مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

إعداد: سلوى علي  الأنصاري يتجلى الهجاء في أفق الأدب متخذاً من السخرية “اتج …

الهِجَاءُ..حرب البلاغة ومعركة البلاغ

منذ أسبوعين

171

2

إعداد: سلوى علي  الأنصاري

يتجلى الهجاء في أفق الأدب متخذاً من السخرية “اتجاهين ” تحمل الدفاع وتحتمل الهجوم وأمتلات صفحات الشعر بملاحم من هذا الفن “الأضطراي ” تحت لواء البلاغة ليتشكل في بلاغة بليغة .

في زمنٍ كانت الكلمةُ فيه سلاحًا، والبيانُ ميدانًا، وعلوُّ الصوتِ لا يُقاسُ بحدَّتهِ بل ببلاغتهِ، وُلدَ الهجاءُ من رحمِ الخصومةِ كما يُولدُ البرقُ من احتدامِ السحب. هو الحرفُ حين يتمرد و الشِّعرُ حين يغضب، واللّفظُ إذا ما ثار، والقلمُ إن كشر انيابه  ليبقيَ الحرفُ وحدهُ سيد الموقف!

الهِجاءُ ليس سبًّا عابرًا، ولا شتيمةً رخوةً يُلقيها الغاضبُ كيفما اتّفق، بل هو فنٌّ جميل ، لا يتقنهُ إلا مَن تشرّبَ أنغام العربِ، وارتشفَ من عيونِ الشعرِ مُرَّ البيانِ وحُلوه.

 هو  صولة و جولةٌ في ساحةِ الشعر ، يعلو فيها الحرفُ كما تعلو الرماح، وتسدد الكلمات في صدرِ المهجوّ كأنّها سهمٌ لا يَخيب.

وللهِجاءِ في ديوانِ العربِ مواقفُ تُروى، وأسماءٌ خُلِّدت لا لمدحٍ ولا وصفٍ، بل لأنّ هجاءهم كان أدهى من الطعن، وأشدَّ من الجرح. فهذا جرير يقارع الفرزدق، ويتباريان كما تتبارى السيوفُ في ارض القتال، لا يلتقيان إلا لتتناسل بينهما أبياتٌ من السُّخريةِ الراقية، والقدحِ المصقول، إلى ان غيب الموت احدهم ولحق به الآخر .

عندما مات الفرزدق قيل له ان ساحة الشعر له متاحة

فقال: ان القرناء يلحق بعضهم البعض، فمالبث إلا ولحق به

وبعد  الهجاءُ  مرآةُ الغضبِ الأدبي، يلمعُ فيها الذكاء، وتتشكلُ فيها الشخصيّاتُ كما تراها أعينُ خصومها. هو حكايةُ الخيبة، والخذلان، والغضبِ المُبطّن، والغيرةِ حين تُعلِن تمردها على الكتمان.

لكنّ له أخلاقياتٍ، فإن فارقَ البلاغةَ إلى الفُحشِ، أصبح نقيصةً لا ميزة، وصار انحدارًا لا تعبيرًا. فهو فنٌّ لمن يحسنُ صناعةَ السيوفِ من الحروف، لا لمن يثرثر لينشر كلماته في الظلام.

فهو  – وإن كان مرًّا – أحدُ أركانِ الأدبِ العربيّ الذي حفظَ لنا مشاهدَ نادرةً من حروبِ القوافي، وأسلحةِ الفصاحة، وميدانِ السخريةِ المهذّبة التي لا يجرؤ عليها إلا المتمكّنون.

ففيه يولدُ الجرحُ قصيدة، ويصيرُ الخصمُ بيتًا يُتلى… وتبقى الكلمةُ، ما بقيَ في القلبِ نارٌ لا تهدأ، وحنقٌ لا يُقالُ إلا شعرًا!

ولعلَّ من أشهر من تفنَّن في الهجاء وأبدع، الشاعر الحطيئة، الذي لم يسلم منه أحد، حتى نفسه وأمه لم يسلما من لسانه. كان هجاؤه كالسيف المُسنَن، إذا سلَّه لا يغمده حتى يُرضي شهوة السخرية فيه.

وقد هجّى نفسه وقال :

أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً —- بسوءٍ فما أدري لمن أنا قائلهُ

أرى لي وجهاً شوّه الله خلقهُ —- فقُبِّح من وجهٍ و قُبِّحَ حامِلهُ

 ومن أشهر أبياته التي تهكم فيها بأمه:

جزاكِ الله شرّاً من عجوز —- و لقّاك العقوق من ألبنينا

تنحي فاجلسي مني بعيداً —- أراح الله منك ألعالمينا

حياتكِ ما علمت حياة سوء —- و موتك قد يسرّ الصالحينا

و هذا الفرزدق يهجو رجلاً أقرضه مائة درهم ثم ألحّ في طلبها حتى دفعها إليه:

أفي مائةٍ أقرضتها ذا قرابةٍ —- على كل بابٍ ماءُ عينكَ يدمعُ

تسيلُ مآقيك الصديد تلومني —- و أنت امرؤ قحْمُ العذارين أصلعُ

فدونكها إني أخالك لم تزل —- لدُن خرجت من بابِ بيتك تلم

تنادي و تدعو الله فيها كأنما —- رُزِئت ابن أمّ لم يكن يتضعضع

أما جرير، فكان هجاؤه لفحول الشعراء، وعلى رأسهم الفرزدق، سجالًا خالدًا في ذاكرة الأدب العربي، كلُّ منهما ينهشُ الآخر بأبياتٍ تفيض سخرية واحتقارًا. من هجاء جرير الشهير للفرزدق:

ما للفرزدق من عزّ يلوذ به … إلا بني العم في أيديهم الخشَب

سِيروا بني العمّ فالأهوازُ منزلكم … ونهر تيرى فما تدريكمُ العر

سخرية لاذعة تُقلل من شأن قبيلة المهجوّ، وكأنّ الشاعر يقول: لا مكان لكم بين القبائل ذات الشرف.

وفي هجائه لبني نمير قال:

فغُضّ الطّرف إنك مِن نُمير … فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابًا

وقد سُئل جرير يومًا: كيف تصيب خصمك بهذا الإحكام؟ فقال:

“أضع خصمي بين عينيّ، وأجعل نفسي مكانه، ثم أقول ما يَقتلني لو قيل فيَّ!”

ويعد كل من الهِجَاءُ والسُّخريةُ… شقيقان من أمّ الغضب، وأبٍ اسمهُ البيان

قد يختلط الهجاء بالسخرية في ظاهره، لكنّ جوهرهما مختلف في المَدى والنيّة والمقصد.

الهِجاءُ لَذعٌ مُباشر، يُسلّط فيه الشاعر سوطَ كلماته على المهجوّ، يطعن نسبه، يعيب خلقه، يفضح خصاله. أما السُّخرية، فهي ابتسامةٌ جارحة، تُخفي خلف خفّتها نقدًا لاذعًا، واحتقارًا ناعمًا قد يُضحك السامع ويُدمي المستهدَف.

وقد يكون بينهما اختلاف من بين تلك الاختلافات ان

الهجاء يُشبه القتال في وضح النهار، أمّا السخرية فهي اغتيال على مهلٍ في ليلٍ دامس.

الهجاء يُقال غَضبًا… والسخرية تُقال ذكاءً.

الهجاء يُفجِّر المعنى… والسخرية تُلوِّنه.

وقد يجتمعان في قصيدةٍ واحدة، كما فعل المتنبي حين هجا كافور الإخشيدي:

أَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ

 أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ

صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ

بِها فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ

نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها

فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ

لم يمت الهجاء بموت شعراء العصر الجاهلي أو الأموي، بل استمرّ في الأدب الحديث، لكن بلبوسٍ جديد، أقلّ مباشرةً، وأكثر رمزيّة.

أصبح الهجاء في زمننا يُكتب في المقالة، وفي القصة الساخرة، وفي القصيدة الحرة، وحتى في المسرحية واللوحة التشكيلية.

صار الهجاء يُمارَس على السياسات، الظلم الاجتماعي، النفاق الثقافي، لا على الأفراد فحسب.

فنجد ذلك في أعمال أحمد مطر، الشاعر الذي هجى الاستبداد بقصائد من نار، كتبها لا على جدران القبائل، بل على جدران الوطن وقال :

لم يعد هارونُ

يختالُ أمامي…

فلقد قطَّعتُ هارونَ

إلى مليون قطعة..

وزرعتُ الأرض في بغدادَ

من حولي كلابا فارسية

هجاءٌ معاصر، ولكنّه ما زال يحمل روح جرير والحطيئة، ويكمل رسالتهم بلسانٍ عصري.

يبقى الهجاءُ فنًّا عصيًّا على التقليد، لا يُجيدهُ إلا من تمرّس في فقهِ اللغةِ، وعرفَ مواضعَ الوجعِ في النفسِ البشرية.

هو الحرفُ حين تحترق زواياه لكنه لا ينزل عن عرشه، بل يبقى سيدًا… حتى في الخصومة!

ويضل الهجاء  قطعة من تاريخنا الأدبي، كُتبت على صفحاتِ القلوب و حفرت أبياته ذاكرة الأبناء

فهو كما قال أحدهم: “ما هجونا به اليوم، نُخلّده الذاكرة للأبد لأن الكلمة لا تموت!”

التعليقات

  1. موضوع الهجاء وتناوله وذكر مشاهير الشعراء كالفرزدق وجرير والحطيئة وربط التراث بالأدب المعاصر من خلال الهجاء في السرد كالمقال والقصة والشعر العمودي او التفعيله كمثال شعر أحمد مطر إنما يدل على إبداع وثقافة كاتبة رائعة تملك بلاغة وادوات وثقافة كبيرة.

  2. يقول سلوى الانصاري:

    الاديب :صابر الجنزوري كل الشكر والتقدير لمروركم البهي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود