الأكثر مشاهدة

فاطمة الشريف* “يتحدى ما بعد الحداثيين إيمان عصر التنوير بالعلم والتكنولوجي …

أدب ما بعد الحداثة.. رؤى القرن الواحد والعشرين

منذ 4 أشهر

58

0

فاطمة الشريف*

“يتحدى ما بعد الحداثيين إيمان عصر التنوير بالعلم والتكنولوجيا كأدوات للتقدم البشري. وينظرون إلى العقل والمنطق على أنهما مفاهيم، لا تصلح إلا ضمن التقاليد الفكرية الراسخة”. Britannica

قاد عدد من الكتّاب والشعراء الإنجليز والأمريكيين حركات أدبية في الفكر البريطاني وروح الحداثة الغربية، فشكلت أعمالهم عمقًا في التجربة الذاتية عبر توظيف العلوم الإنسانية؛ مثل الفلسفة، والنظرية السياسية، والتحليل النفسي، منفصلين عن الأشكال التقليدية السابقة سعيًا وراء تقنيات وموضوعات سردية جديدة، ما منح الحداثة فترة ازدهار وتجديد إبداعي.

في أدب الحداثة  هنالك حس جاد حيال قبول الفوضى والدمار كرمز لانهيار التقاليد الكلاسيكية في الأدب الإنجليزي، ما جعله يتسم بالفردية والتشاؤمية نتاجًا للدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، الذي عانى منه الكثير من الكتاب شخصيًا في ساحة المعركة، ولعل فريدة تي إس إليوت (T.S.Eliot) الأرض اليباب مثال للقصيدة الإنجليزية الحديثة وحركة الحداثة وما بعدها، كما قامت الروايات الحداثية بتحطيم الأعراف التقليدية، مثل الأدوار الاجتماعية والثقافية بين الذكور والإناث، موظفة تقنية التشظي في البنية والأسلوب والموضوع  (Stylistic and thematic fragmentation) والشخصيات والسرد؛ ما صنع نصوصًا متعددة الأجزاء في موضوعات الفقد والمنفى، ورفض الحقائق التقليدية ورموز السلطة، مع تقديم إحساس جديد بالواقع يقوم على الحقائق النسبية والمؤقتة.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ أدب ما بعد الحداثة يتشكل كتحول ثقافي شامل، اتسم بمزيد من اللعب والسخرية والتشكيك في المسلمات، مؤديًا إلى رفض الحقائق المطلقة، مؤكدًا على نسبية المعنى، وذاتية التأويل، ونظر إلى الواقع من منظور يمزج بين الثقافة الرفيعة والشعبية، وبين الحقيقة التاريخية والخيال الأدبي.

لقد تميز أدب ما بعد الحداثة بقطيعة واضحة ومقصودة مع التقاليد الفكرية والفنية السابقة، وجاء كردة  فعل ضد المعتقدات الدينية والسياسية والاجتماعية الراسخة. ومن أبرز المبادئ التي حاكى أدب الحداثة: الاعتقاد بأن الواقع يُبنى من خلال إدراك الفرد وتفسيره مع نفي وجود حقيقة مطلقة، والتأكيد على نسبية المعنى، وانعدام الشعور بالانتماء للتاريخ أو المؤسسات، حيث تسود تجربة الاغتراب والضياع واليأس. في الوقت ذاته، يظهر الدفاع عن الفرد والاحتفاء بقوته الداخلية كموقف مضاد، مع الإيمان بعشوائية الحياة والاهتمام المتزايد باللا وعي كعامل مكوِّن للسرد والهُوية.

تبنّى أدب ما بعد الحداثة أساليب تعبير جديدة تؤسس لهويته الفنية والفكرية، منها: اللعب (Playfulness)، السخرية (Irony)، المحاكاة الساخرة والتقليد الأسلوبي (Parody/Pastiche)، الفكاهة السوداء (Black Humor)، العبثية (Absurdism)، تقنيات ما وراء السرد (Metafiction)، وأخيرًا التلاعب باللغة والمعنى (Play with Language and Meaning).

وقد أسفرت هذه الأساليب عن ظهور نصوص وأعمال أدبية هيمنت على التجربة الإنسانية بمشاعر الاغتراب والقلق الوجودي، مع تركيز واضح على الذات واللا وعي. وتميزت هذه الأعمال بما يُعرف بالتناص أو “التداخل النصي الهجين” (Intertextuality)، الذي منحها روحًا سردية جديدة، عبر دمج عناصر من نصوص وأنواع أدبية متعددة في بنية سردية واحدة.

من أبرز الأمثلة التي تجسّد هذا التداخل النصي:

  1. رواية The French Lieutenant’s Woman للكاتب ( John Fowles) مثال على التناص مع الرواية الفيكتورية.
  2.  رواية Wide Sargasso Sea  للكاتب  (Jean Rhys) تناص مع رواية  Jane Eyre.
  3. رواية Cloud Atlas  للكاتب الإنجليزي (David Mitchell ) التي وظفت الخيال العلمي في تكوين ست حكايات مترابطة، تمتد من القرن التاسع عشر إلى المستقبلٍ البعيد و انهيار الحضارة، الرواية مثال بارز على التناص (intertextuality) والمحاكاة الأسلوبية (pastiche)، موظفة أصواتًا سردية مختلفة لكل قصة، من اللغة الكلاسيكية إلى العامية المستقبلية المشفّرة، وتحولت إلى فيلم عام 2012.
  4. مسرحيات صموئيل بيكيت (Waiting for Godot).
  5. رواية ( Flaubert’s Parrot ) لجوليان بارنز (Julian Barnes).
  6. في رواية Jeanette  Winterso ) Oranges Are Not the Only Fruit) موظفة السيرة الذاتية والخيال.

ترى ليندا هاتشون في كتابها A Poetics of Postmodernism 

أن أدب ما بعد الحداثة ممارسة أدبية وفنية تعيد النظر في التاريخ والمعنى عبر السخرية والوعي الذاتي والتناص، معتبرة إياها وسيلة لفهم بناء الحقيقة ثقافيًا ولغويًا. مؤكدًا أن من خلال مفهوم “ما وراء القص التأريخي”، تعيد الروايات الحديثة كتابة التاريخ بكشف تناقضاته، وإشراك القارئ في صناعة السرد، كما في روايات:

 The English PatientMidnight’s ChildrenCloud Atlas.

وتصف هاتشون هذا النوع من الروايات التي تدمج بين التاريخ والخيال بـ”ما وراء القص التأريخي”. 

في حين يرى فريدريك جيمسون في كتابه Postmodernism, or, The Cultural Logic of Late Capitalism 

أن ما بعد الحداثة ليست مجرد مرحلة تاريخية، بل تجربة ثقافية مهيمنة تطغى على الفن والاقتصاد والسياسة، مشيرًا إلى أن الحداثة كانت ترتكز على العمق والذات الواعية والسعي نحو المعنى، بينما تمثل ما بعد الحداثة قطيعة مع هذه المفاهيم، حيث تسود السطحية، وتتشظى الهوية، ويغيب الإحساس بالتاريخ. ففي حين كان الفن الحداثي تعبيرًا نقديًا فرديًا، يتحول في ما بعد الحداثة إلى محاكاة بلا أصالة (Pastiche)، ويذوب في ثقافة الاستهلاك والعولمة، مؤكدًا أن ما بعد الحداثة ليست مجرد أسلوب فني، بل تجسيد لمنطق الرأسمالية المتأخرة، حيث تختلط الثقافة بالاقتصاد، ويُختزل الفن والهوية في شكل سلعي قابل للتداول.

ختامًا، فإن أدب الحداثة الذي يؤرخ من عام 1945 إلى الوقت الرهن امتزج كثيرًا بالثقافة والفنون والاقتصاد، فارًّا من القيود الكلاسيكية والتقليدية، مؤكدًا على أن الأدب والفنون ما إلا تجارب إنسانية فريدة ترفض التبعية والتقليد، وتميل إلى التجديد والإبداع والحرفية والعولمة، وأكثر من ذلك أعتقد أن أدب ما بعد الحداثة بتجاربه المتعددة وخلفيته المتباينة أحدث تحوّلًا جذريًا في الأدب العالمي، مقدمًا أجناسًا سردية تتسم بالتشظي، وتعدّد الأصوات، والانفتاح على الثقافات المهمّشة، والخيال العلمي، ما مهّد الطريق لظهور أدبٍ عالمي يُعرف اليوم بأدب تعدد الثقافات، حيث تتقاطع الهويات وتتداخل السرديات العابرة، ليس للدول فحسب، بل  للقارات.

المراجع

Postmodernism by Brian Duignan The Editor  of Encyclopedia Britannica

محاضرة منشورة للجامعة أم القرى بعنوان:

Introduction To British Literature: Overview

مختصرات من الكتابين بتقنية AI

Poetics of Postmodernism: History, Theory, Fiction by Linda Hutcheon   

Postmodernism, or, The Cultural Logic of Late Capitalism by Fredric Jameson

صورة صدر المقال غلاف لرواية أدب ما بعد الحداثة بأسلوب ما وراء القص والتأريخ. (Historiographic Metafiction)   

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود