23
051
080
080
0241
3الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11935
07056
06861
06337
05728
5جواد عامر*
شكلت الأنا جزءًا من الأنساق الثقافية في المحضن العربي جلاه الخطاب الشعري باعتباره الناطق الرسمي والصوت الإعلامي في البيئة العربية منذ العصر الجاهلي، فكان حضور الذات واضح المعالم عند الشعراء كما الخطباء وكتاب النثر في المدونة الثقافية العربية، فحفلت الشعرية العربية باستنطاقات للذاكرة كتلك التي كان يعرجون عليها الشعراء لإيقاظ الشعور الداخلي بالحنين أو المتعة يقول امرئ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي
أو عبر استذكار الشاعر لحظات الصبا وما كان فيها من حب وعشق للحبيبة، كما نجد عند شوقي حين يقول:
جبل التوباد حياك الــــــــحيا
وسقى الله صبانا ورعـــــى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه ، فكنت المرضعا
كم بنينا من حصاها أربعا
وانثنينا فمحونا الأربعــــــــا
فيكون استذكارًا في سياق يبعثه الحب والحنين والشوق للماضي لا غير، تحركه عاطفة تتأجج في الباطن، بينما سيأخذنا المنتج السردي السيري إلى بعد آخر في سياق التحولات التي سيشهدها النتاج الروائي العربي منذ القرن العشرين كمًا وكيفًا، فظهرت نماذج روائية سيرية استنطقت الذاكرة واستقرأت الماضي بحمولاته الثقافية والوجدانية والفكرية وما يعج فيه من خصائص واسمة لأبنيته، غير أن لعبة التذكر لا يمكنها أن تتم في معرض السرد وممارسة عمدية للعبة النسيان، إذ إن الحياة تعج بلحظات تستشعر فيها الذات الخجل من الآخر، وهو موقف وجودي أعلن عنه سارتر بمقولته الشهيرة: الآخر جهنم، فأنا أخجل من حيث أتبدى إلى الآخر، لذلك تكون هناك لحظات من الحياة تمارس فيها الذات لعبة النسيان أو تلجأ إلى لعبة الكنايات والاستعارات والترميزات من أجل الإخفاء، ومن هنا تطرح قضية الصدق الإبداعي التي تجعل القارئ حائرًا أحيانًا أمام أحداث قد تبدو له هلامية متأبية على القبول لما قد يشوبها من المبالغات المفرطة حينما تعمل الذات الساردة على تمجيد فعل أو سلوك سواء صدر منها أو من غيرها، أو تجعله بفضل ذائقته الأدبية التي لا يفصلها عن الواقع يحس أنه أمام بياضات ومسكوت عنه لا يقتنع رغم إيحاءات الكاتب بأنها تشكيل فني لإشراكه في إنتاج النص.
إن استنطاق الذاكرة فعل إبداعي متعسر لأنه يستدعي الاحتراس الشديد من الكاتب في كل جزئية داخل العالم السردي، فالسياق التاريخي والثقافي وأنماط التفكير والطبائع والسلوكات وأسماء الشخوص ومؤثتات الفضاء وغيرها من الأشياء التي تشكل نسيجًا في العالم الروائي السيري، تحتاج منه إلى دقة في التحري من اجل إثبات صدقية الخطاب ومنحه صبغة الحقيقة دون ان يعني ذلك إسقاط التخييل الذي يعد لبنة مهمة في بناء العمل السردي، وإنما القصد إلى تبني مبدأ الموافقة بين زمن الخطاب وزمن القصة إحقاقًا للمصداقية التي يروم إليها القارئ، صحيح أن كثيرًا من الكتاب يمتلكون جرأة زائدة في البوح بأشياء يسكت عنها الإنسان العادي، فتجد النص يبوح بطابوهات ويخترق الخطوط الحمراء فيعري الجسد ويظهر المكبوت من الجنسي كما في زمن الأخطاء والخبز الحافي لمحمد شكري، لكن عددًا منهم لا يجرؤون على البوح بالطابوهات إما حفاظًا على الصورة الأخلاقية التي رسمها القارئ عنهم، أو لأنهم يتكتمون عليها من باب الخجل الوجودي، أو يمارسون لعبة الإخفاء عبر الكنايات والرموز أو يسندون الحكي لرواة آخرين فيجنبون أنفسهم مغبة الوقوع في الحرج مع القارئ، كما فعلت لعبة النسيان لمحمد برادة حينما يكون إسناد السرد لراوي الرواة أو يتم على لسان راو ما ليسرد وقائع يتحرج منها السارد الذي يمثل الوجه المضاعف للمؤلف.
لقد تأثت الفضاء السردي منذ بدايات القرن العشرين بنماذج روائية اختارت طريق السيرة كجزء توثيقي للحياة والسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخ الوطني والجانب الهوياتي، فكانت نماذج من قبيل الأيام لطه حسين وأنا للعقاد وفي المغرب ظهرت سير عديدة منها في الطفولة لعبد المجيد بن جلون وعام الفيل لليلى أبو زيد ولعبة النسيان لمحمد برادة، وكلها نماذج وجدت أصداء كبيرة لدى المتلقي العربي؛ لأن السيري فيها لم يكن بقصد استقراء ماضوي محسوب وإنما كانت مسرحًا للعبور إلى نقل الواقع الإنساني والاجتماعي والسياسي الذي أنتج الخطاب، فشكلت الذاكرة جسر مرور إلى الثقافة والهوية، بل استطاعت أن تقتحم التفاصيل التي يعجز عنها المؤرخ نفسه، لذا لم تكن السيرة مجرد نقل لوقائع يعيد الكاتب نسجها في بناء حكائي لغاية السرد، وإنما هي نص يحاور التاريخ والثقافة والأنساق الاجتماعية المتكونة في لحظة ظرفية من التاريخ، إنها كشف ذكي للمخبوء والمضمر في كل الأبنية تتجاوز حدود الفعل السردي.
إن النص السيري وهو يستدعي جماليات السرد وتقنياته الفنية على اختلاف الكتاب ويستنطق الذاكرة والتاريخ لا يفعل ذلك لأجل تسريد الوقائع كما فعلت السرديات القديمة حينما كان الحكواتيون يتنافسون في حكي النصوص سيرًا شعبية وأساطير وخرافات، إنما التسريد في السير محمل بإيديولوجيات وبواعث فكرية تسهم إلى جانب الملابسات الأخرى والشروط المختلفة في إنتاج الخطاب ما يجعل القارئ ملزمًا في الحفر في طبقاته بالمعنى الأركيولوجي للحفر كما ذهب إلى ذلك ميشيل فوكو وهو يبحث عبر الحفر في طبقات اللغة، مثلما عليه الحفر في طبقات الوعي واللاوعي بالمعنى الفرويدي لما تخزنه السير من معطيات رغم محاولات التكتم التي قد يلجأ إليها بعض الكتاب، لكن ممارسة هذا النوع من الحفر سيكون طريقًا أمثل أكثر من التفكيك نفسه للوصول إلى المخبوء.
إن لجوء السيرة للعبة البوح والتكتم لا يمكن تبريرها بمقتضيات فعل التسريد؛ لأن الكاتب يمتلك كل صلاحياته في الكشف أو الإخفاء، وإنما مرد ذلك إلى البعد النفسي والفكري الذي أتى متعلقًا بالكاتب نفسه أو إلى البعد الإيديولوجي المرتبط بالمؤسسة والسلطة وما تمارسه من رقابة على المنتج، ما يضطر الكاتب إلى اللجوء للكنايات والاستعارات وإلى بلاغة الصمت حيث تغدو اللغة مشفرة أو صمتًا يعلن عنه عبر تقنيات البياض، ما يمنح القارئ مساحة واسعة للتفاعل والتأويل كمنتج جديد للنص ولعل الرواية التجريبية أو ما سمي ب “رواية اللارواية” سلكت هذا المنحى بشكل واضح في أنساقها السيرية أو حتى خارج دائرة السيري، فتجد السارد مطالبًا القارئ بالدخول في غمار السرد، بل والمشاركة في الإنتاج عبر مخاطبته مرات ومرات، واستحضاره في سياقات سردية متنوعة على امتداد المسار السردي.
إن النموذج السيري قيمة مضافة للسردية العربية الحديثة كما كان قيمة مهمة أسهمت في تشكيل لبنات السردية العربية القديمة سواء عبر كتب التراجم وطبقات الرجال كما في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” لابن أبي أصيبعة (668= 1296) و”طبقات الشعراء” لابن المعتز (296=908)، أو السير الموضوعية التي كانت أكثر استفاضة مثل سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي ( 597= 1200)، وكانت السير الذاتية التي زعم جرونباوم أن العرب أخذوها عن جالينوس مؤكدا على حداثة هذا الفن، وقد كانت السيرة عند العرب مرتبطة بالجانب الفكري والديني وهو ما أكده “روزنتال”، كما نجد في سيرة ابن سينا (428= 1037) والغزالي (505=1111) وابن خلدون ( 808= 1405) وغيرهم، وهذا يدل قطعًا عل طرحنا في أن السيرة ليست مجرد تسريد، إنما هي خطاب تحكمه إيديولوجيات وتفرزه مرجعيات ويتشبع بروافد معرفية، ليجعلها الكاتب معبرًا لإيصال مقصديته التي يفسح فيها مساحات أكبر للقارئ ليكون أكثر تفاعلًا مع النص ومنتجًا له فيما هو يمارس فعل القراءة.
*كاتب من المغرب
التعليقات