مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.هاني الغيتاوي * من “أوسكار وايلد“، الذي استردّ معنى الحياة من خلال …

فلاسفة وأدباء.. في المنفى ووراء القضبان 6/6

منذ أسبوعين

24

0

د.هاني الغيتاوي *

من “أوسكار وايلد“، الذي استردّ معنى الحياة من خلال القراءة.. إلى الأديب والروائي المصري صُنع الله إبراهيم الذي قبع وراء القضبان في مصر لمدة خمس سنوات في الستينيات من القرن العشري، وتركت هذه التجربة بصمة عميقة على شخصيته وإبداعه الفني، فتصالح مع نفسه، وامتد هذا التصالح ليكون مع الناس والحياة قاطبة، فلم يقل إلّا ما يشعرُ به، ولم يُعبّر إلاّ عن رأيه الحر وبما يراه صالحًا مهما كانت العواقب والتّحدّيّات، فكان صادق الكلمة، عفّ الضمير، لا يهرفُ بما لا يعرف، لا ينافق ولا يداهن ولا يصانع، فنبع فكره وأدبه من هذا النبع الشفيف، ولقد ترجم صنع الله إبراهيم هذا الصدق ترجمة واقعية في أعماله وفي حياته، وتجلّى ذلك في رفضه جائزة الرواية العربية، وهي جائزة رفيعة المستوى في مجال الرواية، فبعد أن رأت لجنة التحكيم منحه هذه الجائزة برئاسة الأديب والروائي الطيب صالح، رفض صنع الله إبراهيم الجائزة؛ لأنّه رأى وقتذاك أن الحكومة التي تمنحها غير أمينة على القضية الفلسطينية لسماحها للسفير الإسرائيلي بالبقاء، في حين أن الفلسطينيين يسامون سوء العذاب من الإسرائيليين، واحتجّ كذلك على سوء الأوضاع الثقافية وتأخر منظومة العدالة.

كان رفض صنع الله إبراهيم للجائزة صرخة مقاومة ونضال ضد ما ما يراه غير مقبول وقال في صرخته “في مثل هذا الوضع لا يستطيعُ الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت.. لا يستطيع أن يتخلّى عن مسؤوليته”. 

صاحب رواية “شرف” هذه الرواية التي تُعدُّ دُرّة أعماله الأدبية، وأشهرها وأبعدها صيتًا وأكثرها زخمًا.. كانت نتاج التجربة الإنسانية التي عاشها وراء القضبان في السجن، فكانت ناقوس خطر لما يحدث داخل السجون، وهي تصوير للسجن الأكبر المُتمثّل في المجتمع، فصوّرَ الظلم الواقع على الفرد والمجتمع من خلال رصده للهزائم النفسية والروحية والانكسار للذات الإنسانية، لقد صوّرَ شدة البؤس في السجون، والتمايز الطبقي داخلها، وكيف تكون هناك زنازين لأولي النفوذ والسلطان، وزنازين للمهمشين ودود الأرض، وتوغّل في إظهار الفساد المستشري خارج المجتمع من خلال ما يحدث في السجون وتغوّل السلطة والنفوذ وقوة المال، لقد كان السجن مسرحًا للقهر، وهو مثال حي لما يحدث في الحياة خارج السجن، رواية شرف التي اشتق اسم بطلها منها، هذه القيمة الأخلاقية النبيلة لم يعد لها وجود، فكل من يتمسك بها يلقى به إلى الهاوية، ويكون مصيره المحتوم ضياع حريته وسحق كرامته. 

كل هذه المفاهيم والتصوّرات انطبعت في عقيدة ووجدان صنع الله إبراهيم وترجمها بقلمه البائس المقهور، فجاء أدبه أدبًا مقاومًا، لغته التمرّد، ومعانيه الثورة على الظلم والاحتجاج على المرذول، ولقد رفد تصوراته من خلال ما رآه في السجن ومن خلال القراءة التي جعلته يتسربل بالصبر ويتعزّى بها عن سنوات الظلم والقهر التي عاشها وراء القضبان، فمن وقت دخوله السجن بسبب رفضه وتمرده.. غذّى السجن لديه هذا الرفض والتمرد، وتبلورت رؤيته من خلال معاناته داخله وكان للقراءة والاطلاع على الكتب داخل السجن تأكيد لذاته ودفاع عنها، فخرج من تجربته داخل السجن بزاخر وفير من قيم النضال والدفاع عن الحُرّيات ورؤيته التي اختزلها في مجمل أعماله بأن الوطن هو السجين، سجينٌ خلف قضبان الظلم. 

كثيرون من الأدباء والفلاسفة زُجّ بهم داخل السجون، وحكم عليهم بالنفي، فأسر الفيلسوف “لودفيغ وتغنشتاين” عام 1918، وكان عزاؤه في الأسر الانهماك في القراءة، فأقبل يطالع بنهم مؤلفات “تولستوي” ويغوص في رائعته “الحرب والسلام” ويرفدُ وتعلم من أدبه وتعاليمه الكثير، كذلك قرأ فلسفة “شوبنهاور” وافتتن بها.. فقد سحرته فلسفته إلى الحد الذي جعله يحاكي كتاب شوبنهاور “العالم إرادة وتمثلًا” في بدايات كتابه “الأطروحة” هذا الكتاب الذي انتهى لودفيغانشتين من تأليفه في الأسر. 

وتنعكس على لودفيغ وتغناشتين اللحظات التي عاشها في الأسر، والقراءات التي نهل منها هناك عليه في حياته الجديدة التي عاد إليها من منفاه، فيعود إلى هذه الحياة محملًا بالفكر التشاؤمي الذي استقاه من شوبنهاور، ويتخذ من العُزلة ملجأً فيلوذ بها ويعتزل في إحدى القرى الجبلية في أطراف النمسا، ويمارس فلسفة الزهد في كل شيء إلى الحد الذي يتنازل فيه عن ميراث له ورثه عن أبيه إلى أشقائه، هذا الزهد والتخلّي جعل الفيلسوف الإنجليزي “براتراند راسل” يوجه له السخرية اللاذعة بقوله: “مليونير ويعمل في قرية، بالتأكيد مثل هذا الشخص إما منحرف أو أحمق”. 

كذلك كان  “جان جاك روسو” صاحب مقولة: “ولد الناس أحرارًا، لكنهم يرزحون في الأغلال في كل مكان “تم نفيه، فكان مضطهدًا ومطاردًا وتم نفيه من قبل السلطات الفرنسية وتبعتها السويسرية موطنه الأم، لجرأة أفكاره وما ينادي به، وفي منفاه أبدع أبرز أعماله “الاعترافات” و “إيميل”. 

وكما أبدع روسو أهم أعماله في منفاه.. أبدع عدوه اللدود “فولتير” بعضًا من أهم أعماله المميزة مثل “مسرحية أوديب” وملحمته “هنريادية”. 

ومن فولتير إلى “توماس مان” الأديب الألماني الشهير الذي تكبد آلام المنفى، وظل منفيًا في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذا المنفى أجّجَ لديه الحنين إلى بلده ألمانيا، وسخّر قلمه لرصّد الظلم ومجابهة الطغيان وقهر الإنسان، فقد حمل صاحب رواية “آل بدنبروك” على عاتقه أن يكشف المستور، ويتصدّى للظلم والقهر، في الوقت الذي لاذ فيه أدباء ومفكرون كبار في ألمانيا بالصمت خوفًا من طغيان النازية، فآثروا الحياد عن المواجهة، لكنه واجه وتصدّى بكل عزم.. وكانت النتيجة نفيه، هذا النفي الذي زاده عزمًا وتصميمًا على مواجهة الظلم والتصدي للطغيان. 

كذلك كانت تجربة السجن هي من دفعت “نيكولو مكيافيلي” صاحب أشهر أحد المقولات في التاريخ الإنساني “الغاية تبرر الوسيلة” لأن يؤلف كتابه الذي حمل بين دفتيه هذه المقولة.. وغيرها من المقولات التي جعلته أشهر من أثاروا الجدل عبر التاريخ. 

كانت هذه إطلالة على بعض الفلاسفة والأدباء في المنفى ووراء القضبان.. والذين حولوا المنفى والسجن من بؤر لتقييد الحريات إلى نوافذ مُشرّعة يتصلون من خلالها بالجمال، يغمرهم منها نور الحرية. 

* كاتب مصري 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود