الأكثر مشاهدة

بقلم: جواد عامر* شَكَّل الوصف الجوهر الذي يدور في فلكه الشعر العربي، إذ لا يمكن …

كاريكاتورية الصورة.. في شعرية الهجاء عند ابن الرومي

منذ أسبوع واحد

32

0

بقلم: جواد عامر*

شَكَّل الوصف الجوهر الذي يدور في فلكه الشعر العربي، إذ لا يمكن لأي غرض أن يتشكل في متنه دون لغة واصفة، فالمدح لا يقام له بنيان دون وصف لمناقب الممدوح والرثاء لا تقوم له قائمة دون ذكر حسن لمناقب المرثي وتذكير بشأنه ومحامده، والغزل لا يكون له وجود إلا بتوصيف مناحي الجمال ومواضع الحسن في الحبيبة ووصف اللوعة والحب وما شابه ذلك؛ ما يستدعيه التيتم في الغزل العذري ومواضع الإباحية في الغزل الماجن، ولا يكون الفخر فخرًا إلا إذا عدّد الشاعر صفاته العلا وأوضح مكارمه التي تميزه أو تميز قبيلته وعشيرته، ولا يتحقق الهجاء فيكون على درجة عليا من الاستقباح والذم إلا بوصف المنعوت بأقبح الصفات ومعايرته بأسوأ النعوت، وقس على ذلك ما شئت من أغراض وأبواب في الشعرية العربية القديمة والحديثة، فلا مجال لبناء المعمار اللغوي للقصيدة.

بعيدًا عن لب اشتغال اللغة وهو الوصف، لذا كان هذا الباب من أعسر الأبواب في شعر العربية حين يجعله الشاعر متفردًا بنفسه، معزولًا عن سياقات الأغراض الأخرى، ما جعل الشعرية العربية تتبناه في سياق الاحتواء الشعري للباب المؤطر للمتن كله، فاتخذ الوصف عند شعراء العربية طريقًا لتأدية مقصدية الشاعر، إذ جعل منه مطية ركوب تؤدي مهمتها في إيصال المراد اللهم تلك النتف القليلة التي جادت بها قرائح شعراء العربية بين الفينة والأخرى تأثرًا بمنظر في الطبيعة أو حيوان في البرية أو إنسان أو ما شابه هذا من الأشياء العارضة، غير أن وصفها ظل يجول في دائرة التناص عند غالب الشعراء فلم تستحدث المعاني بالقدر الذي وجدنا الصور على درجة كبرى من التقارب؛ لأنها كانت تنبع من نفس المفكرة وذات الذائقة التي صنعتها بيئة متشابهة المعالم، إلا أن الوصف سيتخذ في الشعرية العربية منحى آخر مغايرًا في العصر العباسي لما ستحدثه المدنية من تأثير في النفوس وترقيق لها وما صنعته من إدخالات جديدة للعناصر في كل مجالات الحياة، فتمدنت الحاضرة وترققت الطباع وامتزجت الأعراق وتداخلت الثقافات وامتزجت اللغات وتلاقحت الأفكار وتولدت الكلمات، فتنوعت الأطعمة والألبسة والأشربة وأدوات الموسيقى وألوان الألعاب وأصناف الأزهار والورود والأشجار، فكان لهذه المعالم الدخيلة أكبر الأثر في تغيير أنماط التفكير وأشكال الإبداع.

ووسط هذا الخضم من المتغيرات الجديدة، شاعر عربي من أصل رومي هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريح المعروف بابن الرومي (221ـ 283 هـ)، استطاع أن ينتقل بالشعر العربي على مستوى الوصف إلى درجات عليا من البراعة، فاستطاع أن يلتقط دقائق العصر من الأشياء التي لم يلتفت إليها غيره فوصف عناصر الطبيعة مما لم يصنعه غيره في عصره، فأبدع في نعت عناصرها من غروب شمس وألوان الزهور والورود كالنرجس وشقائق النعمان وأجاد في وصفها وغيرها إجادة بالغة، يقول في قوس قزح:

وساق صبيح للصبوح دعـــــوته             فقام وفي أجــــــــــفانه سنة الغـــمض 

يطوف بكاسات العقار كأنـــــجم             فمن بين منقض علينا ومنــــــــــغض

وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفًا         على الجو دكنا والحواشي على الأرض 

يطرزها قوس السحاب بأخــضر           على أحمر في أصـــــــــفر إثر مبيض 

كأذيال خود أقبلت في غـــــــلائل           مصبغة والبـــــــعض أقصر من بعض 

وقال في النرجس شعرًا جميلًا:

يا حبذا النرجس ريحانة             لأنف مغبوق ومصـــبوح 

كأنه من طيب أرواحــه              ركب من روح ومن روح 

وغير هذا في الطبيعة ورد كثيرًا في شعره، كما أنه تفرد بوصف دجاجة قدمت برفقة ثرائد وقطائف في وليمة دعي إليها، فقال فيها:

وسميطة صفراء دينــــــارية            ثمنا ولونا زفــــها لك حزور

عظمت فكادت أن تكون إوزة           وغلت فكاد إهابــها يتفـــــطر 

طفقت تجود بذوبها جوذابـــة         فأتى لباب اللوز فيها الســــكر 

ظلنا نقشر جلدها عن لحمــها         فكأن تبرا عن لجين يقــــــشر 

وتقدمتــــــــها قبل ذاك ثرائد        مثل الرياض بمثل ذلك تصدر

ومرققات كلهن مزخـــــرف               بالبيض منـــــــــها ملبس ومدثر 

وأتت قطائف بعد ذاك لطائف            ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر

كما أنه الشاعر الذي وصف الموز وصحف الحروف وقلبها وهو أمر لم يسبق إليه في شعرنا العربي، فقال في الموز قولًا محمودًا يدل على براعة شعرية خارقة:

إنما الموز حين تـــــمكن منه              كاسمه بدلًا من المــيم فاء 

وكذا فقده العزيز عــــــــلينا                 كاسمه مبدلًا من الزاي تاء 

فهو الفوز مثل ما فقده الموت              لقد بان فضـــــــله لا خفـاء 

ولهذا التأويل ســـــماه موزًا               من أفاد المعاني الأســــماء 

إن هذه الأمثلة القليلة التي سقناها لدليل قاطع على شعرية الوصف البديعة والمتعالية التي فاق فيها ابن الرومي شعراء عصره بلا منازع، ولا بد أن شاعرًا يمتلك كل هذه القريحة لحقيق أن يُتَّقى من قبل العامة والخاصة من أهل الشعر؛ لأنهم لن يستطيعوا مجاراة نسق شعري عال كهذا الذي ينسجه ابن الرومي، لذلك لا نستغرب إذا وجدنا في التاريخ الشعري من حدثنا عن خوف الكثيرين من شر لسان ابن الرومي لما كانوا يعلمونه من سلاطة وقدرة على التوصيف ترسم المهجو رسمًا كاريكاتوريا كأنه فنان يرسم الخطوط والأبعاد والظلال في لوحة القصيدة، وكيف لا يهاب ويتجنب وهو الذي أعلن سيف الهجاء على كل من يعرض له، فقال: 

لا يأمننَّ السفيه بادرتـــــــــــي         فإنني عارض لمن عرضــــا 

عندي له السوط إن تلــــوم في        السير وعندي اللجام إن ركضا 

إنه شاعر عنتري بالهجاء، لا يخشى أحدًا فهو يمتلك كل الأسلحة اللغوية والفنية والتقنية لردع خصومه وأعدائه وإلجامهم، فلو أمعنا النظر قليلًا في أعتى صور الهجاء في التاريخ الشعري لوجدنا النقائض؛ غير أنها ظلت محتكمة إلى سياق التنافس والردّ على الآخر بنفيس البحر والروي وردّ المعنى بالمعنى في غالب متنها دون أن تتجاوز الردود ما كان مألوفًا من تنقيص أمجاد القبيلة والقوم والتقليل من شأن شعرية الشاعر وشجاعته وكرمه، وهي معانٍ ظلت مأثورة في سجل البيئة العربية تتسم بتقليديتها التي ارتسمت في أذهان المتلقين الذين كانوا ينتظرون غلبة أحد الأطراف لا غير، لكن الهجاء مع ابن الرومي اتخذ نسقًا آخر مختلفًا دقَّق فيه الشاعر العباسي الصورة ورسم لها التفاصيل التي لا يمكنك أن تتخيلها ليحول المهجو من كائن آدمي ويجرده من إنسانيته عبر تصويرات مضحكة وبلغة ساخرة، فيعيد رسمه كفنان كاريكاتوري يرسم بالكلمات والأخيلة مشهدًا لكائن بشريّ مضحك يتراءى للمتلقي رأي العين فيحمله على مشاهدته بصريًا، ومن بديع تصويراتها الهجائية قوله في معلم يدعى أبا سليمان: 

أبو سليمان لا ترضي طريقته                 لا في غناء ولا تعلــــــــــيم صبيان 

له إذا جاوب الطنبور أغنـــية                 ضرب بمصر وصوت في خراسان 

عواء كلب على أوتار منــدفة               في قبح قرد وفي اســـــــتكبار هامان 

وتحسب العين فكيه إذا اختلفا               عند التنــــــــــــــــغم فكي بغل طحان 

إنها صورة ساخرة يرسمها ابن الرومي لهذا المعلم الذي لا يجيد في نظره الغناء ولا التعليم، فيجعل صوته القبيح الصاخب متفرقًا في الأمصار كناية عن الإزعاج؛ كأنه صوت الكلب ينبع من خلقة ذميمة ترتسم في هيئة مخلوق مستقبح الخلقة وهو القرد مستحضرًا خلق التكبر الذي كان به هامان مذمومًا في القرآن، ليزيد الصورة كاريكاتورية عبر رسمه للوحة البغل وهو يسحق بأسنانه طعامًا فيختلف لأجل ذلك فكان جيئة وذهابًا وصعودًا ونزولًا؛ ما يحمل المتلقي على هستيرية الضحك وهو يتخيل صورة هذا المعلم البائس وقد رسمته ريشة شعرية منقطعة النظير بهذه التلاوين والخطوط والهيئات المضحكة، ولننظر الآن إلى صورة المغني المسمى: جحظة “حيث ترتسم صورة كاريكاتورية أخرى لخلقته الذميمة، فيقول: 

تخاله أبدًا من قبح منظره             مجاذبًا وترًا أو بالعًا حجرا 

كأنه ضفدع في لجة هرم            إذا شدا نغمًا أو كرر النظرا 

يا لها من صورة نادرة في الشعرية العربية، ما أظن أحدًا من الشعراء قد سبق إليها ولا أتى بها بعد ابن الرومي، فهو ينقل صورة جحوظ العينين برسمة عجيبة، تحمل المتلقي على تخيل هذا المغني في وضعين صعبين أولهما جذب الوتر والثاني بلع الحجر وكلاهما يسببان بروز العينين وجحوظهما لتنضاف لوحة أخرى تجلي هذا الجحوظ يستمدها من عالم البرمائيات (الضفدع) وما يسم خلقته من جحوظ عينين لا ينكر، خاصة حين ينق ويخرج عينيه أكثر للنظر؛ ما يجعل اللوحة أقوى من حيث دقة التوصيف، ولننظر إلى لوحة لا تقل تفكها وسخرية عن سابقتيها حين هجا رجلًا أحدب الظهر كان يتطير منه كل التطير، فقال فيه واصفًا حدبه: 

قصرت أخادعه وغار قذاله            فكأنه متربص أن يصفعا 

وكأنما صفـــــعت قفاه مرة              فأحس لها ثانية فتـــجمعا 

إنها قمة من قمم الكاريكاتورية العالية، تصور قصر الأخادع في العنق، وغور القذال، وهي جمع مؤخر الرأس كخائف من الصفع على وجهه فتقوس اتقاء الضرب، فلما استشعر أنه مصفوع في المرة الموالية ازداد تحدبًا ليتكوم الجسد ككتلة من اللحم، إنه تصوير بارع للحركة والصورة معًا، كأنما ابن الرومي مخرج سينمائي يأمر ممثله أن ينجز حركاته بدقة وفي لحظات زمنية مضبوطة لترتسم المشهد حيًّا ومؤثرًا في نفس المشاهد، حقا إنها براعة شعرية تسامى بها الهجاء عند هذا الشاعر الرومي الكبير.

ولننظر إلى صورة كاريكاتورية أخرى يرسمها لصفة البخل ببراعة فذة يجعل فيها البخيل المسمى “عيسى” من شديد بخله أن يتنفس من منخر واحد ليحمل الفكر على تهيؤ مشهد لا يمكن أن يخطر لأحد على بال، مشهد إدخال الهواء وإخراجه من منخر واحد حفاظًا عليه حتى إذا استقرت الصورة في ذهن المتلقي فطن إلى مراد الشاعر من نعته للرجل بالبخل الشديد، فمن يبخل على نفسه بالهواء الذي هو مشاع بين الناس وباقي الكائنات وبه قوام الحياة كيف يكون صنيعه بما يملك من أشياء، إنها صورة غاية في التعبير عن خلق البخل لا إخالها تستقر في ذهن شاعر عربي إلا هذا الرومي العجيب الذي دانت له التصاوير وطوعت له الأخيلة الفريدة التي لم تقع لشاعر في ذهنه، ففاق بها أهل عصره في هذا الجانب تحديدًا، ولعل قصته الشهيرة مع البحتري كافية للدلالة على صحة مذهبي في براعة التصوير الكاريكاتوري الساخر عنده، فقد أراد البحتري أن يجاري نسق ابن الرومي في قصيدته الطائية في الهجاء، فقال له ابن الرومي: إياك والهجاء، يا أبا عبادة، فليس من عملك، وهو من عملي، فقال له نتعاون؛ وعمل البحتري ثلاثة أبيات وعمل ابن الرومي ثمانية فلم يلحق البحتري بابن الرومي.

لقد استطاع ابن الرومي أن يرسم لوحات كاريكاتورية ساخرة في شعرية الهجاء منحته الريادة الفنية في تاريخ الشعر العربي، وجعلت أي واحد يتهيب من لذغات لسانه وسلاطة قوله لتُفْسَحَ له الساحة الشعرية ويتسيدها بلا منازع أمام كبار عصره، الذين أدركوا قوته وملكته الخارقة في هذا الباب من الشعر الذي كان يعلو فيه ولا يعلى عليه، ليضع اللبنات الأولى للتشكيل البصري في القصيدة العربية عبر الرسم بالكلمات وينقلها من حرفية اللفظ إلى مشهدية الصورة عبر إخراج فني سابق على العصر أسهمت في بلورته ملكة شعرية نادرة في تاريخنا الشعري رسمت الطريق أمام شعراء العربية المحدثين للتعلم من مدرسة ابن الرومي؛ لإنتاج الفن الكاريكاتوري الناقد والمتهكم من الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي للبلاد العربية.

*كاتب مغربي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود