23
051
080
080
0241
3الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11935
07056
06861
06337
05728
5د. محمد حسين السماعنة*
تختلف مستويات الشعور بالاغتراب من فرد لآخر، ولعل أكثر من يتأثر بهذا الشعور ويظهره ويعلنه هم الشعراء، الذين إذا أحسوا بالغربة أو الاغتراب امتلأت قصائدهم بالصور التي تشير إلى إحساسهم بالوحدة والقلق النفسي، وتوحي بمعاناتهم من هذا الاغتراب النفسي، أو الاجتماعي، أو السياسي، أو الفكري، الذي يفصلهم عن محيطهم أو عن ذاتهم؛ لأن الشاعر الذي يعاني من الاغتراب يوجهه شعور نفسي داخلي عميق فيه اضطراب وارتباك؛ ليفقد ثقته بمن حوله، ويفقد انتماءه إلى المجتمع الذي يعيش فيه، فلا يستطيع بناء علاقات ثابتة مع من حوله، فيخرج على كل ما يسبب له الشعور بالاغتراب، فيفر إلى داخله، أو يعلن حاجته إلى الفرار من مجتمعه أو مكانه أو حاله، ليحيا بروحه وفكره وخياله في البيئة الجديدة التي صنعها ليرتاح مما كان يقيده ويخنقه ويمنع تأقلمه.
وديوان كفاية عوجان “جارة القمر” الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2022م، حديث أنثوي عالي الصوت عن اغتراب النفس الشاعرة، حروفه التي حملت مظاهر اغتراب النفس الشاعرة هي عناصر الطبيعة بألوانها وأشجارها وجبالها وبحارها وسمائها، فقد انعكست عليها، وتلونت بألوان مشاعرها، إذ يظهر الشعور بالاغتراب جليًا في دفقات الديوان، وتنتشر آثاره في نصوصه؛ في صوره ومعانيه، ليكون هو الخيط العميق الذي يربط النصوص بعضها بعضًا.
بدأ الحديث عن معاناة النفس الشاعرة من الاغتراب من العنوان “جارة القمر” فهو عتبة توحي بما في نصوص الديوان من اغتراب يورث حزنًا عميقًا يتسلل من دفقات القصائد إلى خيال المتلقي بهدوء حينًا وبصخب حينًا، فمن العنوان المركب من لفظتين: جارة والقمر، يطل الاغتراب بصوت أنثوي عالٍ للنفس الشاعرة، التي تركت الناس، واختارت القمر ليكون جارها بعد أن أسهدها غياب من تأتمنه على ما في قلبها من مشاعر. وتدل لفظة (جارة) أيضًا على ثبات العلاقة مكانيًا وزمانيًا بين القمر والشاعرة؛ فهما معًا يتجاوران الليل، ويقفان على ناصية وعاء البوح الإنساني القديم في الوجدان الجمعي، فهو المكان الذي تتراكم فيه الأحلام، وتتجه إليه الآهات، ويحتفظ بالأسرار، وتتدافع منه وإليه الذكريات، وتهب منه رياح الحنين والشوق، وتعلو به في النفس موجات ألم الشعور بالفقد، فهو ستار البوح ومثير الشوق والحزن، فهو مع ما حوله من سماء فسيحة، ونجوم مضيئة، وليل حامل للأسرار عتبة النص التي تؤكد شعور النفس الشاعرة بالوحدة، التي اختارت القمر ليدل على ما تشعر به من اغتراب.
وينتقل أثر الاغتراب إلى عناوين نصوص الديوان، فهي عتبات دالة، فيها إشارات وإيحاءات قوية إلى الاغتراب النفسي والاجتماعي الذي تعيشه النفس الشاعرة، فتدل العتبة “سهاد القلب” على حال القلق والارتباك الذي تعيشه النفس الشاعرة، وتدل العتبة “اشتياق” على ذلك الفقد الذي يتعب النفس الشاعرة، وتدل العتبة” رحلة تيه” على حال النفس الشاعرة التي فقدت الاتجاهات في مسيرها، وفي العتبة “إلى من لا يهمه أمري” نرى أثر فقدان الثقة في النفس الشاعرة واضحًا. وفي “حلم مغدور” تظهر علامة أخرى من علامات الاغتراب، وهي تكسّر الحلم، وهو المتكأ الذي يسند النفس الشاعرة في اغترابها، وتدل العتبة “سطور بعيدة” على حال اليأس التي تسيطر على النفس الشاعرة، وتدل العتبة “غربة متضرعة” على ما وصلت إليه النفس الشاعرة من تعب شديد ومعاناة. وعناوين الديوان عتبات تحمل إيحاءات بعمق معاناة اغتراب النفس الشاعرة عن محيطها، وعلامات هذه الغربة في الديوان، وهي كلها علامات تحمل نفسًا عميقًا من الحزن والخوف والقلق فيه إيحاءات واضحة بالاغتراب.
ويظهر شعور الاغتراب في ديوان “جارة القمر” في الصور الشعرية المركبة والكلية، التي احتضنت ثلاثًا وأربعين قصيدة نسجتها كفاية عوجان ضمن دفقات مكثفة على نول التفعيلة حينًا، وعلى خيط نثر شعري قلبي ساحر ناعم حينًا، والنصوص التي تمزج بين النثر والوزن حينًا؛ فهي رسمت مشاعر الاغتراب بحروف من عناصر الطبيعة، وصاغت بريشة مدادها الكون والطبيعة قصائد فيها صور شعرية جديدة، بناؤها لافت، فيه الجمال والجدة والدهشة المنضودة بعناية وذكاء على وتر موسيقي هادئ غير متكلف، وبنت منها النفس الشاعرة سلمًا من البوح خلطت فيه مشاعرها وأفكارها في بوتقة روح شعرية ممزوجة بعناصر منتقاة من الكون والطبيعة، وضعته في إطار شعري واضح البناء على وزن واضح غير صاخب، وفي مجال نثري جميل، وفي لوحات مزجت النفس الشاعرة فيها اللون والحركة والإحساس بما في الطبيعة والكون من عناصر دالة موحية بما تحمله من تاريخ دلالي مرتبط بالذاكرة الجمعية لتدخل المتلقي إلى أقرب إحساس بما تعانيه النفس الشاعرة من اغتراب، بعد أن لونتها بالحزن، أو الغضب، وبما تشعر به من اغتراب نفسي! ومن خذلان وانكسار، أو حث على الثبات، والتحلي بالصبر، وإظهار قوة، فالصورة الشعرية في ديوان “جارة القمر” متكأ واضح له وظيفة تأثيرية قوية في المتلقي، نقلت من خلالها النفس الشاعرة إلى المتلقي ما تحس به من قلق وخوف وحزن وعدم ثقة وخذلان؛ ليتأثر المتلقي بموقف الشاعرة، ويتفاعل مع أفكارها، وهي جمعت بين الإيحاء بما تشعر به من اغتراب والإعلان عنه، والجهر به في التعبير عن نفسيتها في جمل شعرية متدفقة بجمال نسج، وبصور عميقة موحية تعكس المشاعر الداخلية، وعميق تجربتها الوجدانية. وجاء صوت الأنا الشاعرة في الديوان عاليًا ليتحدث من نوافذ أنثوية الروح واسعة، ومن أبواب بوح عالية الصوت شكلتها صور شعرية متنوعة البناء، وصور تعتمد الإيحاء أساسًا، ويحدوها ضمير المتكلم الذي حمل المعنى على بساط من الأنا الشاعرة التي تسيطر روحها على قصائد الديوان.
وبدأت النفس الشاعرة صعود سلم البوح منذ القصيدة الأولى للديوان، فهي في قصيدة “شهرزاد” ترسم صورة كلية لحال الاغتراب بتقنية المرايا الشعرية، فتتوحد النفس الشاعرة مع شهرزاد التي كان السرد طوق نجاتها في عالم ذكوري عجائبي التفكير متسلط، وتتخذ النفس الشاعرة في ديوان “جارة القمر” من الكلمات طوق نجاة لها؛ ما يؤثر فيها من آثار الاغتراب وعوامله وأسبابه، فتبوح بتقنية المرايا بما تشعر به من استغلال، وقلق نفسي، واجتماعي، وتهميش، وإنكار لقدرتها فهي في القصيدة تبحث عن النجاة ولا شيء غير النجاة، فتشتري بالكلام عمرًا ثانيًا، تقول: “تسكنني شهرزاد…/ فحين يرتدي المساء ثوب ليلها/ تؤلف الحكاية التي يصغي لنبضها السلطان في جموع الحاشية/ فتشتري بمتعة الكلام عمرا ثانيا…”.
وتصف في قصيدة “منزل الروح” ما وصلت إليه روحها من اغتراب: “سأظل وحدي في انتظار العابرين/ لعلني من ثغرهم/ تلوح لي ابتسامة/تطل لحظة من جرحي الدفين”.
وتتمدد وحدة النفس الشاعرة في الديوان على حياتها كلها؛ فهي تعيش بقلب مثقوب من كثر الطعنات، وبروح وحيدة لا يرى جمالها أحد، ولا يرى حزنها ودموعها أحد، فلا أنيس لها مع كل ما فيها من جمال وخير وبراءة وسلام، تقول: “روح كهيئة الطير ترفرف /وحدي هنا…/ ويشرب قلبي المثقوب…/ ذاك الذي في الكون لا أحد يراه”، وتقول: “ما دام لا أحد/ يدري بحزن قلبها/ من حرقة الكمد/ أو في لحظة/ يرى دموعها السوداء”.
ويتكرر ذكر علامات الاغتراب في قصائد “جارة القمر” ويتكرر وصفها، فقد تكرر الحديث عن الوحدة التي تعيشها النفس الشاعرة في أكثر من قصيدة، وتكررت الشكوى من العزلة التي تعيشها، كما في تشبيهها نفسها بنجمة وحيدة، تقول: “أنا نجمة وحيدة تعيش وحدها في عالم الأثير/تراقص أوهامها على عتبات السماء…”، فهي تعيش بقلب مصلوب على ذكريات ميتة، وبروح تائهة فقدت رشدها: “مصلوب فوق جذوع العشق اليابسة/ أم تبحث عن روح/ تبحث في مجنة عن جنة/ أو لست أدري كيف يكون حال نجم قد تراءى/ من بعيد/مشتعل بالضوء لم يره أحد؟!”.
وتظل الصورة التي ترسمها النفس الشاعرة في الديوان لنفسها تطل علينا من بين دفقات القصائد وهي وحيدة تفتعل البسمة، وتعيش بقلب أدماه شوك الخسارات، ففي قصيدة” مناجاة تبعثرها الريح” توحي الصورة التي رسمتها النفس الشاعرة لاغترابها في سجن وحدتها بجمود الحاضر الذي تعيشه، إذ لا حياة فيه، فوحدة النفس الشاعرة سجن نفسي متعب، تعيشها بقلب مشرف على الهلاك، وأفكار تثقل رأسها، يحتلها الحنين والشوق بالذكريات، تقول: “سجينة وحدتها ظلت/ بقلب مشرف على الهلاك/ حثيثًا يجاهد من أجل حياة ليس تأبه بالقلوب/ وحيدة تنهش ذهنها الأفكار وتملأ وقتها/ بالذكريات…”.
وبصورة مشهدية كلية رمزية رسمت النفس الشاعرة صورة ناطقة فيها حركة ولون لحال الاغتراب التي تعيشها؛ تقول: “القارب العتيق متعب من الترحال/ أخشابه/ تتنفس التنهيد والأسفار/ حين يخذل عزمها/ عشق السباحة”. وهي تعيش مشتتة المشاعر، بقلب سجين، بعيدة لا يشعر بها أحد، لا تحس بشيء ولا يدهشها شيء يلتهما الفراغ، تقول في قصيدة “رذاذ مشتعل: “أطلق سراح القلب/ من سجن المشاعر والشتات/ أنا ضوء خفي/ يعبر الألوان بي/تحيط هالة تشع من قلب الجمال /…/ أترى اختفى منك الشغف/ ومات في النبض الشعور /…/ لم تبق إلا عتمة الفراغ/ تغزل من خيوطها شعاع الطيف”.
والعجز علامة واضحة من علامات الاغتراب، ففي قصيدة “الخروج “من دوائر الدخان” تصور النفس الشاعرة كيف أنها باتت تواجه الحياة بروح تائهة عاجزة فتصور روحها بأنها معلقة في الفراغ، والتعليق يوحي بالعجز.
ومن علامات اغتراب النفس الشاعرة في قصائد الديوان الشكوى التي احتلت دفقات من الديوان، وجاءت في تقنيات شعرية مختلفة كالسؤال والتعجب والوصف والتصوير والرسالة، وحملت تصوير النفس الشاعرة لصمتها، وحزنها وانتظارها وضجرها وخوفها، وقلقها وبكائها، تقول في بحثها عن الخلاص والفرج والنجاة: “فأين أنت يا حلمي العتيق؟ وأين بهجة الطريق؟” وهي تستخدم تقنية الرسالة في قصيدتها “إلى من لا يهمها أمري” لوصف اغترابها ومعاناتها من آثار الاغتراب التي استسلمت لها فاستعجلت الخلاص بعد أن هدّها اليأس، وأضناها التعب.
والصمت مرتبط بالوحدة والخوف والحزن والرفض، وهو من العلامات التي تكررت كثيرًا في دفقات القصائد لوصف حالها في وقوفها أمام الاغتراب الذي تحياه، والأسباب التي صنعت هذه الغربة، تقول: “في زمن الفوضى، وجلجلة الضجيج…/ تشيطن نبض العالم/ وبلباقتها الأيام، انسلت من إيقاع الحياة/ راح الصمت يبتلع التفاصيل/ يغتال رنات الغناء/ وسادلًا براقع الوجوم فوق سحنة الزمان/ والدروب في المدى مشلولة الخطأ”. وتقول: “في وحدتنا نغرق…/ لم يبق في رحيق العمر إلا ساعة تقرع الصمت/ الصموت/أصداؤها تهز قامة الجدار… فلا سبيل للهدوء/ حتى سكون الصمت أصبح في جنون الوقت/ ثرثارًا”. ويتردد ذكر الصمت في قصائد الديوان والصمت موقف ولغة وعلامة رفض في كثير من الأحيان، تقول: “في حياة أخفيت فيها صمتي الطويل/ وقصة الحياة/لكنني -أيا عذابي الجميل- فجأة أردت النجاة/منك”، وتقول: “أرى الصورة من خلف قضبان الحياة/ يلفني السكون… الموت/ لكن لا أحد يصغي إلى استغاثتي”.
وفي قصيدة “سطور بعيدة” ترسم النفس الشاعرة صورة لحال الاغتراب التي تعيشها، لتوضح حدود معاناة اغترابها؛ فهي تنشر في دفقات النص إشارات موحية وعلامات دالة موضحة ابتدأت البوح منذ عتبة النص التي تشير إلى أنها سطور كتبت وانتهى أمرها، واكتملت أحداثها التي تصفها، فباتت النهاية مؤكدة ثابتة؛ والنفس الشاعرة فيها تعيش الغربة في الزمن المر بقلب في شتات بين أمل ووهم، تفر من أحلامها لتتلقفها أحلامها. حتى البيت الذي أوت إليه حين داهمتها حبات المطر بات بيتًا جافًا يسكنه الضجر، وتموت فيه الأحلام ولا شيء فيه سوى الصمت والبرد والوحدة.
وفي قصيدة” الخوف” التي حملت عتبتها إحدى علامات الاغتراب عالية الصوت في دفقات القصائد، تصف النفس الشاعرة أثر الخوف المدمر فيها، فهو يعيش معها يطاردها، ويربك حياتها، فيقتل الحياة في ساعات يومها، ويحبس أفكارها، تقول: “يطاردنا الخوف/ يشوّه أزهار الإلهام /ويغيرُ كوابيسَ/ ويمتصُ من الساعات جمال الضوء/ ويختلس البهجةَ من عمر الأيام/ الخوف قطيع ذئاب جائعة للناس وللحب/ ولمت حياة ملآى بالأحلام”.
ومن علامات الاغتراب فقدان الثقة بمن حولها، ففي قصيدة “دمعة باردة” تصف النفس الشاعرة أثر فقدان الثقة فيها؛ فإذا هي وحيدة، لا أحد تلجأ إليه، ولا من تأمن له، فهي فقدت الثقة في كائنات الليل والنهار، وارتفعت الحواجز النفسية بينها وبين من تحب، تقول: “فحين في براري النفس تفقد الثقة/ في من ترى من كائنات الليل والنهار/ يصير بين نفسك الشفيفة الندى/ وبين من تحب حاجز/ كأنه واد عميق موحش المدى…/ يذوب في أرجائه الصدى/ ينهش كل ذرة من الجمال فيك /…/ وتعيش وحدتك البريئة/ مثل طفل لم تدنسه الخطيئة/ أو مثل جنات معلقة على أسوار بابل/ يا وردة بسيوف وردتها تقاتل”. وهذا الجهر بفقدان الثقة بمن حولها هو من علامات الاغتراب القوية المؤثرة التي تتكرر إيحاء وتصريحا في ديوان “جارة القمر” فها هي ترسم صورة حركية لحال الاغتراب التي وصلت إليها، وتوحي بمعاناتها من هذا الاغتراب، وعدم شعورها بالأمان، وتقول بصوت كله حسرة وحزن بأن لا أحد يستحق عطاءها، فتستخدم ضمير المخاطب لتتحدث عن حالها، ولتعطي للدفقة الشعرية جمال نسج، وكسرًا للخط الشعري وتجديدًا لوجهة الخطاب، فهي في قصيدة “بريد لا يصل” تنقل النفس الشاعرة ما تحس به في لحظة تأمل من مشاعر الاغتراب، فترى أنها منهكة، وروحها مقيدة بالألم، ليمتلك الحزن زمام القصيدة، فترى أنها تجرجر ذاتها نحو الأفول: “منهك أنت…/ تجرجر نفسك نحو الأفول/ وبابتسامة مقهورة تقول: لا أحد يستحق زهرةَ العطاء”.
ونجد صورة كلية لمعاناة الاغتراب التي تعيشها النفس الشاعرة في قصيدة “ندبة على خد الزمان” التي تكشف الغطاء بصوت جهوري مليء بالحزن والقهر عن مظاهر الاغتراب في حياتها، ومن باب الاحتراس من القيل والقال تكلمت عن هذه الحال بضمير المتكلمين لتقول: إن ما تعيشه من اغتراب يعيشه كثير من الناس، الذين يخفون اغترابهم، فيظهرون في صورة غير حقيقية، تخفي معاناتهم عن العيون، وأفئدتهم معلقة على شجر الغياب، وأفكارهم شاردة، يعيشون الوهم واقعًا، في حياة كلها بور.
وتركت النفس الشاعرة في قصيدة” ندبة على خد الزمان” للمتلقي أن يتصور ما يخفيه هؤلاء من معاناة اغترابهم باستخدامها تقنية الحذف، تقول: “رائعون… متفائلون…/ مدعون…/ هل هي حياة أم نحن فيها المتعبون/ الميتون…؟!/نضحك مكتظين بالبكاء…/ نكره أفواهنا على الكلام/ ونحن ملجمون/ وعلى الشفاه بسمة/ فيما الفؤاد على شجر الغياب معلق”.
ويمتد أثر الاغتراب إلى اختيار النفس الشاعرة لألفاظها في قصائد الديوان بذكاء، لتحمل إيحاءاتها الحزينة بأدق ما يكون التعبير، وليظهر الشعور بالاغتراب في المعاني والصور، وفي معجم شعري زاخر بما يدل على الاغتراب، فقد تكرر ذكر الليل والظلمة والعتمة في الديوان خمسًا وعشرين مرة، والخوف خمس مرات، والخلاص والنجاة ثماني مرات، والوحدة سبع مرات، والصمت أحد عشرة مرة، والسجن والأسر سبع مرات، والموت عشر مرات، والحزن أربع عشرة مرة، والتعب تسع مرات، والحلم خمسًا وعشرين مرة، والحياة ستًا وعشرين مرة، والدمع والبكاء سبع مرات، وهو تكرار دال، ومعجم شعري بحمل كثيرًا من الإشارات الدالة على حال الاغتراب، وانشغال النفس الشاعرة بمعاناتها من تمكن الاغتراب منها، وبخاصة ما تواجهه في ليله، وتشير كذلك إلى قلقها من صراع الموت والحياة الذي في داخلها. وكثرة ذكرها للحلم تشير إلى هروبها المستمر من الواقع، وكثرة استخدامها للفظة الصمت تشير إلى موقفها الغاضب الرافض للواقع المر، فالصمت، والتعب، والحزن، والموت، والآه، والخلاص، والوحدة.. .هي حال النفس الشاعرة، وهي مظاهر اغتراب النفس الشاعرة.
وتخفي النفس الشاعرة في ديوان “جارة القمر” تحت عباءة شعرية مخضبة بعواطف يحدوها الحزن وصور وعبارات مكثفة، نفسًا هشة متعبة من شعور الاغتراب وآثاره من حزن وشعور بالوحدة والضجر والقلق، وتحاول أن تصبّر نفسها، وتشد من أزرها بطرق مختلفة منها اللجوء إلى الله، كما في قوله: “أصرخ الآه تلو الآه/ يا إله الكون امنحني النجاة”.
وحين تقتل الغربة ما في النفس الشاعرة كله إلا شوقها، وتتعب من آثار الاغتراب التي أثقلت رأسها، تنادي الله، وتسأله النجاة والفرج، وإخماد النيران التي تحرقها، وضجيج الكون الذي يثقل رأسها، وأن يمدها بالقوة؛ فهي ترى أنه هو الوحيد القادر على إخراجها مما هي فيه من بطش الاغتراب بها، تقول: “الغربة تقتل… إلا الشوق /…/ تخرج الآه من أعماقي بسجدة/ وأقول: يا الله/ يا من تقدست أسماؤه الحسنى/ وسبّحت له خلائق الوجود في علاه، وكل نبض فيّ صارخ: تعب هي الحياة/ أخمد ضجيج الكون في دمي/ لم يبق إلا دمعة أفضي بها إليك/نيرانها سالت على الشفاه/ فمن سواك/ يعيد روحي التعبى إلى حماك”.
واللجوء للأحلام هو هروب واضح من الواقع المر الذي يغرقها فيه، الذي عنوانه الرئيس هو الشعور بالغربة، فقد اتكأت النفس الشاعرة في عتبات قصائد الديوان على الحلم كما في: “حلم مغدور” و”وكأنها في حلم” و”أحلامنا ترسو”، و”حلم”، وتتردد لفظة الحلم في كثير من دفقات قصائدها كملجأ يتهدم أمام إعصار مشاعر الغربة التي تعصف بالشاعرة أو تعين الشاعرة على مواجهة العصف المتعب لرياح الغربة، أو كمادة تحث روحها للجوء إليها لتساعدها في الخلاص، فهي تحاول تخليص حلمها من الكوابيس لتصفو لها الحياة قليلًا بعيدًا عن شعور الاغتراب ووجعه، ولترسم صورة موحية لما تعانيه النفس الشاعرة من اغتراب حيث لا سلام ولا أمان، ولا طمأنينة، وحيث تعيش تحت وطأة الخوف والقلق: “فكل ما ترمي إليه شهرزاد/ أن تطرد الكابوس من بحار حلمها/ وأن تنام ليلها الطويل/ دون خوف من هروب عمرها/ من ملعب الأيام”.
واللجوء إلى الحلم هو هروب معلن من الاغتراب وفرار أباحته النفس الشاعرة لذاتها للبقاء على قيد الحياة، وللخلاص من متاهات الزمان المر، والواقع المتعب، تقول: “في متاهات الزمان المر /قلبي في شتات…/ ومنك أفر يا حلمي إليك”.
ولا تكف النفس الشاعرة عن البحث عن ملاذ آمن يوفر لها البيئة التي تحتضنها، فتجد هذا الملاذ في الحلم، الذي يحملها على جناح الخيال إلى بيئة جديدة ومجتمع جديد هو ذاتها، أو ما يبنيه حلمها من صروح وجدران ومدن أو ناس، تقول: “وعلى ضفاف فضائه غرقى النجوم في غيم/يسوح بعالمي الكوني/ حيث اللاحدّ َيأخذني/ إلى ذاك الفضاء الرحب/ حيث حلمت/ أن الروح راحلة إليه”.
وفي سبيل رفع المعنويات والتغلب على شعور الاغتراب تحاور النفس الشاعرة ذاتها وتحدثها، وتشجعها وتحثها على المضي في الطريق لتتجاوز المعيقات، والخروج من دوائر الاغتراب، فهي في قصيدة “إصرار” تنقل حديث نفس عاليًا تحاول فيه تقوية نفسها، وإقناعها بأنها قوية وقادرة على البدء من جديد، تقول: “لي قدرةٌ تعيد بدء الشوط من جديد/ فكل خفقٍ فيَّ يحمل البشارة/ روحي له شرارة”. ومع أنها لا تشعر بالحياة، إلا أنها تظل تحاول إليها، تقول: “ها أنا أعاود الصعود باحثًا عن شهقة الحياة كي أرى غلالة من نور”.
ويرتفع صوت الأنا في قصيدة “سيرة غير مكتملة للأزرق” من ضمير المتكلم، ومن تكرار الضمير المنفصل المتكلم (أنا) اثنتي عشرة مرة، في محاولة النفس الشاعرة لمد ذاتها بالقوة لتستمر في دربها، تقول: “أنا الخلاص… والأسر/ أنا من أهديت ابنة اليمامة مني كحلَا/ وشققت لها المدى فحلت عليها لعنة السماء”.
والحديث عن الموت، والنجاة والخلاص في قصائد الديوان إشارة واضحة إلى ما تعانيه النفس الشاعرة من قلق وارتباك وتشتت، إذ يتكرر الحديث عنها في أكثر من قصيدة، وفي أكثر من دفقة شعرية، ففي قصيدة “شهرزاد” يحمي الشعر النفس الشاعرة من الموت؛ فهو طوق النجاة لها من هذا الاغتراب الذي يحاول قتلها، فبعد أن جعلت النفس الشاعرة شهرزاد مرآتها التي تعكس حالها تدفقت الصور الشعرية لتصف حال الاغتراب في صورة كلية تمددت على القصيدة كلها، فإذا هي تخاف الصمت والشرود، وتمتطي شجر الكلام، وتطوف بالأسماع لتبقى على قيد الحياة: “يقول بعض الحاضرين والرواة/ بأنها تلفق الأحداث في فنون قولها/ لكي يكون السرد سلمَا إلى طوق النجاة/ تخاف الصمت والشرود شهرزاد/…/ تفتش عن نجاة من حريق الغاشية”.
وفي قصيدة “بريد لا يصل” تشجع النفس الشاعرة ذاتها وتبشّرها بالخلاص في حديث نفسي تتكرر فيه أفعال الأمر التي تحمل، إضافة للطلب الحث والتشجيع ومحاولة تقوية الثقة بالنفس، فبعد أن وصفت حال الاغتراب التي تخنقها حتى أوصلتها إلى القول بأنه لا أحد يستحق زهرة العطاء، بدأت بمحاولة إعادة الثقة للذات من مجموعة متتابعة من أفعال الأمر: توقف، فتابع، وألقِ، واطرد، ودع، واحضن، واتكئ. وتبقى آثار الاغتراب وأسبابه حاضرة في البال، فتطلب من ذاتها أن تحذر من الوقوع في شباك الثقة لئلا ينكسر قلبها مرة أخرى.
وتثق النفس الشاعرة أن ثمة دربًا تؤدي لدرب الخلاص الذي تنتظره، فعلى الرغم من كل هذا النكران والخذلان وانكسار الثقة الذي تواجهه، لكنها تظل تحث نفسها على المضي في طريق الحب وزراعته في مدى الأجواء، وتظل تحاول التأقلم، وتبشر نفسها بتغير الحال، تقول: “توقف/ فثمة درب تؤدي لدرب الخلاص… فتابع عطاءات روحك/ وألقِ أشتال المحبةِ في مدى الأرجاء/ لا بد يزهر الوجد على عرش القلوب”.
والتبشير بالخلاص من الاغتراب وآثاره كثير في الديوان ففي قصيدة “قلب من ياقوت” تبشر النفس الشاعرة ذاتها بأن الحلم بالخلاص ما زال حيًا، وبأن الطريق التي ترسمها أحلامها لها ستنقذها من الغرق، تقول: “فما زالت دروب الحلم تحملنا/ وتنبئنا/ بأن طريقنا المفروش بالحبق/ سيوصلنا وينقذنا من الغرق”. والتحبيب بالحياة والترغيب بها يدفع النفس الشاعرة لمعاودة الاتكاء على الأحلام للخروج من حال الاغتراب، فهي تضع الذات بين خيارين معاندة الضجر أو الحياة في الأحلام في ميدانها الفسيح المؤانس، تقول: “نفضت عن أحلامي الغبار/ ثم قلت يا نفسي/ هي الحياة/ خيالك الفسيح فيها صاحب مؤانس/ فإما أن تعاند الضجر الممل بعزمك المقاوم/ أو أن تظل هائمًا صريع حزنك الكسيح/ والهزائم”.
وبعد، فقد نقلت قصائد ديوان “جارة القمر” صورة شعرية لاغتراب النفس الشاعرة، فأكثر قصائد الديوان هي تصوير لمعاناة النفس الشاعرة من الاغتراب، ولوصف آثاره وعلاماته ومظاهره، حتى بدا الديوان للباحث نسجًا واحدًا موضوعه الاغتراب وآثاره.
*كاتب من الأردن
التعليقات