مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.عزالدّين عناية * حاز مبحث تطوّر العلوم في الحضارة العربية والإسلامية اهتمامًا …

قراءة سوسيولوجية.. في تطوّر العلوم لدى المسلمين

منذ شهر واحد

43

0

د.عزالدّين عناية *

حاز مبحث تطوّر العلوم في الحضارة العربية والإسلامية اهتمامًا ملحوظًا في الدراسات الغربية، ضمن هذا السياق يأتي كتاب الباحث الإيطالي غولييلمورينزيفيللو “الإسلام وتطوّر المعارف العلمية والتقنية”، بوصفه محاولةً لرصد تلك المنجَزات وتتبّع مساراتها وتقفّي محفّزاتها. يُفرد المؤلف منذ مطلع كتابه، فصلًا للحديث عن بدايات الترجمة، بوصفها مفتاح عصر التحول العلمي العربي، حيث مثّل القرنان التاسع والعاشر الميلاديان عمق التطور والاستيعاب للثقافات المغايرة.. وقد أطلّ مع تلك الحقبة ملمح ثقافة تعدّدية، اُستهلّت بالبحث عن علوم الأوائل، عبر الحرص على اكتشاف تراثات الإغريق والفرس والهنود، وتعريب مختارات منها وتوظيفها في الفروع المعرفية الناشئة.
وتبعًا لهذا الدور مثّلت الحضارة الإسلامية الصاعدة الوريث لمدرستي أثينا والإسكندرية، ليس في المجال الفلسفي فحسب، بل في المجالات العلمية أيضًا، من خلال الانشغال بترجمة المؤلفات الرياضية والطبية والفلكية.. وهو ما خلّف حوافز مهمّة في نمط التفكير وفي المنحى التجريبي. كانت التجليات بارزة في الحياة المعيشية والعمرانية، وفي أنظمة تسيير دواوين الدولة والمؤسّسات العامة. وكما يرصد الباحث، مثّلت مظاهر الاشتغال العلمي على اللغة، وتفكيك النصوص والسِّير، إلى جانب تتبّع حراك المجتمعات والحضارات، عوامل فاعلة في صياغة العقل العلمي والمجتمع المتحضّر.
وفي تطلّعِ المسلمين الأوائل إلى بناء  مجتمع العلم، أبرزَ الكاتب أشكال استيعاب الفكر المغاير بوجهيه العقلي والتقني، من خلال بعث مؤسسات الترجمة والتعليم وإشاعة المعارف على نطاق واسع، معتبرًا الباحث رينزيفيللو الفيلسوف الكِندي المنشئ والمؤسس لأسس المعارف العلمية والفلسفية عند العرب.

2

وضمن عمليات التشييد للمجتمع العلمي، يُبرز الباحث أن انطلاق العرب في التعامل مع الآخر، كان على أساس ضوابط أرساها الكندي، من خلال تحديد ما قاله الإغريق بدقّة، وفرز النقاط الواهنة فيه، ومحاولة إيجاد حلول لها أو تصويبها، للوصول إلى إتمام ما بقي منقوصًا لدى القدماء.. غدا هذا الاشتغال الذي ضبطه الفيلسوف الكندي تقليدًا في مجمل التفرّعات، في الطبّ والفلك والحساب. وقد أضفى أوائل المعنيين الفلسفة الإغريقية على المفاهيم الفلسفية المورَّدة، صبغة عمَليّة إجرائيّة، لتخرج الفلسفة من طابع التجريد النظري الذي طبعها إلى طابع التنزيل العملي، وهو ما تجلَّى في النظر إلى قضايا الدين والسياسة والاجتماع والتاريخ وما شابهها.

وفي مسعى للإمساك بالعوامل المحفّزة للبحث العلمي، يبرز الباحث رينزيفيللو أنّ القرآن الكريم قد شكّل عنصرًا حاسمًا في الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الثقافة المكتوبة، لِما أسهم به في ترسيخ تقاليد مستجدّة في شتى المجالات.. ولتغدوَ العربية اللغة العلمية والإدارية بشكل متدرّج في كثير من الأصقاع التي بلغها المدّ الإسلامي.. فقد كانت العناية المبكرة بالعربية حافزًا مهمًّا للتعامل العلمي مع اللغة. بوصف العربية لغة ذات طابع قدُسي، وتتطلّب عناية أوفر. وهو ما تجلى في تصنيف المعاجم، وإرساء القواعد التي ينتظم بها الكلام العربي الفصيح.. إذ أسهمت “عَلْمَوَة”اللغة في ترسيخ تقليد البحث العلمي في عدة مجالات، لاسيما في تنقية المرويات، بما انعكس جليّا في تطور علم التاريخ.
ودائمًا، ضمن السعي للإمساك بالعوامل المحفّزة للبحث العلمي، شدّد الباحث على أنّ نشأة العلوم جاءت من داخل الحاجات المرتبطة بالنصّ المقدس، سواء مع تطوّر علوم الشريعة أو مع ترسّخِ علوم اللغة، أو غيرها من علوم الوسائل الأخرى.. كانت المفاهيم الدينية في الميراث، والزكاة، وأداء الشعائر على أحسن وجه، حوافز ضمنية لاكتساب المعارف وتطويرها.
وقد كان لاكتساب المسلمين فنّ صناعة الورق، وتصنيعه في عدّة حواضر في بلاد الإسلام، على إثر أسْرِ مجموعة من صنّاع الورق الصينيين، الأثر البارز في انتشار المعارف المترجَمة والمنجَزة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. هذا وقد تعزّزت صناعة الورق وتنوّعت مواد تصنيعه بحسب الحاجة والدور. فعلى سبيل الذكر، بلغت أعداد مخابر تصنيع الورق، في سمرقند وأحوازها، خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين 42 مخبرًا.

3

وانتشرت تلك الصناعة في دمشق وبغداد والقيروان وفاس، وما إن أطلُّ القرن العاشر، حتى بلغ انتشار نقاط التصنيع الأندلس وصقلية.. كما ساهم تطور تلك الصناعة في انتشار العلوم الدينية، والعلوم العقلية، وعلوم الآلة في أوساط العرب، بما يعني انتشار الثقافة العلمية في النسيج الاجتماعي.
وفي سعي المسلمين الجاد إلى بناء مجتمع علمي، وضعت التحولات الجديدة الجماعات الناشئة مع الفتوحات أمام حاجة تطوير التقاليد القديمة، في العمران والإدارة والجيش والاقتصاد، أي بما يلبّي حاجات المجتمع الجديد.
كان للمُثل الخُلقية، على المستويين الفردي والجماعي، وبالمِثل المفاهيم الاجتماعية المستحدَثة والنواميس المتَّبعة، الدور في دفع التحول نحو مجتمع علمي، وهو ما برز في الحثّ على تشكيل تميّزٍ حضاري جديد بدت ملامحه تتجلّى في منجزات علمية وتقنية مطلوبة من فئات عدة. ورغم ظهور الخلافات السياسية في القرون الأولى، والانعطاف نحو أشكال من الاستقلال السياسي في المشرق والمغرب، لكنّ البنية الاجتماعية والتشريعية والخُلقية بين المسلمين بقيت متماسكة، ما يَسّرَ ظهور ما يشبه التحولات العالمية، التي مسّت المبادلات التجارية والمعرفية في إمارات وسلطنات مترامية الأطراف.
خلقت تلك الأوضاع وحدة اقتصادية في شتى أرجاء العالم الإسلامي، رغم الخلافات والنزاعات بين مراكز الحكم.
ليس موضوع متابعة تطوّر العلوم والتقنيات في التاريخ العربي مع رينزيفيللو مبتكَرًا، إنّما ينضاف إلى سلسلة الدراسات والأبحاث التي تطرّق إليها باحثون آخرون، لكن الجديد في بحث الرجل، حرصه على الإلمام بالمتغيرات الذهنية والفكرية، والتقاليد المؤسسية والمعرفية التي ألمّت بالعرب والمسلمين مع انبلاج عصر الإسلام، وهو ما بدا في إنشاء الحواضر الجديدة:
القيروان، المهدية، فاس، القاهرة، ناهيك عن توسّع رقعة المدن القديمة إلى مساحات غير معهودة.. انطلقت ثورة عمرانية، تبعها اكتساب تقنيات قديمة وتطوير أخرى جديدة، في إنشاء المساجد والقصور والحمامات ومدّ الطرقات وبناء الأسوار. فقد لمس المسلمون الحاجة إلى ضرورة تجاوز التقنيات القديمة إلى تقنيات جديدة، تلبّي متطلّبات التطوّر المجتمعي الحاصل.
حرص الكتاب على رصد مختلف التقاليد المعرفية، وذلك بغرض الوصول إلى منابع التحوّل الذهني التي قادت إلى نهضة علمية وتقنية.

4

نرى المؤلف أحيانًا يتابع تطوّرَ أنواع من المعارف، قد تبدو بعيدة عن الشأن العلمي، لكنّه يتلمّس من خلالها أصول الذهنية الجديدة التي أضحت حاضرة لدى أتباع الدين الناشئ.. بما أثّر على مختلف الجماعات المستظلّة بظلّه، في تعاطيهم مع الكون والحياة، ومن ثَمّ في إبداعهم العلمي وابتكارهم التقني. لقد دأبت الدراسات السالفة على تناول التطوّر العلمي الحاصل لدى المسلمين في قطاع محدّد أو في صناعة بعينها، مع الباحث رينزيفيللو توسّعت هذه المتابعة لتشمل تفرّعات مختلفة. انطلق بالبحث في التحولات الفلسفية التي ألمّت بالمجتمع، وفي نظرته إلى ذاته وإلى العالم، ثم تابع تلك التحولات في مجالات عدة، ليخلص إلى أنّ ما طرأ على الجماعة المسلمة، التي أضحت إمبراطورية مترامية الأطراف، هو تحوّل معنوي وعملي في الآن نفسه.
حاول المؤلف أن يصل إلى جملة من الخلاصات، مفادها أنّ الإسهام الذي قام به العرب والمسلمون في تطوير العلوم، هو إسهام أصيل وجليل ومبرهَن على رفعته من خلال جملة من المنجزات والمبتكرات، لذلك بدت الحلقة الإسلامية ضرورية في فهم مراحل تطور العلوم على نطاق عالمي.

الإسلام وتطوّر المعارف العلمية والتقنية (القرن الثامن. م- القرن الثاني عشر م).
المؤلف: غولييلمو رينزيفيللو.
منشورات: نوفا كولتورا، روما- إيطاليا، 2025.
(الكتاب صادر باللغة الإيطالية).

* كاتب تونسي 

الكلمات المفتاحية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود