الأكثر مشاهدة

بقلم: عبدالسلام إبراهيم* لجأ الشاعر السعودي عبد الله الصيخان إلى وضع قصيدته R …

البناء الدرامي.. في قصيدة “قصائد البهو” لـ عبد الله الصيخان

منذ أسبوع واحد

46

0

بقلم: عبدالسلام إبراهيم*

لجأ الشاعر السعودي عبد الله الصيخان إلى وضع قصيدته “قصائد البهو” في قالب درامي؛ ما جعلها تضفي على أفقها الدلالي والشعوري تألقًا بطريقة لا تؤثر سلبًا على بنائها الفني، مستعينًا بالسرد وتوظيفه في تقنياته بما له من طاقة تصويرية تجسد رؤاه ورغبته في أن يحط بأجنحته على قالب آخر يستوعب أفكاره، وصولًا إلى قالب يحقق له التوازن؛ قالب درامي ساهم في التدفق الإبداعي والشعوري في آن واحد وساعد في الارتقاء بمستواه الفني. إن استيعاب قصيدة “قصائد البهو” للقوالب الدرامية مكنَّتها من اكتساب آفاق دلالية وجمالية مغايرة لتحث المتلقي لأن يتفاعل معها ويندمج مع اللا وعي الدرامي؛ ما يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والبحث عن الدلالات الجديدة التي أنتجتها درامية القصيدة.

يقول عز الدين اسماعيل: “صار التلاحم بين الشعور والتفكير هو المسلمة الأولى لكل عمل فني، سواء أكان شعرًا أم سواه، لذا فإن البناء الدرامي لقصيدة “قصائد البهو” ساهم بشكل كبير في تمكين الصيخان من استيعاب طاقاته الإبداعية الكامنة وإخراجها بشكل جمالي يلقى هوى لدى المتلقي. كما قام بتحطيم الحدود التي تفصل ما بين الشعر والسرد من أجل بناء نص شعري جديد يكون السرد إطاره العام والدرامية محصلته النهائية، تأتي الدرامية من الرضوخ لنزوع القصيدة للإفادة من التقنيات السردية التي تعلي من فلسفتها وجودتها وقدرتها التأثيرية، لأنها تخلق صورًا متماسكة تنتهج النسق السردي المتماسك بطبيعته.

جاءت قصيدة “قصائد البهو” بعنصر درامي مهم وهو نمو الحدث الذي يعتبر قلب الدراما، يحمل في ذاته الحبكة التي تحتشد بالشخصيات؛ “القدم التي تصعد الدرج”، و”صاحبة الجديلة”، و”الذين خرجوا”، و”الولد” و”المدن” و”المرايا” و”العصافير”، حتى يتجلى الوطن وعلمه الذي سقط منه السيف كدلالة على البحث عن النماء والتنمية من خلال النخلتين، ولأن الدراما تقوم على التخييل فقد استقت القصيدة من تلك الميزة فأكسبتها قوة؛ لأنها تحاول فهم قضية إنسانية صعبة مرتبطة بالوجود الإنساني وجدواه، تقوم على مناجاة الذات ومع العالم الخارجي المتمثل في بقية الشخصيات، بحثًا عن القيم الجمالية التي تخلق التناغم بين العالم الخارجي للإنسان وذاته. تحمل رؤيته يمتزج فيها الواقعي والافتراضي.

قدم تصعد الدرج

بخطىً ما لها صدى

يُفتح الباب، لا أحد

قدم تصعد الدرج  

يعتمد الشاعر عبد الله الصيخان في نصه الشعري “قصائد البهو” على مشاهد سردية متتابعة تمكنه من إنتاج نص يحمل دلالات متعددة مع البناء الشعري، فيفتتح قصيدته بــ “قدم تصعد الدرج” إذ يستهلها بخيط درامي يصور فيه نشوء الحدث من خلال القدم التي ليس لها صدى فيفتح لها الباب حيث لا أحد يقف أمامه، ذلك المفتتح يؤسس لدرامية مرتقبة، يبني الشاعر الدراما على غموض يتجلى في المقطع الأول الذي ما يلبث أن يعلن عن وجود امرأة تتدلى من شعرها الجدائل ويسقط الظلال من أجلها في وجود ملك يوقد جذوة السحاب كاستعارة درامية يساهم في نمو الحدث، فينشأ خيط درامي آخر.

كلما ذعذعت هبوب

قلت في ريحها مطر

فتسامقت نخلة

فذوى العذق وانكسر

إنها حالة فريدة يولد من رحمها الحزن يتعانق فيها الخيال مع الواقع لتخرج صورة شعرية تبدو فيها محاولات يبنى من خلالها أمنياته على هطول المطر لينمو النخل، فنجد أن عناصر الدراما قد توفرت بعنصر الزمن والشخصية ونوازعها وارتباكاتها وتفاعلها معه. في المقطع الثالث يكشف عن وجود المحبوبة التي طال غيابها ويحتاج لأن يجري معها حديثًا؛ تلك المعاني توجز الانكسار الإنساني في أعلى تجلياته؛ التفجر العاطفي الصارخ القادم من أعماق روحه.

خرجوا كلهم وجاء

وأنت يُتم أغنيه

صفق الباب خلفه

فتوحدت ثانية

رغم شعوره بالوحدة إثر مناجاته التي عبر فيها عن مأزق إنساني متفرد يكابد آلامه في مدن زجاجية بها مرايا حجرية يتم فيها بيع العصافير دون مناقيرها. ينمو الحدث حتى يصل إلى الذروة حيث توجد سبع دور هُدمت يعشعش فيها البوم بصوت تشترك فيه ناي مهشمة ويحذرها من المرور خوفًا عليها من الوضع القائم الذي أحدث بينهما فجوة عميقة فتسامقت في روحه حينئذ مشاعر اليأس. كان يسعى حتمًا إلى تغيير حالة منذ البداية تليق بمشاعره المتأججة وتتوالى المشاهد الدرامية التي يصفها الصيخان بشكل درامي.

هبط الليل بيننا

وذراعان في وساد

فضح الصبح سرنا

فتخفى بنا جواد

في هذا المقطع يتعاظم المأزق حينما يأتي الليل على العاشقين وهما متشابكي الأيدي، لكن الصبح يفضح سر الحب فانكمش جموح أحلامهما، متسائلًا باستنكار عما يضع حوض النعناع بين يده ويدها بدلالته المضمرة والتي تحيل إلى رغبة في اكتمال الحالة الشعورية.

تعتمد الدراما في قصيدة “بكائية الرمق الأخير” على التطور والنمو بشكل مطرد؛ ففي المقطع الحادي عشر يكشف لنا الشاعر عن بطله وهو فتى يانع يقف خلف بندقيته المحطمة في إيحاء بانتهاء معركته التي خاضها قديما لكن لا يزال وجهه مخضبًا بالدم برغم أنه يحمل على كتفيه الأوسمة التي حصل عليها. وفي المقطع التالي يصور لنا الوطن من خلال العلم، إذ يسقط منه السيف كدلالة على انتهاء الحروب وبقاء النخلتين مصدر النماء، لكنه يتمنى أن تكون له خيمة بها مراعي وقطيع من الذئاب يحرسون الحدود كنوع من الأمان؛ تلك المفارقة التي جاء بها الشاعر يحشد لها الشاعر الطاقة الشعرية الكامنة في حالة الترقب التي بدأت بها القصيدة، حيث القدم التي تصعد الدرج في محاولة منه لجعلها دائرية.

تحمل القصيدة المنولوج الداخلي الذي يلجأ إليه الشاعر للوصول إلى غايته بالتركيز على شخصيته للكشف عن بواطنها ومشاعرها وأفكارها ورغباتها ويكون ذلك المونولوج هو صوتين لصوت واحد، أحدهما صوته الخارجي الذي يتفاعل مع بقية عناصر الدراما سواء كانت شخصية البطل أو الزمن أو المكان اللذين تجسدا في القصيدة، أو صوته الداخلي الخاص الذي لا يسمعه أحد غيره وهو الذي بدأ به القصيدة. ذلك المنولوج المتأزم ينطلق من ذات الشاعر ليصل صداه إلى المتلقي، وينعكس ذلك على الاضطرابات والتغييرات على الشخصية الدرامية.

تتفاعل الشخصية الدرامية في القصيدة مع الزمن الذي يسهم في تمددها ويزيد من انفعالها كما تؤثر الشخصية فيه، فتجعله يتآمر مع  الآمال وانكسارها، ونكتشف أن ثمة شقاق بين الشخصيتين؛ شخصية البطل أو وشخصية المرأة، ذلك الشقاق تولد من نظرة كل منهما للأخر، إذ يحاول التقرب منها لكن الظروف تقهرهما، أي يحاول أن يكون متفائلًا لكنه يظل مترقبًا حتى المقطع قبل الأخير لتصل الدراما إلى الذروة، تلك الذروة هي التي وصلت بالبناء الدرامي إلى الاكتمال وبالحالة الشعورية إلى نهاية القصيدة وبالسرد إلى غايته.

 يتفاعل البناء الدرامي مع الزمن والمكان ويتشكل بعدة أشكال، كما نجد الصراع بين ذاتية الشاعر والمظاهر الدرامية الخارجية، ما يساهم في تشكيل البنية السردية للقصيدة. إن تطور الحدث في القصيدة قد مكَّن الشاعر من بلوغ غايته في الوصول إلى ذائقة المتلقي الذي يتخيل الأحداث وكأنه أمام خشبة المسرح.

لجأ الصيخان إلى الوصف بصفته أحد ركائز السرد بالتفاصيل الدقيقة التي تشكل مظهرًا من مظاهر القصيدة المعاصرة ويساهم في تصاعد الأحداث ونموها. جاء العنوان “قصائد البهو” بوصفه العتبة الأولى يحمل في ثناياه الدراما واختزال فحواها، عبارة عن حالة عشق يكتب عنها قصيدة تعتمد على ألفاظ الوجود الإنساني من خلال الجدلية الذاتية التي تستقيم بلفظ “قصائد” وليست قصيدة واحدة. يعلن العنوان عن متن شديد الصلة به ويؤسس لعناصره، ومن الناحية التركيبية تعرب “قصائد” خبرًا لمبتدأ محذوف مضافًا إليه والبهو مضافًا إليه. جاء المقطع قبل الأخير ليعلن عن وجودية الشاعر التي يبنيها بالآمال والمقطع الأخير يسير في شكل دائري لديمومة الحالة، ليكتمل البناء الدرامي دون أن يفتقر لأي عنصر من عناصر الدراما وليؤكد الشاعر في النهاية على طغيان حالة من الخيار الإنساني الذي يربطه بمسألة الوجود، فيضفي على القصيدة جدلية تربك المتلقي وتجعله متجاوبًا مع مضمونها ودراميتها.

تجسد التجرية الشعرية للصيخان مخاوف الإنسان المعاصر وما يكابده من أحزان بسبب مشاعر العشق وما قد تسببه للعاشق ووجوديته، مستغلًا السرد لتكوين قصيدة مكتملة الأركان الدرامية ويحولها إلى مسرحية تلجأ إلى الشعر لتتحول إلى ملحمة تبهر المتلقي وتؤثر فيه. إن قصيدة “قصائد البهو” تحمل في ثناياها دلالات أعمق؛ ما قد يبدو في سطورها القليلة وتشكل عالمًا قائمًا بذاته.

*روائي مصري

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود