الأكثر مشاهدة

رضوان الغامدي* تجربة الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن (رحمه الله) حول المدن تمثل ر …

أنسنة المدن في شعر بدر بن عبد المحسن

منذ أسبوعين

102

0

رضوان الغامدي*

تجربة الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن (رحمه الله) حول المدن تمثل رحلة شغف وتأمل في أحضانها، فهو لا يراها كأماكن جغرافية فقط، بل كأرواح حية، تتنفس وتبكي وتهمس، وتدعوه لأن يكتشف ذاته من خلالها. نلمس في قصيدته حسًّا فريدًا يذوب بين حدود الجغرافيا ونبض العاطفة، فيصبح المكان ذاتًا تُناغي الشاعر وتكشف له وجوهه الخفية.
“يالمدينة علميني من أكون
حي فيك وكل ما فيني فنى”

الشاعر هنا يتوسل للمدينة، فهو يضع أمامها نفسه ككائن حي يمتلئ فقط من وجودها. هذا التوسل ليس مجرد كلام عابر، بل هو طلب لإعادة اكتشاف ذاته من خلال عينيها. عندما يقول:
“كل ما فيني فنى”،
نرى كيف أن الشاعر يذوب في المدينة، ليصبح جزءًا منها؛ إنها ليست مكانًا يمر فيه، بل هو مكان يحتويه.

ثم:
“إن دخلتك رحت أدور بك عيون
وإن تركتك رحت أدورني أنا !”

يتجلى هنا صراع داخلي؛ فالمدينة جزء من روحه وليست مجرد مكان يرتاده. إنه في حالة دائمة من البحث؛ إذا دخل المدينة، يبحث عن شيء فيها يربطه بها، وإذا غادرها، يفتقد ذاته ويشعر كأنه تائه عنها، لأن المدينة ليست فقط موطنًا بل هوية تذوب فيها روحه.

وللرياض، يقول:
“آه .. ما أرق (الرياض) تالي الليل”
“أنا لو أبي .. خذتها بيدها .. ومشينا”

هنا، الرياض وأن كانت هي العاصمة، لكنه يراها حبيبته التي يلتقيها في أواخر الليل، حيث يكتسي الليل رونقًا خاصًا يليق بجمال المدينة، ليجعلها تتراقص في مخيلته كأنثى وديعة، يمشي معها بهدوء، يخاطبها كرفيقة عمر يُناغي معها أحلامه. يشخص الشاعر الرياض ككائن حي، يكاد يتنفس الليل، يلعب بشعرها الهواء، ينثر الحب في أجوائها.

أما عن جدة، فيقول:
“كل ما جا الطاري في عرس وخطوبة..
قلنا من هي العروس،
قالوا جدة…”

هنا يحوّل جدة إلى عروس فاتنة، كلما ذُكرت في المناسبات، انتصب في الذهن طيفها الجميل، كعروس تتزين وتبهج. جدة ليست فقط مدينة على ساحل البحر، بل هي عنوان للجمال والفتنة، وهي التي يخفق لها القلب وتستحق كل الاهتمام، فهي مدينة الحب والعشق والألق.

ثم ينتقل إلى أمنيته الأخيرة:

“ودي أعرف ها لعواصم .. وأبي ابدا من يديها”
“ودي انزع من اصابعها الخواتم .. قبل لا سلم عليها”

هنا يدخل الشاعر في عمق مناجاة المدن، يريد أن “يعرفها” ليس فقط كأرض وأبنية، بل ككائنات ذات أسرار، يراها من خلال لمسة عاطفية حميمية، فينزّل من المدن خواتمها كعروس تعود إلى أصلها الأصيل. هو يرغب بتجريد المدن من ملامحها الحضارية لتعود إلى بساطتها وحنوها، ويصبح اللقاء بينه وبينها لقاءً صادقًا مجردًا.
فيقول:
“ودي تجمعني بها لحظة حميمه…”
يكثف بدر بن عبدالمحسن في هذا البيت الشعور بالحنين، في تجلٍّ جمالي ورغبة عميقة، إذ يصبح حلمه أن تلتقي به المدينة بشكل حميمي، متناسين العالم الخارجي، ليستخلص من هذه اللحظة جوهرها الصافي، كأنها لحظة ولادة جديدة للمدينة وللشاعر ذاته.

بهذا، يبدو الشاعر هنا كأنه يخلق عالَمًا موازيًا؛ عالَمًا يذوب فيه المكان في الروح، ويتحول إلى مرآة تعكس هواجسه وحنينه. بأسلوب أدبي عميق، يمنح بدر بن عبدالمحسن المدينة قدرة على التحاور والاحتواء، ليصوغ بذلك علاقة أبدية بين الروح والمكان.

*كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود