مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.هاني الغيتاوي*   من منا لا يحتفظ بصور فوتوغرافية قديمة! قد يلجأ إليها الف …

رمزية الصورة الفوتوغرافية.. ودلالتها عند (ألتوسير وفرانز كافكا ونيتشه)

منذ أسبوعين

31

0

د.هاني الغيتاوي*

 

من منا لا يحتفظ بصور فوتوغرافية قديمة! قد يلجأ إليها الفترة بعد الأخرى ليستقي منها الذكريات، يطلق العنان لذاكرته تستدعي أحداثًا معينة قد يكون عاشها أو تُليت عليه من آبائه أو أجداده أو معلميه، أو من خلال وسائل التعليم أو الدراما والسينما، فالصورة الفوتوغرافية تنقل كل المشاهد التي تتصورها الذاكرة سواء كانت عبر الزمان أو المكان. 

بذلك تُعدُّ الصورة الفوتوغرافية انبعاثًا للحياة، ولم لا؟ أو ليست هي من تُحرّكُ المشاعر وتؤجج الأفكار، من خلال استنفارها للذاكرة كي تستدعي المواقف والأحداث، ومن خلالها تنطلقُ المُخيّلةُ في رحلة عبر الزمان والمكان تجوب عوالم عاشت فيها وبين أروقتها، وعوالم أخرى لم تطأ بساطها ولم تلج دواخلها، وهذا يؤكد على خاصية الحياة الموجودة فيها، فكما أن الماء فيه خاصية الرواء التي تجعل للماء قيمة ومعنى للإنسان الذي يعاني الظمأ، فإن الصورة الفوتوغرافية تبعث في الإنسان الحياة من خلال تأجيج مشاعر الحنين والفكر والتخيّل ورصد المشاهد والأحداث واستحضار الزمان والمكان في عالم الماضي، واستقراء كل هذه العوامل والتعايش معها لخلق واقع حياتي في الحاضر تم رفده بمقومات الماضي.

ربما يعتقد البعض أن الصورة الفوتوغرافية تقتصر على التوثيق والاحتفاظ بما هو عرضة للموت والاندثار من إنسان أو نبات أو حيوان أو أماكن أو أحداث، هذا الاعتقاد لا شك يجانبه الصواب، فالصورة وإن كان من ضمن وظائفها التوثيق؛ إلّا أنها تنطوي على معانٍ أرقى وأجل، فهي تحمل رسالة ذات معنى إنساني تستثير العاطفة وتحرك الوجدان من خلال رصدها للمعاني والظواهر الإنسانية كالحنين والاشتياق والحلم والحماسة والسعادة والحزن والتفاؤل والتشاؤم، وكل مرادفات المعاني الإنسانية التي تعتري الإنسان حسب ميوله واستعداده ومكونه السيكولوجي والذاتي، فكل صورة لها دلالتها ورمزيتها عند من يراها، فقد تثير إحدى الصور فيمن يراها الحنين لأيام عاشها وقد غربت شمسها عنه، لكن برؤياه الصورة وتمعنه فيها تشرق عليه الأيام المواضي بجمال لحظاتها وإشراق حضورها فيذرف الدمع اشتياقًا وحنينًا، وقد تثير إحدى الصور الحماسة وحب النضال لدى البعض لا سيما عندما تكون هذه الصورة لثائر أو مناضل أو صاحب فكر ومبدأ، وقد تلهب إحداها المشاعر والعواطف والأحاسيس إذا كانت لحبيب أو عزيز، وقد تحفز إحداها الخيال وتستثير روح الإبداع، وذلك لعظمة صاحب الصورة، وكونه صاحب فكر أو مشروع فلسفي أو إبداعي، أو صاحب تجربة إنسانية.

من هذا المنطلق فالصورة الفوتوغرافية متعددة الأبعاد الفنية والموضوعية، وفي رأيي أهم بعد لها هو البعد الإنساني الذي يعكسه محتوى الصورة من بعث للخيال والإلهام والحماسة والأمل، ومن حضور للمشاعر والعواطف الإنسانية، هذا البعد الإنساني الذي رأيته مُتجلّيًا ومُشرقًا عندما وجدت فيلسوفًا عظيمًا “كفرانز كافكا”، يضع صورة للكاتب والروائي العظيم “فيدور دستويفسكي” على طاولته، يستمد منها الرؤية والإلهام، كذلك فعل الفيلسوف “لوي ألتوسير” صاحب أجمل وأعمق قراءة لكتاب “رأس المال للفيلسوف” كارل ماركس، كان ألتوسير شديد الحرص على وضع الصورة الفوتوغرافية الصغيرة لكارل ماركس على طاولته، وكان أحرص منهما على ذلك أعظم فلاسفة القرن العشرين “فريدريك نيتشه” حيث كان يضع صورة الفيلسوف “شوبنهاور” على طاولته، وكان يصطحب الصورة معه في أي مكان، حتى أنه في فترة خدمته العسكرية كان يتأملها قبل أن ينام  ويشير إليها ويصيح بأعلى صوته “شوبنهاور النجدة”. 

ما فعله الفلاسفة من خلال حرصهم على الاهتمام بالصورة الفوتوغرافية لمن يرونه مثلًا أعلى لهم، تخطى إطار الصورة ومحتواها إلى دلالة أقوى وأعمق، حيث تعد الصورة منبعًا عذبًا يرفدون منه الطاقة الروحية والتحفيز الذاتي، فتجاوبهم مع الصورة تجاوب من يريد أن يستمد الدوافع والحوافز لتلهمه فيما هو قادم ولتُسرّي عنه ما يكابده من أحداث الواقع من آلام ومشقات، فحرصهم واهتمامهم على اقتناء الصورة والاحتفاظ بها ومناجاتها تعدى إطار الصورة وبعدها الفني إلى البعد الدلالي والرمزي لبعث روح من يقبع داخل الصورة ليستنهض روح الحماسة فيهم، من خلال نظرهم إلى الصورة وتجاذب الحديث معه، وإن لم يكن بالكلام فمن خلال تحريك المشاعر واستثارة الوجدان وإنشاء علاقة إنسانية من خلال التخاطر وبعث الخيال وتعميق العلاقة الروحية والفكرية. 

لقد حملت الصورة لدى هؤلاء الفلاسفة بعدًا رمزيًا ودلاليًا يؤكد المعنى الإنساني للصورة الفوتوغرافية، وأن الصورة تنطق إن عجز الكلام عن التعبير فهي تأخذنا إلى عوالم أخرى نجوبها ونستنطقها، وتتجسد في داخلنا حياة ننطلق من خلالها في الزمان والمكان، نبحث عن ذاتنا ونستحضرها مرة أخرى كأننا نبعثها من جديد.

*كاتب مصري

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود