مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

محمد الموسوي* في أحد الفصول الدراسية بإحدى المدارس الحديثة، جلست المعلمة تقرأ قص …

أدب الطفل.. بين الماضي العريق والواقع المعاصر

منذ 4 أسابيع

70

0


محمد الموسوي*

في أحد الفصول الدراسية بإحدى المدارس الحديثة، جلست المعلمة تقرأ قصة بعنوان “ليلى والروبوت الصغير”. كان الأطفال يضحكون، ويتفاعلون، ويطرحون الأسئلة، ويعيدون رسم مشاهد القصة بطريقتهم الخاصة. لم يكن الأمر مجرد حكاية قبل النوم، بل تجربة متكاملة تُحفّز الخيال، وتنمّي الحسّ النقدي، وتفتح بابًا للابتكار. مشهد كهذا يلخّص كيف أصبح أدب الطفل في يومنا هذا أداةً تربوية، ووسيلة تعليمية، ومساحةً حرّة للتعبير والتفاعل.
لكن الأمر لم يكن كذلك دائمًا… 
في الماضي، حين كانت الحكايات تُروى شفهيًا في ظلال النخيل أو على ضوء السراج، لم يكن الطفل طرفًا فاعلًا في القصة، بل كان مستمعًا هادئًا يلتقط الدروس من بين سطور الحكاية. كانت القصص تحمل عبرًا أخلاقية واضحة، وغالبًا ما تتضمّن شخصيات مثالية، تُجسّد القيم التي يودّ الكبار غرسها في الصغار. لم يكن الخيال منفذًا للطفل ليبني عالمه الخاص، بل كان قناةً لتوصيل الحكمة والخُلق.
كان أدب الطفل قديمًا أقرب إلى التلقين المغلَّف بالسحر.. قصص مثل “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” استخدمت الحيوانات، أو الجنّ، أو الشخصيات الخرافية لنقل رسائل الكبار. لم يكن الطفل يُسأل عن رأيه، ولم تكن القصص تُكتب لتناسب فئته العمرية بقدر ما كانت تنقل الموروث الثقافي كما هو.
أما اليوم، فقد تغيّر مفهوم الطفولة، وتطوّر معه أدبها. لم يعد الأدب موجَّهًا إلى الطفل، بل أصبح منبعًا ينبع من عالمه، يعكس اهتماماته، ومشاعره، وتجاربه. أصبحت القصص أكثر إنسانية وقربًا من الواقع، وأبطالها يشبهونه؛ يخطئون أحيانًا، ويصيبون أحيانًا أخرى، يتعلّمون من المواقف، وينمون كما ينمو هو.
أصبحت القصة الحديثة مساحة تفاعلية: تحمل في طيّاتها قيمًا تربوية، لكن دون وعظ مباشر؛ تُنمّي الخيال، لكن من خلال مواقف واقعية أو رمزية تُحفّز التفكير.. كما تطورت الوسائط أيضًا، فلم يعد الورق وحده حاملًا للأدب، بل ظهرت القصص المصوّرة، والمسرحيات التربوية، والتطبيقات التفاعلية، حتى القصص التي يكتبها الأطفال بأنفسهم.
في الإمارات مثلًا، أُطلقت مبادرات مثل “تحدي القراءة العربي”، التي شجّعت الأطفال على قراءة عشرات الكتب سنويًا، واختيار ما يناسب اهتماماتهم، مع توفير بيئة تفاعلية تدمج بين الكتاب، والمسرح، والأنشطة التربوية. كما أُنتجت قصص مصوّرة باللغة العربية، تحكي عن أبطال معاصرين يعيشون قضايا قريبة من واقع الطفل العربي، مثل التنمّر، والحفاظ على البيئة، أو استخدام التكنولوجيا.
هذا التحوّل من الحكاية التقليدية إلى النص التفاعلي لم يُلغِ قيمة التراث القصصي القديم، بل أعاد تقديمه بطرق مبتكرة تُناسب العصر وتفكير الطفل الحديث. فالطفل اليوم لا يكتفي بأن يسمع، بل يريد أن يُشارك، ويتخيّل، ويُعيد كتابة النهاية بنفسه.
هكذا، يستمر أدب الطفل في التطور، ككائن حي ينمو مع الطفل ويكبر معه. بين الأمس واليوم، ما زالت الحكاية تسكن قلب الطفل، لكن اليوم التربية ليست أوامر تُلقى، ولا نصائح تُقال في لحظة غضب، بل هي حضور صادق، وتكرار هادئ، وصبر طويل. وكل كلمة تُقال، وكل رد فعل يُختار، يُشكّل مستقبلًا ما.. فالأسرة ليست فقط من تلد الطفل.. بل من تربي الإنسان فيه.

*كاتب عراقي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود