مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د.عصام العسيري* رعت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها النشاط الوطني الإبداعي …

“فن” في أقل من قرن

منذ 3 سنوات

474

1

د.عصام العسيري*

رعت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها النشاط الوطني الإبداعي من الحرف، والفنون، والعلوم، والصناعات والتجارة، وشمل ذلك مجالات الفنون التشكيلية في نجد والأحساء والحجاز، واستمرت هذه الرعاية منذ تأسيس الدولة إلى الآن، رافق الملك عبد العزيز مؤسس الدولة الثالثة وموحّد قبائل وعشائر وأسر وأفراد ينتشرون في رقعة جغرافية مترامية الأطراف تزيد عن ٢ مليون كيلو، ضمن رجاله الأوائل الذين اعتمد عليهم في تكوين مملكته مجموعة مواهب وأفذاذ، منهم الفنانون التشكيليون بمختلف مجالاتهم المتاحة آنذاك في الثقافة البصرية في الجزيرة العربية بداية القرن العشرين الميلادي، كان منهم على سبيل المثال: عبد الله العلي الزامل، إبراهيم السويدان، عبد الفتاح مدني، محمد طاهر كردي والذي خط بيده ونسخ أول مصحف مطبوع في مكة المكرمة 1369هـ، وكان عليه إقبال وانتشار محلي وعالمي واسع في بداية تكوين الدولة السعودية الحديثة في عهد الملك عبد العزيز وطيلة حكم الملك سعود. 

كما اهتم الملك عبد العزيز -رحمة الله عليه- بفطنته بالتجار وأصحاب رؤوس الأموال وأدرك دور القطاع الخاص والمواطن في التنمية؛ لذا سعى للحفاظ وتطوير المهن والحرف وأمّن التجّار والبضائع، ودعم استخدام الصناعات ووسائل الاتصال والنقل الحديثة، وأسس التعليم النظامي ونشره في كل المدن والقرى الذي أولاه -رحمة الله عليه- وسلسلة أبنائه الملوك الستة سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله -رحمهم الله-، وخادم الحرمين الملك سلمان أطال الله عمره ومدّه بموفور الصحة والتوفيق، وكل من ملوك المملكة ووزراء التعليم أضاف لبنة في تطوير الحركة التعليمية والتنموية والتشكيلية للمواطن والمواطنة السعوديين. 

نشأت الحركة التشكيلية السعودية الحديثة والمعاصرة تقريبًا باعتماد تدريس مادة الخط العربي والرسم والأشغال اليدوية، ثم التربية الفنية النظامية في 1377هـ، لعل من أهم ملامح تلك الفترة رعاية ملك البلاد الملك سعود ومدير المعارف الأمير فهد بن عبد العزيز بالتعليم والإنسان، فقد افتتحا معرض التربية الفنية والذي شاركت فيه عدة مدارس داخل المملكة في مبنى المعارف عند افتتاحه عام 1958م، ثم عملت المديرية دورات للمعلمين في أصول تعليم فن الرسم بدار التوحيد بالطائف صيف 1382هـ، افتتح الملك فيصل بقصر نجمة في الطائف المعرض الثاني في تاريخ المملكة، وكان لأعمال معلمي التربية الفنية، ثم أسسوا معهد التربية الفنية بالرياض عام 1385هـ والذي يُعد النواة الأولى لتأسيس الحركة التشكيلية والبصرية والمسرحية السعودية الحالية. 

استقطبت المملكة العربية السعودية في ستينات القرن الميلادي المنصرم العديد من الفنانين والأساتذة المرموقين في كليات الفنون الجميلة من العراق مثل سعدي الكعبي، سلمان الدليمي، عامر العبيدي، خيري العاني، شاكر حسن آل سعيد معلمينَ في معهد التربية الفنية بالرياض، وفي السبعينات استقطبت الدكتور محمود البسيوني، ولطفي زكي، وعبد الرحمن النشار، ومحمود الشال، والعديد من الأساتذة المهمين والمميزين للتدريس في أقسام التربية الفنية بجامعتي الملك سعود وأم القرى وكليات المعلمين.  

من أبرز ملامح تلك الفترة ابتعاث الدولة -رعاها الله- بعض طلاب الدفعات الأولى ليتعلموا الفن في إيطاليا وانجلترا وأمريكا ومصر وكان من أبرزهم عبد الحليم رضوي، محمد السليم، علي الرزيزا، بكر شيخون، محمد الأعجم، عبد العزيز الحمّاد، ومنهم من درس على نفقة عائلته مثل ضياء عزيز، عبد الجبار اليحيى، عبد الله الشيخ، صفية بن زقر، منيرة موصلي ثم تلاهم مجموعات، وابتعاث أساتذة لدرجة الدكتوراة أولهم د. أحمد عبد الرحمن الغامدي 1987، علي يحيى الزهراني، محمد الرصيص، محمد الضويحي، حمزة باجودة، يوسف العمود، صالح الرزيزا، سالم العيد، بدر الرويس، أحمد فيرق، عبد الله فتيني ومن تلاهم للتدريس في الجامعات. 

تلك الدفعات وغيرها من الموهوبين مثل صفية بن زقر، منيرة موصلي، محمد الطويان، سعد العبيد، فوزية عبد اللطيف، محمد الرصيص، خليل حسن خليل، هشام بنجابي، طه صبان، ونبيلة البسام، إبراهيم الفصام، كمال المعلم، عبد الله الشلتي، عبد الله حماس، فيصل مشاري، يوسف جاها، عبد الله نواوي، سمير الدهام، عبد العزيز الناجم وغيرهم هم الرعيل الأول الذي أسس الحركة التشكيلية والمسرحية والتمثيلية والتلفزيونية والديكورية، واستحدثوا لنا الصالات والجماعات الفنية، ومهدوا لنا الصحف والمعارض الداخلية والخارجية والتي شملت أشكال الفنون التشكيلية كافة من رسم، تلوين، نحت، خط عربي، تصوير فوتوغرافي.

في الحقيقة كانت رعاية الدولة السعودية بمؤسساتها لهذه الأنشطة الفنية الإبداعية، من خلال تأسيس الرئاسة العامة لرعاية الشباب، وكان رئيسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، وهو أمير الريشة، والقلم، والكلمة، والفن والذوق أطال الله بقاءه، رعت هذه المؤسسة العظيمة الرياضة والشباب والملاعب والهوايات، وكان دور الأندية أوسع من نشاطها الحالي، فكانت لوحاتها تشمل (نادي …. رياضي، ثقافي، اجتماعي) لذا رعت الأندية الرياضية مجموعات كبيرة في الفنانين ومعارضهم الجماعية، وكان بدعم مباشر من سمو الأمير فيصل بن فهد- رحمه الله-، وتأسست جمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية والمسارح. 

فوقما رعت وزارة التعليم، ورئاسة رعاية الشباب للفنون التشكيلية، رعت وزارة الإعلام المسموع والمرئي والمقروء، ولم تتوانَ الإذاعة والتلفزيون والجرائد السعودية في كل المناطق من دعم التشكيليين، جهود ضخمة تُذكر فتشكر في تغطية أخبار المعارض التشكيلية، وتبنت المواهب الواعدة وشرحت تجارب الفنانين التشكيليين العظام، لعل أكثر ما نحتاج الثناء عليهم والدعاء لهم، هو مجهود الأستاذ عبد الجبار اليحيا ومنيرة موصلي -رحمهما الله- اللذين أسسا الصحافة التشكيلية، فقد شملت مقالاتهما الأولى منذ منتصف الستينات وبداية السبعينات الميلادية بجريدة المدينة المنورة، ومن أتى بعدهما مثل الأستاذ القدير سمير الدهام الذي أسس الملحق الثقافي بجريدة الجزيرة وكتب مقالات عن الفنون التشكيلية، وترجمات لمقالات نقدية، وكاريكاتير ولوحة وقصيدة ومشاركات رسوم القراء ومساهمتها في التخطيط والإشراف على معارض محلية ودولية. 

استمرت تلك الرعايات السخيّة الحكومية ومن المسؤولين والقادة وحكام البلاد -رحمهم الله- لتسع عقود متواصلة منذ التأسيس، واليوم عبر خطط الدولة الخمسية ورؤية السعودية 2030م، وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -متعه الله بموفور الصحة والسلامة وأيده بنصر وتوفيق من عنده- ازدهرت الفنون البصرية في المملكة العربية السعودية، بشكل متسارع فانتشرت صالات العرض الجميلة والراقية من جدة والرياض والشرقية لتغطي حاليًا معظم مدن ومحافظات المملكة المترامية الأطراف، ومنها صالة عالمية ضخمة بجدة، شارفت على البدء قريبًا، وتأسست في عقود قصيرة جماعات تشكيلية في المدينة المنورة والرياض وجازان، لتصبح الآن في كل مدينة سعودية جماعات تشكيلية، تضم مواهب في مجال معين في الفنون البصرية، من فنون طبيعية، وتأثيرية، وخيالية، وتجريدية، وحروفية، ونحتية، وتركيبية، ومفاهيمية وجماهيرية ورقمية و…الخ، معاضدة ودعم الأمير فيصل بن محمد للجمعية السعودية للفنون التشكيلية، وانتقل الفنان التشكيلي السعودي بريشته وقماشه ولونه، ونحته، وصورته وفلمه من الصالات المحلية بفضل الله ثم بتلك الرعايات الحانية للصالات الإقليمية، والآن هناك حضور عالمي لافت للفن السعودي في الخارج، ولعل حضور أكبر بيوت المزادات العالمية كسوثبي وكريستي، والمعارض الفنية للداخل السعودي ما هو إلا ترابط دولي راقي، سينعكس لاحقًا على طبيعة ونوعية إنتاجنا الإبداعي المستقبلي. 

يمكن ملاحظة هذا النمو والازدهار الفني، من خلال الإنتاج الإبداعي الضخم كمًّا ونوعًا، والمتنوع محتوىً وشكلا، للفنانين والفنانات السعوديين في مجالات الفنون المرئية من رسم ونحت في مراسمهم وصالات العرض المنتشرة في معظم المدن، وفي حسابات الفنانين على وسائل التواصل الاجتماعية، كما يمكن ملاحظته في كمية ونوعية المبادرات الحكومية وشبه الحكومية التي تسعى لاستقطاب واستثمار الطاقات الفنية الإبداعية في سواعد أبناء الوطن، هذا نلمسه في مشاريع مركز الملك عبد العزيز الثقافي “إثراء”، ومشاريع “مسك” الفنية في ظل دعم مباشر لسمو ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان معشوق الفنانين وكل المواطنين، ومؤخرًا تم تأسيس هيأة الفنون البصرية والتي من شأنها تطوير الحركة الفنية التشكيلية ونقلها لعدة خطوات للأمام، والرقي بها لعدة مستويات للأعلى، كما نعيش اليوم في بينالي الدرعية للفن العالمي المعاصر 2022م. 

وفي مناسبة ذكرى الأيام الوطنية والمناسبات الشعبية السعيدة يعيش الفنانون هذا العرس التشكيلي والمجتمعي الفاخر، وانتقالنا وتطورنا المذهل من الفنون الشعبية البسيطة للفنون البصرية المعاصرة والمتقدمة تكنولوجيا، ومع هذه التغييرات والقفزات التي تسير لصالح الإنسان السعودي وتنميته من الداخل فنياً وذوقيًا وجماليًا وثقافيًا وإبداعيًا، هي تنمية إنسانية وحضارية استثمارية استمرارية بالأساس، أرجو أن يحضر في أذهاننا كوننا فنانين ومبدعين تاريخ ثقافتنا البصرية وتراثنا الفني في إنتاجنا الإبداعي والجمالي القادم، ذلك التراث البصري الضخم الذي يضرب بجذوره عمق التاريخ، ويشترك عضويًا مع أهم حضارات أثّرت في العالم، في مصر والعراق واليونان والهند، لعل تطوير هذا التراث الإنساني البصري مسألة ملحّة حاليًا، خصوصًا ونحن كوننا فنانين، رسامين، خطاطين، ومصممين، ومهندسين سعوديين تشغلنا هموم الإنتاج والتطوير والمساهمة في اقتصاديات المعرفة وشكل حياة المستقبل المعتمدة على الإبداع الثقافي الفني البصري والتصميم الصناعي والتجاري، تلك المساهمات الجمالية التي تزيد المزايا التنافسية أسأل الله أن ينفع بها البلاد في خطط ومشاريع رؤية السعودية 2030 الرامية لمجتمع فني تصميمي هندسي حيوي واقتصاد متنوع مزدهر، وطن يتنفّس الطموح والإبداع النافع الجموح.

*فنان وناقد تشكيلي 

التعليقات

  1. يقول Fatimah Al-Sharif:

    مقال علمي زاخر حقائق ومعلومات الحركة التشكيلية قديما وحديث… شكرا دكتورنا على هذا العطاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود