مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

إعداد: سلوى الأنصاري على موائده يجتمع الأدباء والشعراء كما يجتمع العشاق حول سر ل …

الليل.. واجهة الإلهام وضالة الأدباء

منذ يومين

79

1

إعداد: سلوى الأنصاري

على موائده يجتمع الأدباء والشعراء كما يجتمع العشاق حول سر لا يتحمله النهار.

في سكونه تتسع الروح، وفي ظلاله المتراقصة مع نسيم الهواء تنفض الكلمات غبارها، فتخرج نقية، دافئة، تتهامس مع القلم فتفتح أبواب البوح بعد طول صمت.

هو الساعة التي نصالح فيها ذواتنا، ونرتاح فيها من ضجيج النهار.. 

هو اللحظة التي ينحسر فيها صخب العالم كما تنحسر الأمواج عن شاطئ متعب بعد طول غياب، 

فيه نخلع أثقالنا كما يخلع المسافر رداء الغبار عند بوابة الوصول.

هكذا هو الليل، بهيبته الساكنة، ليس مجرد ساعات معتمة؛ بل هو وطن صغير لأحلام المبدع، ومعزوفة تلهم الشعراء، وصديق يفهم تفاصيل أروقة الأدباء.. 

يقول محمود درويش عنه: الليل جميل فيه الهدوء والسكينة ونقاء النفس والروح وتصفية الذهن وترتيب الأفكار.. 

ويقول كذلك: 

حتى النوم يُجيد الهرب عندما نحتاجه تمامًا كالآخرين.

فالليل عند درويش ليس مجرد غياب للنهار، بل مساحة للهدوء الداخلي والتأمل الصافي، حيث تزهر الأفكار وتتجدد الروح، رغم أن الغفوة قد تتأخر أحيانًا، تاركة الإنسان في مواجهة مع صمته الخاص، مكتشفًا في عتمته جمال السكون وعمق ذاته، ليهرول باحثًا عن قلمه قبل أن ينجلي الظلام.

وقد جاء في الشعر العربي قديمًا وحديثًا ما يؤكد مكانة الليل في حياة الأدباء.. يقول امرؤ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

ألا أيها الليل الطول ألا انجلي

بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ

فهو ليلٌ يثير الوجد، ويزيح أثقال القلب ليفرغها الشاعر نصًا ووجدانًا.. 

ليلٌ شبهه الشاعر بأمواج بحر عاتية تتلاطم بداخله..  فيقف أمام موجةٍ من التأمل، فتسدل الظلمة أستارها لتبتلي قلبه بأنواع الهموم فيناشده أن ينجلي… 

وقد مضى الشعراء بعد امرئ القيس يستنطقون الليل، فمنهم من جعله صديقًا، ومنهم من رآه خصمًا،

لكنهم جميعًا اتفقوا على أنه مرآة عميقة تكشف ما لا يراه النهار.

تنشد نازك الملائكة في قصيدتها أنا.. فتقول:

الليلُ يسألُ من أنا

أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرِّدُ

قنّعتُ كنهي بالسكونْ

ولفقتُ قلبي بالظنونْ

وبقيتُ ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرونْ

أنا من أكون؟ 

هكذا.. نرى أن الليل يصبح ملاذ الأدباء والشعراء، يصهرون به أفكارهم، ويهذبون به جملهم وقصائدهم، ويتتبعون معه خطى الإلهام كمن يتتبع ضوء نجم في السماء المظلمة.. 

ففيه نصغي إلى نبض أرواحنا بوضوح.. 

كأن السكون مرآة صافية نرى فيها ملامحنا الحقيقية بلا رتوش وبلا أقنعة.. 

كأن الظلمة حبر خفيف تكتب به الأرواح ما عجز القلم عن قوله في وضح النهار.

ولأن الليل يتجاوز كونه زمنًا ليغدو حالة شعورية كاملة، فقد كان له حضور واسع في الروايات العربية والعالمية، حضور جعل منه فضاءً تنضج فيه الأحداث وتتكشف فيه الأسرار.

كان الليل في ألف ليلة وليلة أكثر من زمن للسرد؛ كان روح الحكاية نفسها.. ففيه تجلس شهرزاد أمام شهريار، ينساب صوتها كنسيمٍ خفيف يداعب قسوة الملك، وتغدو ظلمة الليل ستارًا يُفتح خلفه عالمٌ مكتظ بالعجائب والغرائب.

كان الليل المعبر الذي تعبر منه الحكايات، وتظهر فيه الأرواح والشخصيات، وتتحول فيه المدن والوجوه والمصائر، كأنه نافذة مفتوحة على سحر لا يمسّه النهار.

في ليالي شهرزاد يتوهج الخيال كما تتوهج الفوانيس في الأزقة الشرقية، وتتحول ساعات الليل إلى مسرح واسع تتقاطع فيه الطرق، وتولد فيه القصص من رحم الخوف والدهشة.

وعند كل فجر، تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح، ليبقى الليل وحده شاهدًا على ذكائها، وصديقًا يمدّها بفرصة جديدة للحياة.

هكذا بدا الليل في ألف ليلة وليلة.. حضنًا للحكاية، وملاذًا للسحر، وزمانًا تتجلّى فيه الحيلة، وفضاءً لا يصحو إلا بقدر ما ينام النهار.. 

أما في “ثلاثية نجيب محفوظ”، يتكرر الليل كظل دائم لأبطال الأزقة.. 

فبين القصرين مثلًا، يصف محفوظ ليل القاهرة بكل ما فيه من أضواء خافتة وطرقات ضيقة وأحاديث هامسة… 

ونجد كمال عبد الجواد يراقب أحلامه ومخاوفه في عتمة الليل، كأن المدينة تتنفس وتئن في ظلمة لا يسمعها إلا الساهرون… 

كأن داخله معتم كعمق الليل، فحياته ليست سوى كذبة ممتدة، بنيانها التصريح بما لا يقتنع به، والتظاهر بسلوك لا ينتمي إلى قلبه.. 

حتى غدا يعيش بين صورتين:

صورة يعلنها للناس…

وأخرى يختبئ في عتمته ليله الخاص.

وفي “رجال في الشمس” لغسان كنفاني.. 

يظهر الليل كرمز للغموض والمحنة.. 

فالرحلة التي يخوضها الرجال الثلاثة تبدأ وتُخطط في ليل مكثف.. 

كأن الظلمة تحاصرهم قبل أن تحاصرهم شمس النهار، فكانت نهايتهم في ظلمة وسط النهار.

أما “ليلة القدر” للطاهر بن جلون.. 

فالليل فيها ليس مجرد زمن سردي.. 

بل باب للخلاص.. 

مساحة تتخفى فيها الشخصية من آلامها الطويلة،

وفي ظلامه تهرب من سطوة الواقع نحو أول خيط من النور وهي تردد: كنت أعرف أنني سوف أترك خلفي الحكايات المليئة بالغرابة». 

وفي الأدب العالمي، نجد في “البؤساء” لفيكتور هوغو.. أن الليل يأتي كغطاء ثقيل يلتف حول شوارع باريس القديمة، يغمر الأزقة بالظلال ويمحو صخب النهار، فيغدو الصمت رفيق الفقراء والمهملين.. هناك، في عتمة الليل، تتجلى المعاناة بكل وضوح، وتكشف قلوب البشر عن وجعها الخفي.. لكنه ليس مجرد ظلام ثقيل، بل هو أيضًا زمن للتأمل، حيث يجد جان فالجان وسواه من النفوس التائهة فسحة للتفكير، وإعادة ترتيب الذات، ومواجهة الضمير في هدوء بعيدًا عن صخب الحياة.. هكذا يتحول الليل في الرواية إلى مسرح مزدوج.. يختبر البشر بعتمته الحالكة، ويمنحهم في الوقت ذاته فرصة للصفاء الداخلي، كأن العتمة تصقل الأرواح قبل بزوغ الفجر..

هكذا.. يظل الليل في الروايات مسرحًا لما تخفيه الشمس.. 

فضاءً تتسلل فيه الحقائق، وتتكلم فيه الشخصيات بصدق أكبر.. 

كأن الظلام يمنحها الجرأة التي سلبها إياها الضوء.

فالليل —في الأدب كما في الحياة—

ليس لحظة سكون، بل لحظة كشف تلمع فيها الروح كما تلمع النجوم في سماءٍ لا يراها إلا من يجيد الإصغاء.. 

ويظل الليل في أحرف الأدب العربي وأبيات الشعر لغةً أخرى، لغة تصفو بها الأرواح، وتتكشف فيها المشاعر، وتولد من رحمها أجمل القصائد…

كأنما الحرف ابنٌ الظلمة.. 

لا يتوهج إلا حين تُطفأ الأنوار.. 

ففي الليل تتخفف الأرواح من أعبائها.. 

وتنطلق الكلمات من مخابئها كطيورٍ وجدت أخيرًا سماءً آمنة للتحليق، فيُولد الأدب والشعر على مهلٍ كما يولد الفجر من رحم العتمة…

التعليقات

  1. يقول مرام منصور:

    إبداااع إبداااع ، أن تكون تعاريف الليل في نص واحد مجتمعة ،يعطي الليل طابع أعمق وهويه جديدة ❤️👏🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود