الأكثر مشاهدة

بقلم: الحسن الكامح* تُمثّل نصوص الشاعرة خديجة إبراهيم الشهري، نافذة على تجربة شع …

بين نبض الطين ولجج الحزن.. قراءة لقصائد الشاعرة خديجة الشهري من ديوانها “مواسم تشتهي ظلها”

منذ يومين

50

0

بقلم: الحسن الكامح*

تُمثّل نصوص الشاعرة خديجة إبراهيم الشهري، نافذة على تجربة شعرية عميقة، تتسم بتداخل الرؤى الروحية مع الشجن الوجودي.. يرتكز جمال شعرها على أربعة محاور متكاملة: العمق الأدبي، الثراء البلاغي، الرصانة اللغوية، والتناغم الإيقاعي.

  1. التحليل العام والمحاور الأدبية

تدور نصوص الشاعرة حول ثنائيات درامية متناقضة: الحلم والواقع، اللقاء والفقد، اليقين والضياع.

  • نبض الطين (الوجود والمصير): 

يبدأ النص بوعد روحي يتم فيه الاتحاد والسمو (معًا ستكون كل الرؤى حُلمًا وآمالًا تزهر).. يشير استخدام مفردة “الطين” إلى الأصل البشري الفطري المشترك (نحكي حكايات الطين للطين).. تكمن المأساة في الخاتمة حيث يكون اللقاء ذاته سببًا لضياع الثبات الداخلي:

 “وبأنّا حين التقينا 

ضاع منّا اليقين…!”. 

هذا التناقض يرفع من قيمة التجربة لتصبح منارًا للتائهين.

  • لجج الحزن (الغرق في الألم): 

هو نص تشريحي لليأس، حيث يتجاوز الحزن حدود الشعور ليصبح “لجة” عميقة يغرق فيها الحالم.. تبرز فيه حالة الانسداد الزمني وتوقف الحياة، وصولًا إلى مرحلة الاستنكار والالتماس في مواجهة المصير.

  • صمت الأماكن وحلم (الومضات العابرة): 

يجسدان هشاشة اللحظة الدافئة وقسوة الواقع البارد.. ففي “حلم”، يترك الطيف العابر أثرًا حسيًا “بعض من عطر مسكوب”، كناية عن حقيقة الزيارة المؤقتة، بينما في “صمت الأماكن”، تُقيد إرادة الرحيل في مشهد جمود يائس.

  1. الثراء البلاغي والتجسيد الدرامي

تعتمد الشاعرة على التشخيص والاستعارة الكونية والمفارقة لخلق عمق درامي مكثف.

  • التشخيص العنيف: تُسند الحياة والإرادة إلى المفاهيم المجردة.. في “لجج الحزن”، يتحول الهم إلى كائن حي في صورة “عقرب الهم اللعين“. وفي “صمت الأماكن”، يُشخّص الزمان حيث “أرجف الوقت” في صمت.. وفي “نبض الطين”، يكتسب القدر كفًا “وكفْ القدر تشير” لتوكيد سلطته.
  • الاستعارة الكونية والمبالغة: لرفع المشاعر إلى آفاق واسعة.. في “لجج الحزن”، يتم تصوير الدموع بأنها “أودعت للبحر جرعاتٍ لقيعان الأنين”، وهي مبالغة تدمج الألم الفردي في نسيج الكون الواسع وتضخّم من أثره.
  • التناقض الدرامي (المفارقة): يبرز في نفي اليقين مقابل إثبات الهداية للآخرين (“ضاع منّا اليقين” مقابل “خطانا منار للتائهين”).. كما يظهر في “حلم” عبر المفارقة بين الغياب الكامل وبقايا العطر المسكوب التي تؤكد على صدق الحادثة.
  1. الرصانة اللغوية والبنية الصرفية

تتميز لغة الشهري بـ الجزالة والدلالة الوجودية، وتعتمد على صيغ صرفية ترسخ الشعور بالدوام والرسوخ.

  • المعجم الوجودي: يسيطر على المفردات الحقل الروحي (الوجد، اليقين، شجوني) والحقل المادي الأصلي (الطين، لجج، النبع)، ما يمنح النص ثقلًا تراثيًا ودلاليًا عميقًا.
  • صيغ الثبات (المصادر وأسماء الفاعل): تُستخدم المصادر لتوكيد كينونة المشاعر (مثل “مكوثًا” و “الوجد“) بدلًا من الأفعال العابرة.. ويتم الاعتماد على أسماء الفاعل (مثل “التائهين“، “العابرين“، “الواجفات“) لوصف حالة الشخص أو الشيء الثابتة والملازمة، بدلًا من فعلها اللحظي.
  • التركيب والأسلوب الإنشائي: يُستخدم التقديم والتأخير للتوكيد (“غريبان سنمضي“) لتركيز الاهتمام على الحال قبل الفعل.. ويُستغل الأسلوب الإنشائي في “لجج الحزن” (كالنداء والأمر: “هَبْ لأنفاسك ريحًا“) لرفع حدة الانفعال والالتماس.
  1. الإيقاع والجرس الصوتي

تعزز البنية الإيقاعية الإحساس بالتأمل والهدوء الدرامي.

تعتمد القصائد على إيقاع سيولة الجملة الشعرية (التدوير) التي تناسب تدفق الوجدان.

  • الانسجام الصوتي (الهمس والمدود): يغلب على النبرة استخدام المدود وحروف اللين (في “شجوني”، “تغنى”، “آمالا”)، ما يخلق إيقاعًا هامسًا وناعمًا يتناسب مع جو الحلم والذكرى الهادئة في “نبض الطين”.
  • التكرار للتوكيد: التكرار الإيقاعي لعبارة “معًا” في “نبض الطين” يرسخ شعور الوحدة والاشتراك، بينما يخلق التجانس اللفظي (الرؤى والمنى) نغمة داخلية متناغمة.

إن هذه العناصر مجتمعة تجعل من شعر الشاعرة خديجة الشهري تجربة قراءة غنية، حيث كل كلمة وكل تركيب يخدم العمق الوجداني لتصوير لحظة الحب المشتهاة ومأساة اليقين المفقود.

ختامًا: 

يتضح أن شعر خديجة الشهري، كما تجسد في نصوص “مواسم تشتهي ظلها”، ليس سجلًا عاطفيًا وكفى، بل هو بناء فني متماسك يستلهم الجمال من صراع الإنسان مع مصيره. لقد نجحت الشاعرة ببراعة في تسخير كل أدوات اللغة؛ فجعلت من الجزالة اللغوية وعمق الصيغ الصرفية مرساة تُثبّت المشاعر المتدفقة، ومن التشخيص العنيف والاستعارة الكونية جسرًا يعبر بالعاطفة الفردية إلى آفاق الوجود المشترك.

إن هذه الرحلة النقدية عبر دلالات “الطين” و”لجج الحزن” و”بقايا الحلم” تؤكد أن الشاعرة تمتلك صوتاً شعرياً أصيلاً ومؤثراً. فبواسطة التناقض الدرامي في فقدان اليقين، والإيقاع الهامس الذي يرافق الذكرى، تترك الشاعرة خديجة الشهري بصمتها الخاصة؛ بصمة تجمع بين القوة والشفافية، وتجعل من كل نص لديها، رغم مرارة الفراق، منارًا فنيًا يضيء لتائهي الوجد.

*شاعر من المغرب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود