الأكثر مشاهدة

بقلم: براك البلوي* صلاة القلق رواية صدرت عن دار صفصافة في تونس٢٠٢٤م للكاتب المصر …

قراءة في رواية “صلاة القلق”

منذ 4 أيام

54

0

بقلم: براك البلوي*

صلاة القلق رواية صدرت عن دار صفصافة في تونس٢٠٢٤م للكاتب المصري محمد سمير ندا في ٣٦٠ صفحة والفائزة بجائزة البوكر ٢٠٢٥م.
وتتجلى قوة البلاغة في “صلاة القلق” حين تتقاطع مع الفانتازيا، فالسرد في هذه الرواية واقع يختلط فيه الغرائبي بالواقعي.
وعندما توظف الفانتازيا في الرواية، وهذا التوظيف ليس هروبًا من الواقع، بل وسيلة لقراءته بحدة أكبر؛ إذ يتيح العنصر الخيالي — مثل سقوط النيزك أو تحوّل الرؤوس إلى رؤوس سلاحف — هنا يحق للكاتب أن يضخّم الحقائق التاريخية والاجتماعية، فيكشف جوهرها الموجع.
جاء في مطلع الرواية “استيقظَ الشيخ أيّوب المنسيّ صباحَ اليوم، فلم يجِدْ رأسَه بين كَتفيه.. 
نال منه الوباء، فحوّلَ رأسَه كتلةً عظميّةً جرداءَ خلَتْ من الشعر، وبدَتْ أقربَ إلى هيئة الحصى منها إلى رؤوس البشر، بينما احتفظَ جسدُه الطاعن بقوامٍ بشريٍّ يحاكي في خموله السلاحف، من دون أن يمتلك درقةَ الوقاية.

عرف الشيخ قبل ليالٍ أنّ شيئًا قد تغيّر.. أدرك أنّ خللًا حلَّ بنسق الحياة في النجع، وراحت حواسُّه تبثّ شعورًا مطّردًا بخطرٍ مُحيقٍ منذ سقوط الحجر الناريّ على بعد كيلومتراتٍ من المكان.. حدث ذلك قبل أماسٍ عديدة.. يومئذٍ أضاء الانفجار السماء” ص١٣.
عنوان الرواية”صلاة القلق” جاء طبيعيًا مستلًا من أحداثها: إمام المسجد (الشيخ أيوب) يبتدع “صلاة القلق” —طقسًا شعائريًا غريبًا (سجدتان مليئتان بالدعاء) كي يكون مخرجًا رمزيًا للخلاص من الوباء والقلق الجماعي.
إن هذا المزج بين البلاغة والفانتازيا ينتج صورًا مركبة تحمل أكثر من إشارة دلالية، وتضاعف فاعلية الرموز البلاغية، لأنها تحررها من القيود المباشرة، وتجعلها قادرة على تمثيل الهزيمة والخوف والقلق الجمعي في أشكال حسية مبتكرة، تبقى عالقة في الذهن بعد انغلاق الصفحات.
في رواية “صلاة القلق” للكاتب المصري محمد سمير ندا، الحائزة جائزة البوكر ، يفتتح النص بمشهد يربك الحواس. مزيج مموّه من الخيال والواقع، يطلّ من بين سطور افتتاحية صادمة بعد حرب 1967، في قرية معزولة تُدعى نجع المناسي، سقط نيزك صغير اخترق السماء وسقط على أطرافها، يجرّ خلفه غبارًا غريبًا. منذ تلك الليلة، دبّ في القرية وباء بلا اسم.. رجال النجع ينامون بوجوههم المألوفة، ثم يصحون ليكتشفوا أن رؤوسهم تحوّلت إلى كتل تشبه الصخور ، بلا شعر، بلا ملامح. نجع المناسي، القرية التي تبدو خارج الزمن، تُلقى بها لعنة غامضة.. النيزك ليس سوى إشارة، أو ربما كذبة جماعية صاغها الخوف ليبرر ما سيأتي.. فالوباء الذي ينتشر بعد ذلك لا يشبه أي مرض.. إنه ليس في الجسد وحده، بل في الحكايات، في العيون التي تتفادى النظر إلى بعضها، في الصمت الذي يتراكم كطبقات طين على النوافذ. الرجال الذين ينامون بشعورهم الكثيفة، يصحون برؤوس هلامية بلا ملامح.

الكاتب محمد سمير ندا يترك الحكاية تتشظى.. الأصوات تتناوب على السرد: عجوز فقد ابنه في الحرب، امرأة ترى في الانفجار او النيزك رسولًا من السماء، شاب يفتش في الخرائب عن قلبه القديم.. لا أحد في الرواية يملك الحقيقة كاملة.
استخدم الكاتب السرد متعدد الأصوات: يروي ثمانية شخصيات مختلفة الأحداث من زوايا متعددة، كلٌ منها يحمل ذاكرة ونظرة خاصة.
لغة الكاتب محمد سمير ندا في “صلاة القلق” لغة اعتيادية لم يسم بها ويتوجها لغة أدبية عالية تتنفس ببطء.. أو ربما لم ترق لذائقتي من حيث اللغة التي اعتدت قراءتها.. فالرواية لغة تحلق بالقارئ ليدخل عوالهما وأحداثها.
من حيث الحبكة والمشهد هي جاذبة للقارئ الذي لا يهمه إن كان النيزك قد سقط حقًا، أو إن المرض كان وباءً جسديًا أو خدعة جماعية. المهم أن القرية لن تعود كما كانت، وأن القارئ حين يغلق الكتاب، سيظل يلمس رأسه، متوجسًا من أن يجد ملمسه قد تغيّر.

*كاتب وروائي – سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود