الأكثر مشاهدة

د. أيّوب جرجيس العطيّة* (سورة الشّمس): مكية بالاتفاق، وآياتها خمس عشرة آية في عد …

تقابلُ البُنى وإنتاج الدلالات اللغوية والنفسيّة.. في سورة الشّمس

منذ أسبوعين

43

0

د. أيّوب جرجيس العطيّة*

(سورة الشّمس): مكية بالاتفاق، وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار([1]

محور السُّورة:

 الحضّ على الأوصافِ التي يَحصُلُ بها الفلاحُ، والتّحذيرُ مما تحصلُ به الخيبة، مع بيان أنَّ كلَّ إنسان مُيسّر لما خُلِقَ له. وقال الرازي: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَاتِ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمَعَاصِي([2]).

بناء السُّورة:

   استطاع الباحث رصد ثنائيات متضادة تتمحور حولها جميع التقابلات، والألفاظ في السورة، وأطلق عليها وفقا لمقصد السورة وبناها اللغوية: ثُنائية (التَّزكية والتَّدسية) ([3])

تقابلُ البُنى وإنتاج الدلالة:  

بالنظر لأبنية التقابل في المخطط في أعلاه: يمكن أن نعدَّ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ البنيّة الكبرى الأولى، الظاهرة التي تلتحم مع البنية العليا الثانية المضمرة: (الهُدى). 

 ومن المعلوم أنّ (الشمس) تُؤثر في النّاس بإشراقها وحرارتها، فتدفع النّاسَ إلى الحركة الدائبة، والنشاط والحيويّة، وترسمُ على وجوههم السُّرور والبهجة، والكشف يشير إلى حركة الامتداد والإشراق، وسرور النفس، بمعنى أنَّ دلالة (والشمس) بالنسبة لمزاج الناسِ دلالةٌ (انبساطيّة وانشراح).

أما البُني التي ترتبط بالدائرة الأولى (الشمس وضحاها)، فهي:

بنية ﴿وَالقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا﴾ أيْ تلا طلوعه طلوع الشمس فإنها تتجلى إذا انبسط النهار أو الظلمة، أو الدنيا أو الأرض. 

وتلتحم معها بنية ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾ كشف الأرض، وأبرزها وأوقف كل ما يجري في جنح الظلام من فساد ونهب وتعري لا يجد له مكانًا في النهار، فضياء الشمس يكشف الستر عن ما يجري في الخفاء؛ لأنه يبدد الظلام الساتر، والكشف يشير إلى حركة الامتداد والإشراق، فيجلب الراحة والسرور، فهي تحمل دلالة (الانبساطيّة والانشراح).

ومثلها ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ والسماء تمثل مصدر الوحي من الله؛ لذا تعدُّ جهةً كلها نور وخير وبركة، فنزول الرسالات، ونزول الغيث كله يشير إلى حركة امتداد من أعلى إلى أسفل وهي حركة تولِّد البهجة والرضا فهي تتواشج مع ما قبلها في دلالة (الانبساطيّة والانشراح).

وتأتي بنية (وتقواها) الذي يتضمن معنى الخشية والخوف والابتعاد عن كل ما يخالف الشرع، فالتقوى أمر يحدث في حركة واضحة يحدد من خلالها الأمر الذي يخشى منه، وفي هذا الجانب الحركي الممتد الذي يتوافق مع حركة النهار ووضوحه. وكُلُّها تحمل دلالة (الانبساطيّة والانشراح).

 وتتراسل معها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ هو تطهير النفس من كل ما يدنسها، والعمل على زيادتها ونمائها بالخير، تتمثل بحركة الجسم لإخراج الصدقات وإقامة الصلوات وغيرها من العبادات وما يترتب عليه من أثر نفسي للعابد، وكلُّ ذلك يؤدي معنى (الانبساطيّة والانشراح).

وتلتحم معها بنية: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ فإنّ رسول الله (صالحًا) يمثِّل النور والضياء والخير والبركة،. كما أنّ بنية: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾: فقد كانت الناقة آية في الخلق، وآية لهم كمصدر للخير الدائم، ويمكن تشبيه الشمس بناقة صالح في كونها آية في الخلق، فهذه كلها تحمل (الانبساطيّة والانشراح). 

هكذا إذن تحمل الدوالّ السابقة من أبنية التقابل دلالة الدائرة الأولى من البنية التقابلية المركزية.

ويمكن أن نعدَّ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ البنيّة الكبرى الثانية الظاهرة التي تلتحم مع البنية العليا الأولى المضمرة: (الضَّلال).

 ومن المعلوم أنّ (الليل) يُؤثر في النّاس بإظلامه ووحشته، فيدفع النّاسَ إلى الخوف والسكون والانكماش حول النفس، فليس الليل مما ترتاح إليه النفس بالنظر إلى ما تولده الكلمة في النفس من إيحاءات العزلة والظلمة والتيه والخوف… بمعنى أنَّ دلالة (الليل) بالنسبة لمزاج الناسِ دلالةٌ (انقباضية وانكفاء). ف(الليل ويغشاها) يشيران إلى انتفاء الحياة من خلال الظلام الذي يدل على المكان في الأرض. كما أن (استغنى) يشير إلى المعنى نفسه؛ أي انتفاء الحياة الصحيحة.

ثّمَّ ذكر التقوى في مقابل الفجور ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ والفجور يعني كثرة المعاصي والأصل فيه التعدي والتجاوز، باليد أو اللسان فهذا الامتداد يمثل الظلمة وانكماش النفس فهي تحمل (انقباضية وانكفاء).

  ومثلها: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ حال بينها وبين فعل الخير، وذلك لأن أصل فعل دسّ: إذا أدخل شيئًا تحت شيء فأخفاه، يعني: من دَسَّس الله نفسه فأَخْمَلها، ووضع منها، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ، وإذا كانت التدسية هي الإخفاء والنقص. والانهماك في المعاصي فكلُّ ذلك يحمل (انقباضية وانكفاء).

    وتشترك بنية ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾ في الدلالة على التدسية: أي عطّل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان، وبهذا المعنى يعني انتفاء الحياة السليمة، بوصف التكذيب ردًا للعمل والحركة وإبقاء السكون وإبطال الفاعلية، وتتحد معها بنية: ﴿انبعث أشقاها﴾؛ انطلق أشقى القوم بسرعةٍ ونشاط يعقر الناقة يَتَكَلَّفُ الْعَنَاءَ وَيَشْقَى بِهِ، فالتَّكلف والعناء والشدة كلُّ ذلك إرهاق للنفس وظلم لها، فتحمل (انقباضية وانكفاء).

     وتتواصل معها دلاليًا بنية: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ﴾ وذلك لِمَا غَشّاهم به من العذاب والإهلاك، فيكون المراد أن العذاب غشيهم وغطّاهم وشملهم جميعًا جزاء كبيرًا لما أخفوا من الحق والخير. 

   وبنية: ﴿فسواها﴾، والبنية الأخيرة: ﴿وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ كلها  تحمل (انقباضية وانكفاء).

 والخلاصة أن كل البنى التي تقع في ضمن (التجلية) تحمل دلالات حركية ظاهرة سليمة وفق سنن الحياة والخير، وتحمل دلالات نفسية هي الانبساطية والسرور.

   أما البنى التي تقع في ضمن (التدسية) فهي تحمل دلالات حركية غالبًا خفية تخالف سنن الحياة والخير؛ لذا فهي تحمل دلالات نفسية هي الانقباضية والانكفاء.. فجاءت البنى اللغوية تعبّر أحسن تعبير عن نفسية المؤمن، ونفسية الكافر، وهذا من إعجاز النظم القرآني. 

 *كاتب من العراق

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود