مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

سارة محمد يحيى* كان الظلام يلف المكان والهواء مثقلًا برائحة الغبار القديم وقفت ( …

أنخرامون

منذ أسبوعين

76

0

سارة محمد يحيى*

كان الظلام يلف المكان والهواء مثقلًا برائحة الغبار القديم وقفت (بلقيس) تتأمل التماثيل المصطفة بعناية في غرفة جدها تلك الغرفة التي طالما حذرها من دخولها. شعرت كأن أعين التماثيل الحجرية تراقبها تخفي وراءها أسرارًا دفينة، لكن أحد التماثيل كان مختلفًا أطول من البقية برأس مائل قليلًا وعينين محفورتين بدقة تثير القشعريرة. مدّت يدها نحوه وما إن لامسته حتى شعرت بتيار بارد يزحف عبر ذراعها وفجأة دوّى صوت أجش داخل عقلها صوت غير بشري:
– أخيرًا… أخيرًا أحد في الخامسة عشرة يسمعني.
تراجعت مذعورة، تلفتت حولها لكن الصوت عاد يخترق صمت الغرفة:
– لا تخافي يا صغيرة أنا أسير هنا منذ قرون، ساعديني لأتحرر وستعرفين القصة التي لم يجرؤ أحد على سردها.
تسمرت قدماها في مكانهما من الهلع وسألت بصوت مرتجف عن هوية المتحدث ومقصده، فأجاب الصوت بلهجة يملؤها الأسى والغضب بأنه الكاهن (أنخرامون) الذي تحدى ابن الفرعون ذي الخمسة عشر عامًا عندما أمر بقتل خادمة كسرت جرة ماء دون قصد في طريقه، وعندما عارض ظلمه حُكم عليه بالموت وسُجن في هذا الجسد الحجري عقابًا على جرأته، وأضاف:
– ولأنك في عمر الفرعون الصغير أنتِ فرصتي الوحيدة للحرية من جديد.
ترقرق قلبها المسكينة وتعاطفت معه رغم ترددها ثم عزمت على مساعدته، فأمسكت بالتمثال وبدأت الغرفة تهتز كأن زلزالًا يضربها وما إن هدأت حتى فتحت غطاء الرأس ليندفع انفجار مظلم من الدخان تصاعد إلى الأعلى وظهر الكاهن كمومياء محنطة وهو يضحك ضحكة شريرة. اصطدمت بالجدار وسقطت ليُخدش رأسها بطرف المنضدة وسمعته ينعتها بالساذجة الحمقاء ويتوعد بالانتقام من العالم الذي لم ينصفه، ثم قفز من النافذة محطمًا زجاجها وفر هاربًا.
دخل الجد فزعًا وسأل عما جرى، فشرحت له ما حدث بينما يساعدها على الوقوف واستاء منها كثيرًا وهتف:
– حذرتكِ من العبث بمقتنياتي بلقيس، لكن فضولك أطلق علينا الهلاك، إن أنخرامون مخلوق متمرد وقد لعنه المصريون القدماء لأنه يمارس السحر الأسود وينشر الفوضى حيثما حل.
أحست بالندم واعتذرت عن تهورها وقدمت اعتذارها بإخلاص متعهدة بكل عزم أن تصلح غلطتها مهما كلفها الأمر. بينما عاث أنخرامون بالمدينة فسادًا قامت بأبحاث مكثفة مع جدها مستعينة بالكتب والبرقيات والمصادر الإلكترونية لهزيمته ثم توجهت معه إلى الساحة الكبرى لمواجهة الكاهن. كانت الساحة تعج بالفوضى والظلام، والناس يفرون مذعورين، وعندما وقفت في مواجهة مباشرة معه وهي تحمل برقية مكتوبة فيها تعويذة فرعونية منسية وجدها يُمسك بعصا قديمة مزخرفة بنقوش هيروغليفية قهقه المومياء وسأل بتهكم:
– أوه جئتُما لتواجها من لا يُقهر، لكنكما مجرد بشريين ضعيفين.
تقدمت خطوة إلى الأمام نحوه وقلبها ينبض بالخوف والشجاعة معًا وقالت بلهجة صارمة:
– لن أدعك تدمر هذا العالم أيها اللفافة المنسية، قد تكون قديمًا وقويًّا لكنك مغفل أيضًا لأنك تجهل  بأن الخير ينتصر دائمًا على الشر.

شرعت في قراءة التعويذة بصوت مرتفع ورفع جدها العصا نحوه فشعر أنخرامون بتيار قوي يجذبه للأسفل فحاول المقاومة، لكن قوة التعويذة كانت تتزايد مع كل كلمة تنطق بها الشابة، صرخ يريد العودة إلى الفناء مرة ثانية، فاستمرت دون تردد وبدعم من الطاقة المنبعثة من العصا تشكلت دوامة رملية تحت أنخرامون تسحبه إليها حتى عجز أمام القوة الجبارة، ومع آخر كلمة من التعويذة تحول إلى فتات رملي وغرق في الدوامة تاركًا الساحة بسلام.

سقطت بلقيس على ركبتيها منهكة متبسمة ودنا جدها منها وعاونها على الوقوف ثم أردف بفخر:
– فعلتها يا ابنتي، أعدتِ التوازن إلى العالم وأنا فخور بكِ.
– شكراً لك يا جدي وقد تعلمت الدرس هذه المرة، الفضول قد يكون خطيرًا لكن الشجاعة والتعاون يمكن أن يصنعا المعجزات.
قبلت رأسه ووعدت بألا تعود لمثلها وتعهدت أن تروي القصة للأجيال القادمة حتى يأخذوا منها العبرة.

 

*كاتبة من السودان

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود