الأكثر مشاهدة

بقلم: فهد أبو حميد*  في المؤلفات العربية التي تتناول نقد الشعر، تلوح لنا مسائل ن …

جناية النَّقْدِ.. بَينَ الطَّبْعِ والصَّنعَة

منذ يومين

18

0

بقلم: فهد أبو حميد* 

في المؤلفات العربية التي تتناول نقد الشعر، تلوح لنا مسائل نقدية عدة، بعضها تتردد أصداؤه منذ القرون الأولى لميلاد الشعريِّة العربية إلى يومنا هذا، والعجيب أنَّ من تلك المسائل ما بقي على مدى قرون محكم الانغلاق على زوايا التداول القديم للفكرة النقدية، دون أن تمسَّه نفحات التطوير والأنفاس الجانحة صوب مواكبة الأحقاب التي كان من الأحرى أن تترك سماتٍ نقدية قابلة للتجديد، وإعادة طرح الدراسة النقدية من منظور يتسم بالمرونة التي تسعف الشاعر والناقد في كل حقبة بما يلائمها.

إحدى تلك المسائل هي ما يتداوله بعض المعنيين بالنقد والأدب تحت مسمى (شعر الطبع وشعر الصنعة).

والحقيقة أنني سمعتُ كلامًا كثيرًا حول هذا الموضوع وقرأتُ قدر استطاعتي تحت ظلال الأمل، وأنا أرتقب رأيًا يثلج صدري حول هذه المسألة بالذات لكن ما من جدوى!

لن أتحدث في مقالي هذا عن تداول النقاد في الأحقاب الغابرة لهذه المسألة، لأن آراء أولئك النقاد مبثوثة في بطون كتبهم المتاحة لنا إلى يومنا هذا، لكنني سأتحدث عن المبدأ كما أراه رؤية شخصية ثم سأتطرق إلى الجدوى التي قد لا ينالها من يجتلب النظريات النقدية القديمة ويعاملها كأنها ثوابت راسخة لا تقبل النقاش وإعادة النظر.

بصراحة متناهية أقول إنني غير مقتنع أصلًا بتقسيم الشعر إلى طبع وصنعة فالشاعر (في رأيي الشخصي) إما أن يتجلى في نصه فيقول شعرًا جديرًا بهذه التسمية، مع اعترافي بتفاوت الشعراء في مدى إبداعهم وتفاوت إبداع الشاعر نفسه من قصيدة إلى أخرى، إما أن يخفق الشاعر فتخونه قريحته، عندها سيعض أصابع الندم إن أذاع بين الناس كلامًا فارغًا منظومًا على عجل لا لشيء إلا ليقال عنه إنه شاعر مطبوع لا يتكلف الشعر.

اعذرني أيها القارئ العزيز إذا قلتُ لك إنَّ  من تناقلوا (فكرة الطبع والصنعة في الشعر) على مدى قرون متعاقبة دون رويّة وتمحيص، إنما احتملوا أوزار هذه الفرية التي افتراها بعض النقاد على الشعراء؛ لأن من يتكلف الشعر (في رأيي الشخصي) ويبتذله هو من يلزم نفسه بالنظم على كل حال حتى ينال الإشادة بسجيته التي تروِّض الشِّعر كما يزعمون، وهي في الحقيقة لا تروِّض سوى الفراغ المسكوب في قوالب الخليل بن أحمد!

ثم إننا لو سلَّمنا للنقاد الأوائل وقَبِلْنا منهم هذه الأطروحة بصيغتها التي كانت ماثلة بها في تلك العصور، فإن ذلك لن يكون إلا تجاوبًا مع ما تمليه عليهم الظروف النقدية والثقافية السائدة في زمانهم، لكن ما بال من يتداولون مثل هذه النظريات النقدية القديمة في زماننا هذا دون أي محاولة لإعادة مقاربة الموضوع في حركةٍ نقدية أشَدَّ معاصرة، بحيث تمتلك زمام أدواتها النقدية المستقلة؟!

ثم ماذا عن تراثنا الشعري العربي الذي مَرَّ بمنعطفات إبداعية عدة على مدى خمسة عشر قرنًا، أليس جديرًا بفكر نقدي أكثر مرونة وقابلية للتطور المستمر؟!

الشاعر الحقيقي كما أراه هو (الشاعر المتأمِّل) (الكامن في صمته) إنه الشاعر الذي يعيذه الوعي من الثرثرة!

إن من يستشرفون فكرة الطبع والصنعة، لاسيما في زماننا هذا  يغفلون عن (قيمة التأمل) وأثرها البالغ في تجلّي النص الشعري والسمات الأسلوبية المتدفقة من تلك القيمة التأملية على العقيدة الشعرية التي يعتقدها الشاعر المتأمِّل،  وهو  يعلم علم يقين أن مبتغاه قريب منه، لكنه لا ينقاد إلا بعد تدبُّرٍ طويل لا تكلف فيه ولا صنعة، إنما هو عين الصلح مع الذات وحُسْنُ التوسُّل إليها بالفكرة العتيقة والقريحة المعتقة!

أمَّا أولئك الأشخاص الذين لا يعرفون معنى التأمل حق المعرفة، فهم من ينسبون ثمراته إلى قيمة أخرى هلامية الأبعاد يسمونها الصنعة، وربما هانت المسألة لو كانت مجرد مشاحَّة في الاصطلاح، غير أن القوم يذهبون في نقد تلك القيمة التي لا يحسنون حتى تسميتها، فكيف بهم إذا حاولوا إدراك ثمراتها فنراهم  يجنحون أحيانًا لتقديس ما يسمونه (شعرًا مطبوعًا) حتى أن بعض من يرى نفسه من شعراء هذا النوع من النظم يزعم أن القصيدة (ربما تداهمه) دون سابق إنذار، فأشعر أنَّ صديقي الشاعر الذي يتحدث عن الشعر بهذه الطريقة كأنما يتحدث عن (نزلة معوية) لا يتحدث عن ذلك الفن المهذَّب!

في (رأيي الشخصي) أن المسرفين في تداول فكرة الطبع والصنعة، لا سيما في زماننا هذا، لم يستوعبوا أن الفنون إجمالًا تكون في كثير من أحوالها شيئًا من (ودق الغرائز) فإذا ساورها التأمل عاد خيطًا رفيعًا منتظمًا ما بين (تهذيب الغريزة وشغبها المشوب بعنفوانها)، فالشاعر يعرف المقياس الدقيق الذي يقيس به المسافة بين لفظه ومعناه، لكنه يتعمد أن يترك للمتلقي هامشًا لتحريض الخيال في مشهد إبداعي تفاعلي بين المبدع وجمهوره.

 هذه هي الجدوى الفنية التي يعيها ذلك الشاعر وينال ثمراتها التي تأتي قصائد آسرة بجمالها حين يتحرر مبدعها من سطوة النظريات المقولبة ومصطلحاتها غير المنصفة.

*كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود