مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

 د. هاني الغيتاوي* ضرب لنا بثيوس وسرفانتس مثلًا في كيفية استلال النور من براثن ا …

فلاسفة وأدباء.. في المنفى ووراء القضبان (2)

منذ 4 أشهر

128

0

 د. هاني الغيتاوي*

ضرب لنا بثيوس وسرفانتس مثلًا في كيفية استلال النور من براثن العتمة، وأن المرء إذا عرف نفسه وتصالح معها يستطيع أن يكون سيدًا على الدوام، ولا تحول بينه وبين هذه السيادة ظروف القهر والاستعباد؛ لأن التحكم في العالم الداخلي لهذا المرء لا يستطيع كائن مهما كان أن يتحكم فيه طالما هو لم يسمح بذلك، فالسيطرة والهيمنة على هذا العالم الداخلي تجعل رؤيته نقية واضحة تحلق به بعيدًا خارج هذه الظروف، فلا تحول القضبان والأسوار العالية من تدفق هذه الرؤية ونفاذها إلى العالم الخارجي لتؤثر فيه وتترك الأثر، بل تكون التجربة الإنسانية خلف القضبان هي رحلة لفهم العالم الخارجي لصاحب التجربة، وخير تجسيد لذلك “ميرسو” بطل رواية “الغريب” “لألبير كامو” الذي لم يطلع على خبايا ذاته، ولم يتعرف على نفسه إلا عندما كان خلف القضبان، ففي السجن فهم ذاته وتعرف عليها وفهمها فهمًا عميقًا، جعله يتماهى مع العالم الخارجي وفق تصوراته النابعة من عالمه الداخلي، هذا العالم الذي كان له التأثير في أفكاره وتصوراته ومشاعره وخياله، حتى أحلامه، فالتجربة داخل السجن أكسبته حسًا إنسانيًا بلغ ذروة الشفافية جعلته يستمتع بالحياة رغم ما يكتنفها من صعوبات وآلام.

“ميرسو” ألبير كامو كتجربة حلقت به بعيدًا، جعلته يفضل العيش في محبسه لما لمسه فيه من راحة نتجت عن فهمه لذاته وإحاطته بها وفهمها فهمًا عميقًا، هذا الفهم للذات وسبر غورها والتعرف عليها والإحاطة بها والتعرف عليها بعمق يتجسّد في أديب روسيا الخالد “فيدور دوستويفسكي” الذي يعتبر –بحق– الأنموذج المتفرد في فهم النفس البشرية من خلال الغوص في عمقها وتشريحها وتصويرها بأدق تفاصيلها، وتصوير معاناة الإنسان وما يكابده من آلام ومشقات في هذه الحياة، الأمر الذي جعله مثالًا حيًا يحتذى به في هذا المسار الإنساني، فاقتفى أثره وغزل على منواله وعلى طريقته فلاسفة وأدباء اشتهر عنهم الغوص في الذات الإنسانية، وتناول الموضوعات التي تتعلق بالوجود الإنساني، كالإيمان والحرية ومفهوم العدالة والأخلاق وغيرها من القيم، ويعد “سيجموند فرويد” و”جان بول سارتر” من أبرز هؤلاء الذين تأثروا بفكره المنثور في تُحَفهِ الأدبية الخالدة التي جسّد فيها معنى الإنسان ومعنى الوجود. 

هذا العراب لفهم النفس البشرية، كان وراء عبقريته في ذلك، التجربة القاسية التي عاشها في السجن، فلقد كان قاب قوسين أو أدني لينفذ فيه حكم الإعدام رميًا بالرصاص، وفي أثناء تحركه في اللحظات الأخيرة لمواجهة مصيره استبدل حكم الإعدام بالنفي إلى “سيبيريا” من رحم هذه اللحظة كانت البداية لتغيير قدر دستويفسكي، ففي هذه اللحظة الفارقة بين الحياة والموت وما صاحبها من أحاسيس كان دستويفسكي، الذي يعبر عن ذلك بقوله: “لو أتيح للإنسان أن يعيش مدى الحياة على قمة عالية لا يتسع له فيها سوى موضع قدم، لفضل هذه الحياة مئة مرة على الموت”، وهو في ذلك يصور العمق الإنساني في تعاطيه مع الموت، وكيف يحب الإنسان الحياة وإن كانت مليئة بالمشقات والآلام، يظهر ذلك الأمل وحب الحياة في إحدى رسائل دستويفسكي لأخيه يقول فيها: “أقسم لك يا أخي أنني لن أفقد الأمل وسأحتفظ بروحي وفؤادي نقيين صافيين، وسأولد من جديد بشكل أفضل، ذلك هو كل أملي، وتلك هي سلواي الوحيدة“. 

وبعد نجاته من الإعدام ، يتوجه إلى غياهب السجن في سيبيريا، الحياة الأخرى التي ستشكل وجدانه، وترهف مشاعره، وتخلق منه إنسانًا، فمن رحم الآلام التي كابدها في السجن، ومن خلال رؤيته لعالم المسجونين، ومشاهداته لعذاباتهم وآلامهم، تفجرت طاقاته الإبداعية، وتشكلت ملامح أدبه الإنساني الذي يغور في أعماق النفس الإنسانية، ويعاين ما لم يكن يستطيع معاينته من عمق للنفس الإنسانية خارج أسوار هذا السجن، فخلال أربع سنوات قضاها دستويفسكي وراء القضبان ملأت وجدانه بملاحظات حية صوّرها لنا بمداد روحه في أحداث وشخوص رواياته الأدبية الخالدة، فكانت رواية “مذكرات من البيت الميت”، هذه الرواية التي يعبر فيها عن مأساة القابعين وراء القضبان، وصوّر حياتهم اليومية التي تدور بين الإذلال والامتهان والتعذيب الجسدي والخواء النفسي والروحي، الأمر الذي كان يدفع بالبعض من المسجونين بالإقدام على الانتحار أو قتل غيرهم، كذلك صور بيئة السجن غير المناسبة والقهر المسلط على حياة المسجونين الذي كان يودي بالبعض منهم إلى الجنون، كما عبر بأسلوبه الرصين وحسه المرهف عن الحرية والتشبث بالأمل والحياة، وكان الراوي في هذه الرواية والبطل فيها “ألكسندر بتروفيتش”، والحقيقة كان دستيويفسكي هو البطل واتخذ من إلكسندر راويًا يسرد المأساة التي رصدها دستويفسكي، لاقت هذه الرواية رواجًا لدى المهمشين والمعذبين والفقراء، وتأثر بها كل صاحب وجدان ومشاعر، وكان من تأثيرها وصداها الواسع أن صدر قانون عام 1863 في روسيا يلغي العقوبات الجسدية. 

لقد كان التجربة المريرة والمأساة التي عاشها دستويفسكي خلف القضبان بالغ التأثير في حياته قاطبة وانعكس ذلك في أدبه، ما جعله أفضل من تناول النفس الإنسانية وجعل أدبه خالدًا وعلى قمة الأعمال الأدبية التي تناولت الإنسان بكل حالاته وتصوراته. 

ومن دستويفسكي إلى المفكر والأديب محمود أمين العالم، الذي يعد رائدًا من رواد الفكر في مصر، حيث عايش تجربة إنسانية في محبسه في خمسينيات القرن العشرين، حيث تم اعتقاله بتهمة سياسية، واقتيد إلى غياهب السجن، وفي داخل السجن يصور لنا العلاقة بينه وبين سجانه، وهي علاقة ما بين النور والظلام، العلم والجهل، استطاع فيها محمود أمين العالم أن يبدد فيها ظلام الجهل، من خلاله أسلوبه الرقيق وفهمه لدقائق الأمور وبصيرته التنويرية التي ازدادت شفافية وتساميًا مع المعاناة التي كابدها داخل جدران السجن وباحته التي كانت قدميه تنزف دمًا وهو في طريقه إلى الصخور المأمور بتكسيرها، كان يصاحبه في هذه المسافة المؤلمة إلى الصخور سجانه الذي كان يلهب جسده بالسياط حتى الوصول إليها، وعندما كان يستعد العالم لكسرالصخور، كان لا يقدر عليها، فيطلب العون من السجان، فيجد منه إباءً وتمنعًا، بل كان يضربه بالسياط، ويظل العالم ينزف في ألمه بين صخرة لا تحطم، وبين سجان يضيق عليه الخناق ويلهبه بالسياط، يظل الوضع هكذا حتى تطفل الشمس بالمغيب ويغدو المسجون وسجانه إلى السجن، يتعهد المسجون السجان فيلمس خبيئات مكامن إنسانيته، ويجلو من عليها الغبش والأدران، من خلال محو الجهل بالتعليم، والارتقاء بالروح بالتسامي بها برفدها بتعاليم الدين والجمال والمحبة والسلام، فاستطاع محمود أمين العالم أن يحرك الساكن، ويلقي بالحجر في الماء الراكد، فاستطاع بنبله وإنسانيته أن يزحزح من عقيدة السجان وأن يهدهد من غلوائه في تعامله المتشدد معه، واعتباره من أعداء الوطن والدين كما أملي عليه، ووفقًا لتصوره وأفقه المحدود الذي استغله مرؤوسيه وقواده، فراح من هذا المنطلق وتلك العقيدة يسوم مسجونه سوء العذاب بجلد ظهرة بالسياط ومعاملته بالازدراء والسوء، ولأن محمود أمين العالم يفطن إلى ذلك، فحمل على عاتقه توعية هذا السجان، فشرع في تعليمه أبجديات القراءة، واستطاع بعد شهور محو أميته، وملأ وعيه وخاطره بالمفاهيم الصحيحة وقيم المحبة والسلام، فتشرّب السجان هذه التعاليم وتذوق حلاوة التعليم، وجعلته القيم أكثر مرونة ونبلًا في التعامل، حتى أنه ساعد محمود أمين العالم في التعامل مع كسر الصخور، وأرشده إلى كيفية كسرها بسهولة ودون عنت ومشقة، فيأخذه إلى الصخور ويعلمه بأن للصخرة سبعة أبواب، وفي واحد منها تكمن نقطة الضعف، فتنكسر الصخرة بسهولة ويسر، بعد المعاناة التي كان يعانيها محمود أمين العالم في كسرها.

وفي هذا السياق تقول الشاعرة والكاتبة فاطمة ناعوت، إن محمود أمين العالم ليس من كاظمي الغيظ والعافين عن الناس فحسب، بل هو من المحسنين، فتعامله مع سجانه الذي يسومه سوء العذاب، لهو أجمل الإحسان، لذلك عندما دهشت من معاملة محمود أمين العالم مع سجانه، بدد دهشتها بقوله “الأمر بسيط، كلٌ منا يؤدي عمله، هو يجلدني لأن قادته أفهموه أني عدو الوطن والدين، وواجبه أن يعاقبني لأنه يحب الوطن ويحب الدين، وأنا أقوم بدوري وأعلمه.

لقد كان محمود أمين العالم إنسانًا بديعًا مرهف الحس، مجلو النفس والضمير، ازدادت رفاهيته، وسمت نفسه وروحه أكثر وأكثر وراء القضبان، فاتخذ من سلوكه الإنساني سلوك نضال ومقاومة لنشر الوعي ونشر المحبة والسلام. 

*كاتب مصري

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود