25
0
62
0
155
0
230
0
98
1
56
0
الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
12028
0
11329
0
10653
0
9655
5
8046
0

بدر العوفي *
في عام ١٨٩٧ أعلن العالم الفيزيائي الأسكتلندي اللورد كلفن “أن مهمة علم الفيزياء قد انتهت، ولا يوجد شيء جديد يمكن للفيزياء اكتشاف!” [1] [2] غير أن مطلع القرن العشرين قد شهد اكتشاف مفاهيم ميكانيكا الكم (١٩٠٠، ماكس بلانك) والفيزياء الذرية (١٩١١، ارنست رذرفورد) والنظرية النسبية (١٩١٦، ألبرت أينشتاين)، ما خالف توقعات اللورد كلفن بموت علم الفيزياء! استحضرت هذه القصة مؤخرًا خلال نقاش دار بيني وبين مجموعة من الأصدقاء حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، حين عبّر أحدهم عن اعتقاده بأننا بلغنا ذروة هذا العلم مع ظهور ChatGPT. حينها تساءلت: هل بيننا “كلفن جديد”؟ وهل يمكن أن يكون ما نراه اليوم من تطورات مجرد بداية لابتكارات رقمية ستتوالى حتى يُنسي أولهَا آخرُها؟ الجواب: حتمًا نعم. وفي هذا المقال، نسلط الضوء على فصل جديد في مسيرة الذكاء الاصطناعي، يتعلق بمفهوم “الإنسان المعزز”، حيث تلوح في الأفق مرحلة من التكامل العميق بين الإنسان والتقنية، مرحلة قد تعيد تعريف القدرات البشرية ذاتها.
في مفهوم الإنسان المعزز:
في عام ٢٠٠٧، قدّم ستيف جوبز لحظة مفصلية في التاريخ التقني، حين أعلن عن إطلاق منتج شركة أبل الثوري أيفون ١ [3]، الذي استحق -وفق إمكانيات ذلك الزمان- أن يُطلق عليه بجدارة لقب “الهاتف الذكي”. فقد جاء بتصميم فريد يعتمد على زر واحد فقط، بدلًا من لوحة المفاتيح التقليدية، وجمع بين الهاتف، والبريد الإلكتروني، ومتصفح الإنترنت في جهاز واحد، حافظ على اتصال المستخدم المستمر بالشبكة. وفي عام ٢٠٢٢ أُعيد تعريف ذكاء الآلة من خلال سام ألتمان ومنتجه الثوري أيضا Chat GPT [4]، الصديق الموسوعي الذي باستطاعته تقديم إجابة منظمة لكل سؤال! ولنا اليوم أن ندعي أن هذا حدود ذكاء الآلة “وفق إمكانيات هذا الوقت”. أما إمكانيات المستقبل فتحمل وعدًا بتشكيل منتج ثوري جديد، لا يكتفي بدمج التطبيقات، بل يسعى إلى دمج الإنسان ذاته بالتقنية، وهنا يبدأ الحديث عما يُعرف بالإنسان المعزز، الذي يأتي نتاجًا لتقنية واجهة التخاطب بين الدماغ والحاسوب، والتي تعرف في الأدبيات العلمية بمصطلح (Brain-Computer Interface) [5].
“الإنسان المعزز” هو إنسان لا تقتصر إمكانياته على ما جُبل عليه بيولوجيًا، بل تُعزَّز قدراته العقلية أو الجسدية عبر زرع رقائق إلكترونية متناهية الصغر داخل دماغه [6]. هذه الرقائق تتيح له اتصالًا دائمًا بالحواسيب، وشبكات الذكاء الاصطناعي، ليس بوصفها أدوات خارجية، بل امتدادات داخلية لعقله وإرادته.. هنا، لن يكون الذكاء الاصطناعي مجرد مساعد خارجي، بل شريكًا معرفيًا داخليًا، يفهم نواياك دون أن تنطق، ويستجيب لفكرك دون أن تحرّك ساكنًا! ولتبسيط مبدأ عمل هذه التقنية، فلنا أن ندرك أن الدماغ يُصدر إشارات كهربائية لتوجيه أعضاء الجسد نحو أفعال معينة.. فعندما تفكر -مثلًا- بكتابة كلمة، فإن الدماغ يرسل إشارة إلى يدك لتحركها نحو الحرف المطلوب على لوحة المفاتيح، ثم تنقر، فتتم الكتابة. ومن هذا المنطلق، فمهمة الشريحة المزروعة في دماغ الإنسان المعزز هو أن تلتقط هذه الإشارة الكهربائية من الدماغ مباشرة، وتقوم بالعمل دون أن تتحرك يدك! وهذا لا يقتصر على الكتابة فقط، بل يشمل مختلف أشكال التفاعل مع الأجهزة: من تحريك المؤشر، إلى فتح التطبيقات، إلى كتابة نصوص، وحتى ربما التحدث أو الإبداع، فقط بمحض التفكير!
قد يبدو هذا التصور ضربًا من الخيال العلمي، لكن الواقع اليوم يثبت عكس ذلك.. فالمختبرات تمتلئ بالتجارب، والسباق نحو الإنسان المعزز قد انطلق بالفعل، بل وأصبح ميدانًا للمنافسة التقنية بين ثلاثة من عمالقة العالم الرقمي، وهم: إيلون ماسك من جانب، من خلال مشروعه الثوري: نيورالينك (Neuralink)، وجيف بيزوس وبيل جيتس من الجانب الآخر، عبر استثمارهم في المشروع المنافس: سينكرون (Synchron). وبين هذين المشروعين، تتنافس الرؤى حول الشكل الأمثل لمستقبل الإنسان من خلال تحقيق التكامل بين الإنسان والآلة.
إيلون ماسك يُشعل شرارة السباق عبر نيورالينك:
من السيارات الكهربائية في “تسلا”، إلى الحلم الاستعماري في “سبيس إكس”، لطالما ارتبط اسم الملياردير الأمريكي إيلون ماسك بكل ما هو ثوري في عالم التقنية.. وفي عام ٢٠١٦، وسّع ماسك نطاق طموحه ليشمل أعقد ما في الإنسان: عقله! فقد أسّس شركته الجديدة نيورالينك، واضعًا نصب عينيه هدفًا طموحًا، وهو بناء جسر مباشر بين الدماغ البشري والحاسوب.. ولتحقيق ذلك، طوّر فريق الشركة شريحة إلكترونية متناهية الصغر تُزرع داخل الدماغ، مزوّدة بآلاف الأقطاب العصبية (إلكترودات)، التي تتصل بخيوط دقيقة للغاية -أدق من شعرة الإنسان- تقوم برصد الإشارات العصبية وتسجيلها.. ولضمان دقة الزرع وسلامة الدماغ، صممت الشركة روبوتًا جراحيًا متطورًا يقوم بزرع هذه الخيوط بحرفية عالية، دون إحداث ضرر في النسيج العصبي.. تعمل الشريحة لاحقًا على نقل الإشارات العصبية لاسلكيًا إلى أجهزة خارجية، مثل الحواسيب والهواتف الذكية، حيث تُفسّر وتُحوّل إلى أوامر قابلة للتنفيذ بمجرد التفكير [7].
في عام ٢٠١٧، بدأت نيورالينك أولى خطواتها الميدانية عبر تجارب زراعة الشريحة على عدد كبير من الحيوانات، بهدف اختبار كفاءتها ودقتها.. وفي عام ٢٠٢١، نُشر مقطع مصوّر مذهل يُظهر قردًا يُدعى: بيجر، تمت زراعة الشريحة في دماغه، وكان يستخدم أفكاره للعب لعبة إلكترونية، دون لمس أي أداة [8]! كانت هذه التجربة علامة فارقة على قدرة النظام على قراءة إشارات الدماغ وتفسيرها بدقة عالية.. وفي عام ٢٠٢٣، حصلت نيورالينك على ترخيص من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لبدء التجارب السريرية على البشر، وتحديدًا مع مرضى يعانون من شلل جزئي أو كلي.. وبحلول عام ٢٠٢٤، تم زرع أول شريحة في دماغ مريض بشري، في خطوة وصفت بأنها نقطة تحوّل في الطب العصبي والذكاء الاصطناعي.. وفي صيف هذا العام، عقدت الشركة مؤتمرًا دوليًا أعلنت فيه أن سبعة متطوعين قد خضعوا لعملية الزراعة بنجاح، مع خطط للتوسّع إلى متطوعين آخرين من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة.. وقد تخلل المؤتمر عرض مباشر لتجارب المتطوعين، حيث تحدّثوا عن كيفية تفاعلهم مع الشريحة وتأثيرها على حياتهم اليومية [9].
في كلمته بالمؤتمر، أشار ماسك وفريقه إلى الرؤية الأعمق للمشروع، التي تتجاوز العلاج الطبي إلى تعزيز قدرات الإنسان الطبيعية.. فالهدف النهائي هو ترجمة الأفكار إلى أفعال، وإيصال نشاط الدماغ إلى العالم الخارجي بسرعة تعادل سرعة التفكير ذاته. ورغم أن المشروع بدأ كمساعدة للأشخاص ذوي الإعاقات، فإن طموح ماسك يمتد إلى أبعد من ذلك: أن يكون الإنسان قادرًا على إخراج ما يدور في ذهنه دون الحاجة للغة أو كتابة أو أدوات، حيث يقوم الحاسوب بقراءة النشاط الدماغي مباشرة، وترجمته إلى نصوص أو أوامر، بسرعة وكفاءة تتجاوز كل ما هو متاح اليوم. كما أوضح ماسك أن الفجوة بين “ما نفكر فيه” و “ما نستطيع إخراجه” هي عائق أساسي في تواصل الإنسان وتطوره؛ ومع نيورالينك، فإن هذه الفجوة ستضيق.. فقد يصبح الإنسان قادرًا على نقل أفكاره إلى العالم كما هي، في اللحظة نفسها، دون الحاجة إلى أن يُمضي ساعات في كتابتها أو شرحها [10].
أمازون ومايكروسوفت تدخلان السباق التقني عبر سينكرون:
لم يطل الأمر حتى أدرك عمالقة التقنية الرقمية ضرورة خوض غمار سباق واجهات الدماغ والحاسوب.. فبعد إطلاق إيلون ماسك لشركته نيورالينك، قرر المليارديران جيف بيزوس وبيل غيتس الدخول في المنافسة من خلال استثمار كبير في شركة سينكرون، التي تُعد من أبرز منافسي نيورالينك.. وعلى خلاف نيورالينك، التي تعتمد على جراحة معقدة لزراعة شريحة مباشرة في الدماغ، تستخدم سينكرون تقنية أقل تدخلًا.. حيث يتم زرع جهازها -وهو عبارة عن دعامة معدنية دقيقة- عبر الأوعية الدموية باستخدام القسطرة، دون الحاجة لفتح الجمجمة.. وقد حصلت الشركة بالفعل على موافقة من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، بهدف استخدام التقنية لمساعدة مرضى الشلل على التواصل واستخدام الحاسوب بمجرد التفكير.
وفي عام ٢٠٢٣، أعلنت سينكرون عن نجاحها في زراعة الجهاز لدى ستة مشاركين في الولايات المتحدة، كما أعلنت الشركة عن التحضير لإطلاق تجربة سريرية موسعة، لتجربة الجهاز [11]. وفي أغسطس ٢٠٢٥، بثّت قناة ABC الأمريكية تقريرًا يظهر فيه أحد المرضى المصابين بمرض التصلب الجانبي الضموري وهو يتحكم بجهاز آيباد عبر التفكير فقط باستخدام جهاز سينكرون المزروع [12].
مستقبل مُبشِّر أم تهديد مقلق؟ الجدل حول خصوصية الأفكار!
رغم أن هذه التطورات تُعدّ إنجازات تقنية وطبية مثيرة للإعجاب، لكنها أثارت أيضًا موجة من الجدل والقلق [13]. فبينما يرى البعض أن هذه الابتكارات تُقدّم الأمل والعون للمصابين بالشلل أو لمن يعجزون عن التعبير من أصحاب الأفكار العظيمة، يخشى آخرون من أن تكون بداية لتعدٍّ خطير على خصوصية الأفكار.. ففي عصر أصبحت فيه البيانات سلعة ثمينة تستغلها الشركات لأغراض التسويق والتوجيه السلوكي، يُطرح تساؤل مقلق: ماذا لو أصبح بإمكان هذه الشركات الوصول إلى أفكارنا مباشرة؟ ليس مجرد ما نبحث عنه أو نكتبه، بل ما يدور في أذهاننا من دون أن ننطق به! في حال تطورت هذه التقنيات لتصبح متاحة على نطاق واسع، قد لا تعود هناك حاجة لتخمين ما يفكر به الناس عبر الخوارزميات، بل سيصبح من الممكن “قراءة” الأفكار مباشرة.. وهو ما يثير مخاوف حقيقية بشأن الاستغلال التجاري والسيطرة المجتمعية، بل وحتى التلاعب بالإرادة الفردية.. وأمام ذلك يبقى السؤال: هل نحن على أعتاب ثورة في تمكين الإنسان، أم بداية لفقدان السيطرة على أخصّ خصوصياتنا؟
فاصلة :
ماذا يمكن أن يحدث حين يصبح العقل مكشوفًا؟ هل سنفقد حينها المساحة الآمنة في داخلنا؟ أم هل سنُدان بالنوايا التي لم تكتمل أو الخواطر العابرة؟ وهل سيكون وضوح أفكارنا نعمة لنا، أم عبئًا علينا؟ وهل سيكون للصمت فضيلة حين لا نجد ما نقوله، أو ما لا نرغب بقوله؟ وهل سيكون للغة أمام ذلك معنى أو قصد، إن كانت الفكرة ستنتقل كما هي من عقلٍ إلى آخر؟ لا أعلم، لكني مجازًا “أُفكّرُ في صوتٍ مسموع”!
***
قيل لعبد الملك بن مروان: “أسرع إليك المشيب”.. قال: “فكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل أسبوع” – يعني الخطبة.
| [1] | Jillian Scharr, “The Drama of Quantum Physics Takes to the Stage,” NBC, 2013. |
| [2] | إبراهيم البليهي، “انتظام العلماء التلقائي يجعلهم يقاومون التغيير تلقائياً”، جريدة الرياض- العد 15546، 2011. |
| [3] | “iPhone 1 – Steve Jobs MacWorld keynote in 2007 – Full Presentation, 80 mins,” YouTube, [Online]. Available: https://www.youtube.com/watch?v=VQKMoT-6XSg&t=137s. |
| [4] | “Introducing ChatGPT,” Open AI, 30 11 2022. [Online]. Available: https://openai.com/index/chatgpt/. |
| [5] | “Designing Brain-Computer Interfaces That Connect Neurons to the Digital World,” Harvard Medicine magazine, 2024. |
| [6] | “الإنسان المعزز بالتكنولوجيا: مستقبل التطور البشري” إم آي تي تكنولوجي ريفيو، مارس ٢٠٢٢. |
| [7] | “Breakthrough technology for the brain,” Neuralink, 2025. [Online]. Available: https://neuralink.com/technology/. |
| [8] | Neuralink, “Monkey MindPong,” YouTube, 2021. [Online]. Available: https://www.youtube.com/watch?v=rsCul1sp4hQ. |
| [9] | Neuralink, “Neuralink Update, Summer 2025,” YouTube, 27 06 2025. [Online]. Available: https://www.youtube.com/watch?v=FASMejN_5gs. |
| [10] | Neura Pod – Neuralink, “Elon Musk explains the fundamental product Neuralink is building,” YouTube, 16 10 2025. [Online]. Available: https://www.youtube.com/watch?v=dLlIcfWwix0. |
| [11] | Marisa Taylor, “Exclusive: Synchron, a rival to Musk’s Neuralink, readies large-scale brain implant trial,” Reuters, 08 04 2024. [Online]. Available: https://www.reuters.com/business/healthcare-pharmaceuticals/synchron-rival-musks-neuralink-readies-large-scale-brain-implant-trial-2024-04-08/. |
| [12] | Mary Kekatos, “ALS patient is 1st to control iPad by thought with implantable brain sensor,” ABC News Network, 08 08 2025. [Online]. Available: https://abcnews.go.com/Health/als-patient-1st-control-ipad-thought-implantable-brain/story?id=124442283. |
| [13] | كيرديلان كريستين، أقوى من الدول: ٦ مليارديرات غيّروا وجه العالم، دار الساقي، ٢٠٢٥. |
*كاتب سعودي
التعليقات