مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

علي الشيخ احمد* عبد العظيم الضامن فنان تشكيلي سعودي، يتميز بقدرته على تحويل الرم …

ما وراء الانكسار والاحتواء.. الضامن وتأملات في رحلة العزلة والوحدة

منذ شهرين

190

0

علي الشيخ احمد*

عبد العظيم الضامن فنان تشكيلي سعودي، يتميز بقدرته على تحويل الرموز التراثية إلى تعبيرات بصرية غنية، تعكس بعمق هويته الثقافية. نشأ الضامن في جزيرة تاروت شرق المملكة العربية السعودية، حيث كان البحر وشواطئه يحتضنانه ويؤثران في تشكيل رؤيته الفنية. في مسيرته، وخاصة خلال فترة التسعينيات وبداية الألفية، استطاع الضامن أن يستخدم أسلوبًا خاصًا به يمزج بين التعبيرية، الرمزية، الواقعية، والسريالية، ما أتاح لبعض أعماله أن تسلط الضوء على مشاعر الإنسان وصراعاته الداخلية، وتناقضاته بين القديم والحديث.

تتميز أعمال الضامن بتوظيفه لعناصر مألوفة، كالقوارب والمباني التراثية، في تكوينات بصرية تُبرز ارتباطه العميق بالتراث الخليجي والعربي. وبهذه التكوينات، يخلق الضامن جوًّا بصريًّا يدمج بين الماضي والحاضر، ويفتح المجال للتأمل في مسار الزمن وتأثيره على الذاكرة. 

أبرز لوحاته في هذه المرحلة لوحة بعنوان “انكسار احتواء”، وهو عنوان يعبر عن فكرة الانهيار وفقدان القدرة على الحماية والصمود أمام تأثيرات الزمن الزاحفة. تتناول اللوحة موضوع الزمن وتآكل الأشياء وفقدانها لوظائفها الأساسية، ما يدعو المشاهد للتفكر في مفهوم الاحتواء وكيف يمكن للزمن أن يحطم حتى ما نعتبره آمنًا ومستقرًا. من خلال دمج الواقعية والتعبيرية بالرمزية والسريالية، ينجح الضامن في إيصال رسالة بصرية عميقة تتجاوز السطح الظاهر، وتلامس معاني أعمق ترتبط بالإنسانية وبالتحديات التي تواجهها أمام تآكل الزمن.

تجدر الإشارة إلى أن هذه القراءة انطباعية أكثر من أن تكون قراءة منهجية، وتعتمد على رؤية الكاتب الخاصة ولا تعنى بما قصده الفنان، لذا قد يتفق أو يختلف معها القارئ الكريم او يختلف، إذ تتأثر بتجربته وتفاعله الشخصي مع اللوحة.

الوصف العام للوحة بعناصرها المختلفة

تقدم اللوحة مشهدًا مركبًا يتألف من عدة عناصر رئيسية، تتداخل فيها تفاصيل مادية وتعبيرية. وقبل الخوض في الجوانب الرمزية والدلالية، من الضروري تقديم وصف بصري لهذه العناصر لتوضيح طبيعتها وتوزيعها، ما يشكل التكوين العام للوحة والعلاقات التي تربطها ببعضها البعض. تجسد اللوحة صورة لقارب متهالك ملقى على شاطئ مهجور، يحمل مبنى متصدعًا وكأن كلا العنصرين يمران بمرحلة تدهور مستمرة. يعبر العنوان بوضوح عن الصراع المتجسد في اللوحة؛ حيث القارب، الذي كان في الأصل رمزًا للاحتواء والنقل، لم يعد قادرًا على دعم المبنى المتصدع فوقه. من خلال هذا التكوين، يبرز الفنان كيف تحولت رمزية المبنى فوق القارب من أدوارهما الطبيعية إلى حالة من الهشاشة والفناء، وكأن كلا العنصرين قد فقد وظيفتهما الأساسية. فيما يلي وصف للعناصر الأساسية في للوحة:

القارب  

يظهر القارب في اللوحة كهيكل مجرد، وقد تعرض لتآكل شديد حتى باتت أضلاعه المكشوفة تشبه عظام جسد متحلل. تتوزع الأضلاع بشكل غير منتظم في جزء وبانتظام في الجزء المقابل، ما يخلق إيقاعًا بصريًّا فوضويًّا يوحي بالإهمال والتدهور التدريجي. تبدو المواد المستخدمة في هيكل القارب خشنة وبالية، ما يشير إلى تعرضه لظروف قاسية دون رعاية أو ترميم. بعض أجزاء الخشب بارزة وحادة، ما يضفي ملمسًا خامًا يوحي بالتحلل الطبيعي للمواد، وكأن القارب قد عانى من عوامل الطقس والإهمال لسنوات طويلة.

المبنى  

يرتفع المبنى الكبير والثقيل فوق أضلاع القارب التي كانت تستخدم للتجديف، بشكله المستطيل وحوافه المتأكلة، ما يخلق تباينًا صارخًا مع الشكل العضوي للقارب. جدرانه العالية تظهر فيها شقوق عمودية وأطراف داكنة، ما يضفي إحساسًا بالوزن. النوافذ مظلمة ومتجانسة في ترتيبها، ما يعزز الشعور بالرتابة. تبدو النوافذ بلا حياة أو شفافية، ما يجعل المبنى يبدو مهجورًا، وكأنه يروي حكايات عن أشخاص كانوا يعيشون فيه يومًا ما. وزن المبنى يضغط على القارب الذي يبدو وكأنه يكافح لتحمل الثقل، ما يضفي طابعًا عبثيًّا على المشهد ويبرز عدم ملاءمة هذا الثقل لأساس هش كالقارب المتآكل.

البحر  

يمتد البحر في الخلفية بألوان زرقاء باردة وهادئة، تعكس شعورًا بالسلام الظاهري، بينما يرمز في الواقع إلى الهدوء المخيف الذي يشير للنهاية. توحي الزرقة المشبعة البعيدة باللامحدودية والعمق، وكأن البحر ينتظر بصبر ليبتلع ما تبقى من القارب والمبنى.

السماء  

السماء في اللوحة تأتي بتدرجات الغروب الواقعية التي تتنوع بين الأزرق والبرتقالي والأحمر. هذه التدرجات اللونية تعزز الشعور بالسكينة والحزن في الوقت ذاته، ما يجعل اللوحة تعبر عن مشاعر متداخلة من الأمل والحزن. لذا تنعكس ألوان الغروب على المشهد، لتضيف بعدًا تعبيريًا يوحي بالوداع والتلاشي، وكأن اللوحة بأكملها تقترب من نهايتها. 

رغم أن التكوين الغريب يبرز القارب والمبنى في المقدمة، فإن خلفية واسعة من البحر والسماء بتدرجات مختلفة تشير إلى غروب الشمس. يتعزز ذلك الإحساس بالوقت حيث يظهر ظل أمام القارب يوحي بوجود ضوء خلفي، ما يعمّق إحساس بالغروب والوحدة. تمتد السماء في اللوحة، ما يضفي انطباعًا بالامتداد والعزلة ويعزز الشعور بالتدهور المحاصر للقارب والمبنى. 

الواقعية: التفاصيل الدقيقة كأشلاء متصدعة

تبرز المدرسة الواقعية بشكل واضح من خلال الاهتمام الكبير بالتفاصيل الدقيقة في تصوير القارب والمبنى. يعتمد الفنان على إبراز هذه التفاصيل الواقعية بأسلوب دقيق ليمنح المشهد انطباعًا قويًّا بأن هذه العناصر كانت تتمتع بالحياة في السابق، لكنها تعرضت لعوامل الزمن التي حولتها الى ما هي عليه، ما يجعل المشهد يظهر كصورة واقعية لصراع طويل مع الزمن. 

المبنى الثقيل، الذي يستند بشكل غير متوازن على القارب، حيث تتصدع أجزاؤه ويبدو كأنه أخذ في فقد ترابطه مع ذاته ومع البيئة المحيطة به. هذه الواقعية تسهم في تعزيز الشعور بالزوال التدريجي، وتخلق تفاعلًا مع المتلقي، حيث تدعوه التفاصيل المتقنة للتأمل في هشاشة هذه العناصر وفي وضعها الذي يعبر عن الضعف والاهتراء.

التعبيرية والرمزية: الصراع مع الزمن والعزلة

تبرز التعبيرية في اللوحة بوضوح من خلال تصوير القارب المتهالك والمبنى المتصدع، وكأنهما في صراع مستمر مع الزمن. يظهر القارب، الذي لم يتبقَ منه سوى الأعمدة المتآكلة، كرمز للكفاح من أجل البقاء وسط التحديات، ما يضفي عليه معنى للضعف والهشاشة في مواجهة الظروف الطبيعية. وهنا يُستخدم القارب كرمز للحياة التي تكافح من أجل البقاء، بينما يجسد الفنان مشهداً للبحر والسماء في حالة من الهدوء والعزلة، خاليًا من أي علامة على الحياة، ما يرمز للشعور بالوحدة والانفصال.

تتجلى الرمزية في غياب العناصر الطبيعية المعتادة في المشهد كالطيور أو الحيوانات الشاطئية أو حتى البشر، ما يضفي على الشاطئ إحساسًا بالخلو التام من الحياة، وكأن الحياة قد هجرت هذا المكان بالكامل. وقد اختار الفنان إظهار الشاطئ والبحر في حالة من السكون المطلق، حيث يبدو البحر بلا موج أو زبد، وكأنه قد فقد روحه وحيويته. هذا المشهد الهادئ والخالي من الحركة والنشاط يُعزز الشعور بالانقطاع عن العالم، ما يدفع المتلقي للتأمل في أسباب هذه العزلة والفراغ.

من خلال هذا الأسلوب الرمزي، يبرز الفنان المفارقة بين الحياة التي كانت والحالة الحالية للمكان، ما يجعل اللوحة تعبيرًا مؤثرًا عن مشاعر الإهمال والهجران، ويترك أثرًا عميقًا في نفس المتلقي يدعوه للتفكر في معنى الزوال والانعزال.

السريالية: العلاقة بين القارب والمبنى

تتجلى السريالية في التكوين الغريب بين القارب والمبنى، إذ يتعمد الفنان وضع المبنى الأثقل والأقوى فوق القارب الضعيف والهش، ما يخلق تبايناً لافتًا بين القوة والضعف. من خلال هذه العلاقة السريالية العبثية، يظهر وكأن الفنان يثير التساؤل عن المنطق وراء هذا التكوين غير الواقعي، ويعبر عن تناقض عميق يُحاكي فكرة التوازن غير المتكافئ في الحياة. 

تساهم هذه السريالية في خلق شعور بالغربة عن الواقع، حيث يفتح الجمع بين هذه العناصر المجال للتساؤل حول المعنى الكامن خلفها. ربما يُشير الفنان إلى عبثية الحياة أو إلى الصراع الديالكتيكي المستمر بين القوة والضعف، ما يضيف أبعادًا رمزية أعمق تجعل المشاهد يعيد النظر في مفهوم هذا التكوين ذي التوازن الهش. 

هذا التكوين يضفي على اللوحة طابعًا حلميًا سرياليًا وغير مألوف، مما يتيح مساحة للتفاعل الشخصي؛ حيث يمكن لكل مشاهد أن يستنبط رمزية خاصة به بناءً على تجاربه وأفكاره الشخصية.

كذلك، يستغل الفنان العمق في اللوحة لتعزيز الشعور بالعزلة عن العالم، حيث يضع القارب والمبنى في الجزء الأوسط من اللوحة، ليقربهما من مركز حركة عين المشاهد. وهو هنا يستخدم التسطيح البصري ما أمكن؛ ليجعل العناصر تبدو كأنها فقدت وجودها الفعلي في العالم الواقعي، وكأنها في طريقها لتصبح أشباحًا من زمن مضى.

في الجهة المقابلة، يبرز عمق المنظور في الخلفية حيث السماء والبحر؛ ما يخلق تباينًا لدى المشاهد بين التسطيح في قلب اللوحة وامتداد العمق في الخلفية.

 المدرسة التعبيرية واللون لتعزيز الشعور بالغربة

تستمد اللوحة قوتها التعبيرية من استخدام الألوان لتعزيز الشعور بالغربة والانفصال. تتألف من ألوان خافتة يغلب عليها البني الترابي في الجزء السفلي، مع تدرجات متداخلة من الأزرق والوردي والأخضر في الخلفية، ما يضفي عليها طابعاً حالمًا وأزليًّا، وكأنها مشهد مسترجع من ذاكرة ضبابية. الألوان الدافئة للقارب تتمازج مع الألوان الباردة للبحر وألوان السماء، ما يعزز الإحساس بالحركة اللونية ويثير مشاعر الحزن والوحدة والحنين. 

تلعب الألوان دورًا رئيسيًّا في تجسيد مرور الزمن وتأثيره؛ فاللون الأخضر، الذي يمثل الطحالب البحرية، يتسرب إلى القارب ببطء، مما يوحي بفترة طويلة من الإهمال والتآكل، وكأن الطبيعة تستعيد سيطرتها تدريجيًّا على ما كان يومًا جزءًا من عالم الإنسان. تداخل الأخضر مع تدرجات البني يخلق إحساسًا بالتدهور التدريجي، ليعكس عملية تحلل بطيء للقارب والمبنى على حد سواء. 

يضيف اللون الأزرق في البحر بعدًا آخر؛ إذ يعكس سكونًا غير مريح، حيث تبدو المياه هادئة بشكل يثير الريبة، ما يوحي بأن هناك حدثًا محتملًا على وشك الوقوع. هذا السكون، الممزوج بالزرقة، يخلق شعورًا بالغموض، ما يدفع المشاهد إلى استكشاف أبعاد اللوحة بأحاسيس متداخلة بين الترقب والانفصال.

خاتمة

تبقى لوحة “انكسار احتواء” مثل صفحة مفتوحة على مشهد لا ينتهي، حيث القارب والمبنى يتعانقان بسكون، والبحر يحتضن صمته كأنه يرفض البوح بما في أعماقه. الألوان تستقر، لكنها تتحرك في العيون، تتبدل بين طيف لوني متعدد، بين البارد والدافئ، كأنها تبحث عن معنى لم يُكتب بعد. الضامن يترك لنا فسحة من التأمل من خلال العلاقة السريالية، مشهد يتجمد في الوقت لكنه ينطق بأصوات الغياب والغروب، ربما هي أصوات الأمواج الصامتة التي لم تصل أو الطيور التي لم تحلق يومًا في هذه السماء. البحر يظل ممتدًا، بلا نهاية، ينتظر شيئًا لا يأتي، وكأن كل شيء في اللوحة يظل في حالة زحف بطيء لا يتحرك.  السماء تحمل شمسًا خلف الأفق، لتظل عالقة بين لحظتين، لحظة غروب الضياء ولحظة شروق الظلام.

القراءة لهذا العمل بشكل إنساني أعم، يجلي اللوحة كتأمل عميق في الصراع المتأصل بين الحضارة الإنسانية والعالم الطبيعي.

يمثل القارب الرحلة الطبيعية، التي أصبحت ضعيفة وتئن تحت ثقل حضارة لاحقة تفرض عليه. المبنى المتداعي يرمز إلى الإنجازات البشرية، على الرغم من مظهرها الصلب، تبقى هشة ومعرضة للتدهور. الخلفية الشاسعة وغير المبالية تعزز ضآلة هذه الصراعات أمام نطاق الطبيعة الواسعة والزمن الممتد.

تقدم اللوحة بمجملها انعكاسًا على حدود السعي البشري، والمخاطر المترتبة على تجاوز طموحاتنا على أسس هشة. فالقارب الهش، الذي يرزح تحت ثقل المبنى المتداعي، يشير إلى أن الضغوط التي توضع على الأنظمة الطبيعية قد تؤدي إلى الانهيار إذا لم تُعالج. تساهم الألوان الخافتة، والخلفية الواسعة، والإعداد السريالي للتكوين في إحساس بالانفصال والحزن، ما يدعو المشاهد إلى التفكير في احتمالية زوال كل ما يحققه الإنسان أمام دورات الطبيعة الدائمة.

وبهذا المعنى، تقدم اللوحة استعارة بصرية للغرور البشري، وتحث على إعادة تقييم العلاقة بين الحضارة الجديدة والعالم القديم. إنها تدعو المشاهد للتفكير في استدامة الممارسات الحالية الجامدة، محذرة من أنه إذا تجاهلنا هشاشة الأسس، قد نجد أنفسنا في حالة من الركود الوجودي – معزولين، مهجورين، وعالقين في دائرة من التدهور المستمر.

*كاتب وناقد تشكيلي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود