57
054
053
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11853
05128
05030
04813
04545
0لغة الصمت في الشعر المعاصر
د. معراج أحمد الندوي*
إن لغة الشعر المعاصر هي لغة الصمت حيث تُنسَّق الكلمات بشكل منتظم يسمح للصمت أن يبرز من حين لآخر ليكسِّر رتابة الكلام الذي قد يؤدي إلى اختناق اللغة في حال الامتلاء الوافر للكلمات، إن كل كلام يحرك الصمت ويمنحه دفعة ملائمة للتبادل الخطابي، كما أن الصمت يحرك الكلام بمنحه زاوية خاصة، بحيث لا يمكن أن يتخلى أحدهما عن الآخر من غير أن يضيع ومن غير أن يكسر خفة اللغة.
الصمت لغة لا تقل أهمية عن اللغة المنطوقة بها في التعبير، الصمت هو جزء من الخطاب، لا يمكن الاستغناء عنه لما فيه من فوائد تغذي اللغة وتؤمِّن التواصل وتضيء المعنى الذي يصير معقولا وقابلا للتبليغ. قد يكون الصمت في كثير من الأحيان أبلغ، لما يختزنه من حكمة ودرء للمفاسد التي يمكن أن يتسبب فيها الكلام.
إن للصمت أهمية قصوى في إبانة المعنى الذي قد يعجز الكلام عن تبليغه، وهو ما جعله محط اهتمام ثقافات مختلفة انتبهت إلى هذه الأهمية منذ القدم، إلى درجة أنها كانت تفضله عن الكلام في كثير من الأحيان. الصمت بوصفه سبيلا إلى تجنيب المتكلم سقطاتٍ كان يمكنه الوقوع فيها إذا تكلم، هو نوع من الكشف عن المعاني التي يحملها الصمت، يمكن أن يكون السكوت أفضل إذا كان في الكلام ما يجلب الشر.
تجمع سائر الثقافات المختلفة على أن الكلام يحمل طاقة تعبيرية يستمدها من اللغة التي تتحكم فيها الروافد الاجتماعية، بيد أنها طاقة تختلف من مجتمع إلى آخر على حساب الصمت الذي لا يمكن استغناء الكلام عنه، لأن الصمت والكلام هما وسيلتان لإيصال المعنى، ففي الثقافة الفارسية، فقد ربط الصمت بالحكمة، وهو ما ينص عليه قولهم: “يصبح الإنسان حكيما بالسماع، فالحكمة عند الفرس، هي قدرة يكتسبها المرء بمداومته على الإنصات للآخرين وليس من كثرة كلامه، وبذلك يصير الصمت في هذا السياق نشيطا وممهدا لكلام يفيض حكمة.
لقد اكتسب الصمت حضورًا بارزًا في الثقافة العربية القديمة، حيث يعُدّ مكملا للكلام وليس بديلًا عنه، وبذلك فهو أحد سبل الإبانة التي تغذي تواصل الإنسان في محاوراته المختلفة، إذ تحول الصمت أو ما يدل عليه في بعض القصائد الحديثة إلى رمز شعري، له دلالة على أن المعنى في القصيدة لم يعد محصورا في لحظات تعبير الشاعر بواسطة الكلام، وإنما في فترات الصمت التي قد تحمل في طياتها حكمة لا تتحملها الأساليب اللغوية مهما بلغت درجة شعريتها.
الصمت عند الشاعر بديلًا عن الكلام الذي لم يعد يُجدِ نفعا، وإنما يزيد من تأزم الوضع. ولذلك فالجنوح إليه أفضل، مادام يحمل طاقة تعبيرية لا تقل قيمة عن الكلام. يقول مثلا في قصيدة “مذكرات الصوفي بشر الحافي:
فإذا ركّبت كلاما فوق كلامْ
من بينهما استولدت كلام
لرأيت الدنيا مولودا بشعا
وتمنيت الموت
أرجوك …
الصمت …
الصمت…
إن لغة الشعر المعاصر هي لغة صمت بامتياز، حيث تُنسَّق الكلمات بشكل منتظم يسمح للصمت أن يبرز من حين لآخر ليكسِّر رتابة الكلام الذي قد يؤدي إلى اختناق اللغة في حال الامتلاء الوافر للكلمات، إن كل كلام يحرك الصمت ويمنحه دفعة ملائمة للتبادل الخطابي، كما أن الصمت يحرك الكلام بمنحه زاوية خاصة، بحيث لا يمكن أن يتخلى أحدهما عن الآخر من غير أن يضيع ومن غير أن يكسر خفة اللغة.
وإن ما يميز توظيف الشاعر المعاصر للصمت في قصائده، حريته في اختيار لحظات البوح التي قد تطول أو تقصر حسب الدفقة الشعورية، واختياره للصمت كصيغة أخرى للتعبير بشكل لا يقل إبداعا عن جنوحه إلى الكلام. وهو ما يمكن تسميته بلعبة البياض والسواد التي نعثر على تجلياتها عند عدد من الشعراء المعاصرين أمثال محمد الماغوط الذي يقول في مطلع قصيدة “حزن في ضوء القمر:
أيها الربيع المقبل من عينيها
أيها الكناري المسافر في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدةَ غرام أو طعنةَ خنجر
فأنا متشرد وجريح
أحب المطر وأنين الأمواج البعيدة
من أعماق النوم أستيقظ
لأفكرَ بركبة امرأة شهية رأيتها ذات يوم
لأعاقرَ الخمرة وأقرض الشعر
لقد وظف الشاعر الصمت بشكل يختلف عن الاستعمال المتداول، فإذا كان قد تحرر من قيود القصيدة التقليدية، فإن حريته صارت مغلفة بالصمت المعبر عن رؤيته الخلاقة، إذ تمنح القصيدة المعاصرة الشاعر حرية أكبر في التعبير باللغة والصمت معا حيث بدا له أن الإبانة عن المعنى تحتاج إلى الصمت وليس إلى اللغة كما نجده في مطلع قصيدة “الصمت والجناح” لصلاح عبد الصبور حين يقول:
الصمت راكد ركود ريح ميتة
حتى جنادب الحقول ساكتة
وقبة السماء باهتة
والأفق أسود وضيّقٌ بلا أبواب
منكفئ من حيثما التفتُّ كالسرداب
ونحن ممدودان في ظلال حائط قديم
مفترشان ظلنا
ملتحفان بالعذاب
لقد أصبح الصمت مع الشاعر صلاح عبد الصبور لغة يتصرف فيها مثلما يتصرف في لغة الكلام، إذ صار يقدم الكلام في قصائده مغلفا بالصمت بشكل ينزاح به عن المعايير المتداولة في اللغة العادية، هذا بالإضافة إلى توظيف الصمت بشكل رمزي يخدم رؤية الشاعر ونظرته للعالم.
*الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة عالية ،كولكاتا – الهند
التعليقات