مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

عبدالله صالح الرستم*   خرجنا من الفصل متجهِين إلى ملعب المدرسة في حصة الترب …

الميزان الأعرج

منذ أسبوعين

73

0

عبدالله صالح الرستم*

 

خرجنا من الفصل متجهِين إلى ملعب المدرسة في حصة التربية البدنية، بينما رُحتُ أجولُ ببصري بين المجسَّمات واللوحات الإرشادية المعلقة على جدران المدرسة، والتي كُتبت بخطٍ عريض وجميل، فكنت أقرؤها وأحفظها عن ظهر قلب بسعادة، واستوقفتني لوحةٌ عظيمةٌ خُطَّ عليها عبارة: العدلُ أساسُ كُلِّ شيء، وبجانبها مجسَّمٌ على هيئة ميزان ذي حبلين متدلِّيين ينتهيان بصحنٍ لكلٍّ منهما على مستوى واحد من الاتزان، لكنَّ أحد الصَّحنين لم يكن مستويًا على النحو المطلوب، فرُحتُ بيدي أُعيدُ للميزان اتزانه، لكنه يعود ويُرجِّح كفة على أخرى، كرّرتُ محاولتي لإعادة الميزان إلى وضعه الصحيح، لكنه لم يستجب. حاولت للمرة الثالثة، لكن هذه المَرَّة صاح معلمي من خلفي وراح يوبِّخني على عملي، ظنَّ أنني كُنتُ أعبث به، فحاولتُ أن أشرح له، لكنه أخرسني بفظاظة وطلبَ مني اللحاق بباقي الطلاب. وكان إلى جانبي صديقي الأردنيّ شادي أحمد، الذي راح يكظم ضحكته بكلتا يديه ساخرًا مني كعادته. وفي ملعب المدرسة قام المعلم بتوزيعنا إلى فريقين، ورمى الكرة في المنتصف، لكنها لم تكن في المنتصف تمامًا، وتركنا ورحل، كانت العصا تلمع في يده كالسيف، لكنها من خشب؛ عصاة غليظة لا تخطئها الأبصار، ولا تغيب عن ذاكرتنا، كان يُلوِّحُ بها عن بُعد تحذيرًا ووعيدًا إذا أحدث أحدنا أي شغبٍ أو فوضى داخل الملعب، كان إلى جانبه زميلٌ له يُحاوره ويتجاذب معه أطراف الحديث، وحَمْدنا الله أن أعتقنا قليلًا من أوامره العسكرية التي لا تُطاق، فرُحنا نلعب بسعادة وحماس، لكنَّ صديقي شادي أبى إلَّا أن يُمارسَ معي لعبته المفضلة في إغاظتي؛ فهو لا يُكفّ عن مشاغبتي وإثارة أعصابي، فكان يرمي الكرة عمدًا على رأسي أو بطني أو يمتنع عن تمريرها إليَّ بسلام، نفدَ صبري من تصرفاته، فشكوته إلى المعلم؛ أملًا في أن ينصفني ويوقفه عند حده، لكنَّ المعلم طلَبَ مني العودة في إشارةٍ من يده. عُدتُ إلى الملعب وقد أخفى شادي ضحكة ساخرة يكتمها من جديد. عاد مرةً أخرى يناولني الكرة برعونة، فلم أكتمها في نَفْسي وعُدتُ أشكوه إلى المعلم، الذي لا زال يتحدث إلى صاحبه وقد بدا أنه مُسترسلٌ في حديثه، فقطعت كلامه أملًا هذه المرة أن يُصغي إليَّ، لكنه عاد ووبَّخني وطلب مني العودة، وهناك، ليس وحده من كان يضحك ويستهزأ بي، فقد شاركه اثنان آخران. لم يَعُد اللعب معهم مُسليًا فاعتزلتُهم وفي القلب غُصَّة، هاج وجدي حينما رأيتهم يتهامسون وينظرون إليَّ خُفية ولم يتورَّعوا عن مناكفتي وإظهار تنمرِّهم عليَّ، وأنا غارقٌ في صمتي أغلي كالمرجل حتى أكاد أنفجر، فرُحتُ إلى المعلم للمرة الثالثة وكان لا يزال يتحدثُ إلى صاحبه، فقُلتُ له: لقد طفح الكيل، ولن أرحلَ حتى تُنصفني وتأخذ حقي من هذا! وأشرتُ إلى صديقي شادي، فرفع المعلم رأسه وقطَّب حاجبيه وصرخَ صرخةً مدوِّية ومجلجلة يُناديه ويدعوه على عَجَل، فجاء يركض مرعوبًا وخائفًا وعيناه بدتا تلمعان استعدادًا للبكاء من أثر العقاب الذي ينتظره، فقام المعلم أخيرًا، وفي لحظة آسرة وحاسمة أَنتظرها بترقُّبٍ وشغف، رَفَعَ عصاته وراح يُبرح يده الغضَّة ضربة تلو الضربة، حتى كاد أن يُمزِّق جلده، وشادي كان يتلوَّى من الوجع وعيني تنظر إليه في تشفٍّ وسرور، ولمَّا هممنا بالعودة، صرخ المعلم في وجهي ساخطًا: إلى أين؟ تعالَ وخذ نصيبك، عدتُ إلى الفصل بيدين ملتهبتين، وعينين دامعتين، وصدري يئزُّ كالمرجل من الغيظ، وبطن صاحبي يوجعه من شدة الضحك عليَّ، والميزان الذي مررتُ بجانبه لا يزال معوجًّا ينتظر من يُصلحه.

*كاتب من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود