مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

عبدالعزيز قاسم* هي لحظةٌ لا تختصر، وإن كانت في ظاهرها إهداءَ كتابٍ! بينما كنتُ أ …

عندما بَكتْ والدتي.. يومَ أمس

منذ 4 أيام

28

0

عبدالعزيز قاسم*

هي لحظةٌ لا تختصر، وإن كانت في ظاهرها إهداءَ كتابٍ! بينما كنتُ أقدِّم دورةَ «تحدّي رهاب مواجهة الجمهور» يومَ أمس الأربعاء بالمدينة المنوَّرة؛ كانت والدتي، فاطمة قاري، التي تخطو في منتصف الثمانين من عمرها، قد جلست في الصفوف الأولى، تصغي بكل جوارحها، كأنّها تستمع لابنها يلقي أول حرفٍ تعلّمه على مقعد الروضة. أميرةُ القلب والروح أصرت على حضور الدورة، فقط كي تشاهد ابنها وهو يُقدِّم على المسرح دورته. لم تكن تدري عن مفاجأتي التي أعلن عنها مقدِّمُ الدورة؛ إذ فاجأتُها بإهداء كتابي الجديد في أدب السيرة، وهو كتابي الثالث عشر في مسيرتي مع الكلمة، وأحرص أن تكون النسخةُ الأولى، تلك التي تسبق حتى غلافَ الكتاب، بين يديها.. لا أحد يسبقها.. لا أحد يتقدَّمها.. لا أحد يُضاهي مقامها في حياتي، ولا في موتي إن متُّ قبلها. الإنجاز الذي لا يمرّ عبر يدي الأم يظلّ ناقصًا مهما اكتمل. تقديمُ الكتاب أوّلًا لها طقسٌ مقدَّسٌ أمارسه مع كل مخاضٍ فكريّ؛ فوالدتي الأصلُ الذي منه انبثق الفرع، والبدايةُ التي تكتمل بها كلُّ النهايات، ولا أقدِّمُ عليها أحدًا في هذا الوجود، كائنًا مَن كان. يا سادة: الأمُّ وحدها من تستحقّ أن تكون الصفحةَ الأولى من كل سيرة. نزلتُ من على المنصَّة، لا بصفتي مدرِّبًا، بل بصفة الابن الذي لم يتغيَّر؛ وتقدَّمتُ نحوها وفي يدي نسخةٌ ممهورةٌ بنبضي، فرفعتُها لها كما تُرفع رايةُ النصر على قمَّةِ جبل. ما إنِ التقتْ عيناها بالغلاف حتى شهقت، وغلبتها الدموع، ثم اندفعت نحوي تحتضنني، تضع رأسها على صدري؛ تُعيد ذاك المشهدَ الذي كان… كلّما هرعنا إليها بشهاداتِ الصفوف الابتدائية، تحتضننا فرحةً جذلى وهي تبكي لتفوُّق أطفالها. ما الذي تغيَّر؟ لا شيء. فما زلتُ الطفلَ الذي لا يهمّه عددُ الصفحات، بل رضا أمِّه حين يقرؤها. يا أحبة: كبرتُ على المنصَّة… لكنّي صغرتُ على صدرها. في زحام التصفيق، وتحت عدسات الهواتف؛ لم أعد أشعر إلّا بتلك الدموع السخينات على كتفي وهي تحتضنني، وبالعبارة التي تمتمت بها كأنّها تختزل تاريخًا من الصبر والتعب: «الحمد لله الذي لم يُضع تعبي في تعليمكم». يا الله! أصدقُ لغاتِ الفرح تُكتب بالدموع لا بالحبر. آهٍ يا أمِّي.. كم من كتابٍ كتبتُ، وكم من مديحٍ نالني؛ لكنّكِ وحدكِ من بوسعها أن تكتب على صدري وسامًا لا يمحى. أمام بكائكِ واحتضانكِ؛ كانت القاعة تضجّ بالتصفيق، وكان الدرسُ الحاضر: لحظةُ صدقٍ واحدةٌ أمام الناس أبلغُ من ألف كلمةٍ تُلقى على مسمعهم. تلك المرأةُ البسيطة التي لم تكن تعرف الحروف، كانت أعلمَ من كثيرٍ ممَّن تعلَّموا؛ فقد باعت في طفولتنا إسوارةَ الذهب الوحيدةَ التي ورثتها عن أمّها التي رحلت وهي في الرابعة من عمرها؛ كانت تلك الإسوارةُ الذكرى الأخيرةَ المتبقِّيةَ من رحم اليُتم، لتشتري لنا دفاترَ وأقلامًا وحقائبَ الدراسة. هي لا تقرأ وقتها… لكنّها علَّمتنا أن نكتب أعمارنا بلا نقص، وأن نقف بين زملائنا مرفوعي الجبين. هل تدري ما يعني أن تبيعَ يتيمةٌ إرثَ أمّها، لأجل ألّا يُهزم أبناؤها في أول يومٍ دراسي؟ يعني أنّ التضحيةَ ليست درسًا في كتابِ الأخلاق، بل في كتابِ الحياة. ومرَّت سنواتٌ وسنوات؛ أهديناها فيها الذهبَ والأطقمَ والبريق، لكنّها ما زالت تقول: «إسوارةُ والدتي كانت الذكرى الوحيدة لي عنها.. لم تكن مجرّد حُليّة، بل كانت تاريخًا ألبسُه في معصمي.. لن يعوِّضها شيء». نعم يا أمِّي؛ لأنّ ما كان لأجلنا يبقى أغلى من كل ما نهديكِ. تلك الإسوارةُ لم تكن مجرّدَ ذهب، بل كان ماضيًا سائلًا قايضتْ به أمُّنا حاضرَنا؛ فصار دينًا أبديًّا في ذممِ أرواحنا، نحيا العمرَ كلَّه ونحن نحاول -عبثًا- أن نوفِّيه. من لا يعرف قصّةَ تلك الإسوارة، لا يفهم معنى أن تكون أمًّا. دموعُ أمِّي بالأمس، واحتضانُها لي؛ هما وسامُ عمري الذي لن أنالَ مثلَه في أيِّ محفل. سيبقى ذاك المشهدُ محفورًا في وجداني، لا في ذاكرتي فحسب؛ أحملُه معي قنديلًا يبدِّد عتمةَ الأيّام حتى آخرِ نفسٍ، وسأظلّ أسمعُ همسَها وهي تتمتمُ بفخر: «الحمد لله الذي لم يُضع تعبي». تذكَّروا: كلُّ ميداليةٍ تصدأ… إلّا ميداليةَ البرّ؛ ووسامُ العمر: دمعةُ أمٍّ على كتفك.

*إعلامي وكاتب صحفي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود