهما يضيعان. سأعيش من أجلهما، وأنفذ وصية والديّ، وأعتني بهما”.
قلّ خطابها، وتقدم بها العمر. انتقل أخوها وأختها إلى المدينة لمواصلة تعليمهما، وظلت هي تخدم في البيوت لتوفر لهما ما يحتاجان إليه.
بدأت الأحلام تدنو والآمال تتحقق؛ فقد أتما دراستهما وتخرجا من الجامعة.
كانا يقيمان في السكن الجامعي طوال فترة دراستهما، ويعودان إلى القرية في الإجازات.
استيقظت فاتن ذات صباح فرحة مسرورة تنتظر قدوم الخريجين بفارغ الصبر.
عاد عبد الله وجوهرة يحملان في أيديهما حلمها وحلمهما وأملها، وكل شيء تركته من أجلهما.
استقبلتهما بالحب والحنان المعهود، ومسحت دموعها ودموعهما وهي تقول: “اليوم يوم فرح، لا دموع بعد اليوم”.
لقد أوفت بالوعد والعهد لوالديها، واليوم تجني ثمار ما زرعته طوال سنوات من التعب والخدمة في البيوت.
فاتن، التي لم تكن متعلمة، ولم يُكتب لها أن تلتحق بالتعليم، هي اليوم تجمع الشمس في يد، والقمر في الأخرى، وتباهي بهما أبناء وبنات قريتها.
وكأنها تقول لهم: “نعم، خدمت في البيوت ليبني أخي وأختي قصورًا بعلمهما وكفاحهما”.
بدءا يخططان لحياتهما في المدينة والتحقا بالعمل، بينما بقيت هي في القرية. فقد ضعفت قوتها، ورقّ عظمها، ولم تعد تستطيع العمل في البيوت كسابق عهدها.
لكنها لم تكن تشارك أحدًا وحدتها، ولا قسوة الحياة عليها، ولا بعد الأحبة عنها.
كانت تودعهما بالدموع وتنتظرهما بشوق.
انشغلا عنها بالوظيفة والحياة الخاصة. أصبح لكلٍ منهما ما يشغله؛ بيته وأسرته وأبناؤه.
أما فاتن، فقد بقيت وحيدة في قريتها، يأتيان لزيارتها كلما سنحت لهما الظروف.
لم يفكرا بأنها ضحت بشبابها ليرتاحا، وبتعليمها ليدرسا، وبمستقبلها لأنهما كانا مستقبلها.
لم يبادرا بطلب أن تكون معهما وجزءًا من أسرتيهما، وهي لم تطلب ذلك، واكتفت بالصمت.
كان جرحها غائرًا ووجعها كبيرًا، لكنها تحدث نفسها:
“أنا فعلت كل ذلك لأني أحبهما وأتمنى لهما الخير، ليس طلبًا للمكافأة، بل ليشعرا بي. فالمشاعر لا تُطلب.
والديون لا تُسدد، والوفاء نبل”.
يقول الشاعر أمل دنقل:
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى.
ختامًا:
“لن تعرفا بعضكما وأنتما على السفينة والريح رخاء. لا بد من ثقب في قعرها، من عاصفة تهزمكما، من أشرعة ممزقة تبحث عن يد تخيطها، من غرق تلو الغرق، ليصنع منكما وجهين حقيقيين. فالمعرفة الحقة ليست في الراحة والسلامة، بل في النجاة التي تقتسمها مع من يُبحر معك رغم كل شيء”.
* كاتبة سعودية
التعليقات